من تفاصيل الحرب
يمنات
ندى القاسمي
لا أحد يعرف ما يدور في تفاصيل هذه الحرب سوى من عاشها فعلًا، من تذوق مرارتها وشاهد موتها يتردد لمرات ومرات، لا أحد يعي معنى الحرب وتأثيراتها غير ضحاياها الذين عاشوها بالفعل، ربما في ثنايا حكايتي هذه لن تصدقوا ما مررت به..! ربما ستضحكون ايضًا في نهايتها.. لكنكم مع هذا كله ستعرفون حقًا ماهي الحرب في خيالات الناس وذكرياتهم. الحرب المحفورة كبقع سوداء من الخوف والرعب وخيالات الموت المتردد كل يوم..!
بطبيعة حياتنا نعيش في صنعاء بمنزل قريب من وزارة الداخلية، الوزارة الكبيرة والمترامية الأطراف، نعيش كباقي الناس مستوري الحال، مع بعضنا نقضي الأيام والسنين، أبي وأمي وأخوتي وأنا، نذهب ونأتي ونعيش كالجميع، حتى إندلعت هده الحرب في تاريخها المشؤوم ذاك، ليلتها إشتعلت المدينة وأضاءت السماء وعم الخراب وإنقبضت القلوب وشاعت الأخبار المخيفة، مرت سنوات طويلة من الحرب، عشناها بتفاصيلها كلها، كنا فيها نعاني ونكابر ونبقى في بيوتنا، نواجه القصف والطيران والموت العابر إلينا من جدران المباني الحكومية..!
في إحدى ليالي الحرب تلك، لم يكن والدي حاضرًا معنا، كان قد سافر خارج صنعاء، وكعادة أخي الكبير يقضي الليل خارج المنزل برفقة أصدقاءه في الأنحاء القريبة، كانت الساعة يومها قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، كنت قد أطفأت الأضواء في غرفتي وذهبت للنوم، ذهبت بعيدًا مع العدم والأحلام.. الاحلام المنسوجة مع القليل من الأمان المؤقت..!
في لحظة من الزمن، كانت الأرض حولي تهتز والزجاج يتطاير والسواد بتداخل بالغبار، كانت غرفتي قاتمة وخانقة، ربما قامت القيامة..! ياربااااه أين انا..؟! هذا ليس حلمًًا، ليس كابوسًا، هذا موت ودمار وحرب تقتلنا، قفزت على قدماي وخيالي يتردد في رأسي عن أمي وأشقائي، هم بالغرفة الاسفل..
هل ماتوا؟!
يااااارب.. احميهم يارب..
كانت شظايا الزجاج تملئ المكان، والغبار يكمل الظلام، والرعب في داخلي يمنع الكلام، أمسكت بباب غرفتي لأحاول الخروج من الكابوس، لأهرب صوب أمي وأخوتي، حاولت فتح الباب بينما أصرخ واصيح أمي وأخوتي..
يااااااااامااااااه، اكرم..!!! يارضاء..!!!
الباب لا ينفتح، وأمي لا تجيب، ربما قد ماتت مع أشقائي، أزيد في الصراخ، انادي اقوى بأسمأهم بينما أبكي وأنتحب…!
كان هذا الكون يردد الصراخ معي، يبكي وينتحي كأنه ممنوع من النجاة،، كان كل شيء في هذا العالم يحاول تخليصي، لكنني لا استطيع، أشد الباب أكثر، أشده بقوة الموت وخوف إنقطاع المصير، كنت أتخيل أمي وأشد الحياة كلها بيدي لفتح الباب، لكنني لم أتمكن من ذلك، التفت نحو النافذة، أجري ببقايا روحي إليها، أطل برأسي من بقاياها المحطمة، أشاهد الموت والحرب والدمار من النافذة، أشاهد القتامة والخوف والقيامة من فتحة نافذتي المطلة على ساحة القيامة، رأيت مبنى داخل الوزارة من أربعة أدوار ملقيًا على الأرض..
كان القصف قد قضى عليه، وفي الناحية الأخرى كان البشر يهربون، ينقدون أنفسهم من هوّل القيامة، من هوّل هذا الموت والدمار، أطل براسي مجددًا باتجاه غرفة امي وأخوتي، لا شيء فيها، كان الدمار قد شملها، ربما أنهم تحت الانقاض..!!!
صرخت بأشد ما يمكن للمفجوع أن ييصيح وينتحب في الفضاء، أمااااااااااااااه وشهقة الموت الاخيرة الى الى داخلي..
لا يمكنني فعل شيء سوى البكاء، ماهذا يالله؟! ماذا جنينا ليصنع بنا هذا..؟!
أمااااه أمااااه، القيت بجسدي على الارض وأستسلمت لمصيري في الفاجعة، جلست على قاع غرفتي ملتحفة نفسي وخيالاتي وشهقاتي لابكي النهاية، كانت حياتي عندها تتلخص في سنوات قد إنتهت من عمرها وساعة واحدة قامت فيها القيامة وإنتهى كل شيء منها..
مر الوقت وتجمع الناس وبدأت أصوات المنقذين ترتفع، جاء الناس لإنقاذ الضحايا وأخراج ما يمكن اخراجه، عاد لي بعض الامل والقوة، رفعت رأسي قليلًا صوب النافذة وصرخت للناس المحتشدين بأخر أصوات النجاة.. كنت اقول: أفتحوا لي الباب، أنا هانا لو سمحتم أخرجوني. صعدوا اليّ وفتحوا الباب وأخرجوني ثم غادروا..!
بقيت في المنزل أبحت عن أمي واخوتي، ربما عن جثثهم اذا ماتوا، لا شيء في المنزل، لا أحد، لم يكن هناك سواي، كان الأمر غريبًا، أين ذهب الجميع؟!!
لماذا أنا هنا بمفردي..؟! عصفت بي التساؤلات والخيالات والصدمات، بقيت في مكاني إستمع لأصوات البشر ينقذون الأخرين ويرفعون الدمار..!
بعد ساعة زمنية طويلة من الحرب والظلام ظهرت أمي، كانت كمن يعود من يوم الحساب، عادت كـ ملاك أخير جاء ينقذنا من الخوف، وصلت سريعًا واحتضنتني، كانت تتمالك نفسها أمامي، لكنها لحظات من الصعب تحملها، لحظات اللقاء بعد لحظات قصيرة من يأس الفراق، عادت أمي وعادت حياتي معها وبدأت بحضنها ألملم شتاتي ودماري.
ماذا حدث هنا؟! أين كنت يا أمي؟! من الذي مات؟! بل من بقي على قيد الحياة..؟!
إبتسمت أمي وقالت عندما جاء الطيران وبدأ القصف فررنا من المنزل، فررنا من شدة القصف والتحليق، أخذت إخوتك وهربت الى بيت أختك في الحارة الأخرى.. وفي الطريق تذكرت أنك نائمة في غرفتك، قررت العودة، لااا كيف أعود وهذا القصف شديد، وهولاء الصغار أين أتركهم..! قررت المضي في الطريق، كنت اهرب وانا اهذي بالدعاء من قلبي إليك، ياااارب ياارب إحفظها يااارب، يااارب..
كانت روحي تنقبض وتعود وفي غمرتها أقسم على نفسي لن أسامح نفسي لو حدث مكروه لك، كانت الصواريخ تسقط على قلبي ومعها اتخيلهم يقتلونك أنت، أفز من مكاني للخروج اليك، يمنعني الجميع، دعيها سيحفظها الله، كنت أتهجد بالتضرع لله، كنت انذر كل شيء في حياتي لله مقابل نجاتك يا أبنتي..
الله ياماه كيف نسيتيني كيف..؟!
ضحكت أمي وهي تذرف دموع الفرح بالنجاة….!
هذه ساعة واحدة من ليالي الحرب في حياتنا، ساعة واحدة فقط، لكنها الف عام من الذكريات والأحزان والرعب المتراكم في قلوبنا وعقولنا، أنتم لا تعلمون باقي الساعات الألف ماحدث فيها لكل هؤلاء البشر في الوطن، ربما ستأتي الأيام ليخبركم الشعب ما حدث له فيها..!
من حائط الكاتبة على الفيسبوك