العرض في الرئيسةفضاء حر

ضبطني متلبّساً

يمنات

أحمد سيف حاشد

كان ديوان مجلسي يكتظ بالرفاق والثوار والأصدقاء والمظلومين والباحثين عن امل، بل وأيضاً بالمخبرين والانتهازيين والوصوليين.. كان نموذجاً لمجتمع مصغر بعلّاته وتناقضاته.. لا أرد من بابه أحداً إلا لضرورة او انشغال.. كثيرون مروا منه وزراء ومسؤولون ومُحبطون، فيما بعضهم ذهب إلى السجن، وبعضهم تشرد أو عانى الأمرّين، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر.

اسماه أحدهم بـ “دار الأمة”، وآخر وصف المقيل فيه بالمسيرة المصغرة بسبب الاكتظاظ حالما كنّا نجتمع أو نلتقي فيه، أو ننطلق منه أحياناً للتظاهر، فيما ارتاده كثير من “الأنصار” الحوutن حالما كانت المظالم تثقل كواهلهم، واليوم سماه بعض قياديهم وأتباعهم بـ “ديوان الطابور الخامس”، رغم أننا لم نعد نلتقي فيه إلا نادراً.. تصحُّر مجلسك أو ندرة اللقاء فيه ربما يعني للسلطة الخائفة نجاح فرض العزلة عليك، وتأكيد معاقبتك، ومنح السلطة المتوجسة مزيداً من السكينة والدعة والأمان.

***

بين العام 2012 – 2013 كان أكثر مرتاديه من جرحى فبراير الذين رفضت السلطة علاجهم، أو تم اهمالهم حتّى تعفنت جراحهم، وأكلت الجراح أعضاءهم، أو جعلتهم ذوي إعاقات وعاهات دائمة، تستمر معهم إلى آخر العمر، إن لم تضع تلك العاهات حداً لحياتهم قبل ذلك الأوان.

جلس إلى جانبي أحد الجرحى المسكونين بالعوز.. يبدو أنه كان مُعدماً، أو أن قدرته على شراء القات كانت صعبة أو مستحيلة إلا في حدود الضرورة أو الاضطرار.. كان واضحاً أن الطفر يأكل عينيه الغائرتين، وعظام وجهه تكاد تتعرّى من جلدها، وتقفز عظام وجنتيه من وجهه، فيما ملابسه وجسمه النحيل تحكي جانباً آخر من شدّة حاجته وفاقته، ومعاناته اليومية الثقيلة.

تركتُ قاتي على الجانب الأيسر بمحاذاة المتكأ، وخرجتُ عن وعيي في لحظة غامرة، ومددتُ يدي إلى علاقية قات ذلك الجريح الموجوع الموجود في يميني .. مددتُ يدي إلى كيس قاته، وأخذتُ بعض وريقاته، وبصورة يبدو أنها كانت مفاجئة لصاحبها، وجالبة لذهوله.. ثم كررتها مرة ثانية، وعلى نحو يبدو أنه رآها مستفزة وتفوق تحمّله، لظنّه فجاجة لا تخلو من استهتار، وعدم مبالاة بالغة ستكلّفه قاته ومقيله.

تكرار فعلي، وهبش وريقات قاته أكثر من المرة السابقة، كان أمراً أكثر استفزازاً، غير أنه حاول في البداية كظم غيظه، وكبح ردّة فعله، وفضّل أن يبعد علاقية قاته قليلاً عنّي نحو جهته، غير أنني مددت يدي مداً، وسحبت علاقية قاته إلى جهتي لظنّي أنه قاتي، وغرزتُ يدي كغراف “الشيول” داخل الكيس؛ لأهبش وريقات أكثر، فيما كان قاته قليلاً وحزين وشاحب مثل وجه صاحبه، لا يحتمل غرافاً، أو حتى “ملعقة”.. ربما كانت أصابع صاحبه النحيلة تتعامل مع وريقاته كملقاط بطول بال وعلى مهل، حتى يطول به البقاء إلى أخر نفس مقاومة، و بأطول قدر ممكن من الوقت.

لم يتحمّل صاحبنا الغلطة الثالثة، حيث سرعان ما تحرر من حيائه وحرجه، وقبض على يدي كما يقبض أحد رجال “الجندرمة” على لص هارب من وجه عدالة لطالما بحثت عنه، ولطالما هو تجشم عقوبات جمّة بسبب إخفاقه وفشله والإفلات منه.. قبض على يدي كفك سمكة، قبل أن تخرج يدي من علاقية قاته.

يده النحيلة وأصابعه الأنحل وهي تقبض على يدي أحسست بها وكأنها قبضة من فولاذ.. لم أكن أعرف أن هذه اليد النحيلة لذلك الجسد النحيل والمنهك تستجمع كل هذه القوة الجريئة.. لحظتها لم أدرك حقيقة ما حدث، ولا سبب القبض على يدي إلا حالما قال:
– هذا قاتي بثلاثمائة ريال.. سامحتك بالأولى والثانية .. أين قاتك؟!!
عندها أدركتُ أن ما فعلته ليس قليلاً، وخصوصاً عندما لمحت أن قاته كان قليلاً ويثير حزن من يراه، ولا يتحمل أي تهور أو فتك.. هبشة واحدة تستحق قطع يدي من الكتف.

تفهمتُ مشاعر “الضحية” الجريح.. سحبت يدي من علاقية قاته ببطء، وقد أخليتها من القات، بعد أن خفّت قبضة يده، وبعد أن أوصل رسالته في وجهي كقذيفة: هذا قاتي… أين قاتك؟؟

الواقع أن الموقف كان مربكاً، قطعته قهقهتي العفوية، التي رفعتَ عنّي كل حرج ومأخذ، وخصوصاً بعد أن وجدت قاتي في الجانب الآخر يبحث عنّي بعد شرود وغفلة عنه عشتها لدقائق، وكان للضحية الحسنة بعشر أمثالها.

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى