فضاء حر

أمتع خميس خريفي بضيافة أكرم الناس

يمنات

عبدالوهاب قطران

صباح اليوم انطلقت بسيارتي أنا وعائلتي المصغرة إلى ريف وضواحي صنعاء همدان ربع بني مكرم، نزلنا قرية الغرزة والحناجر بهمدان، بعد إلحاح شديد من أصحابنا وأصدقاء والدي وعمي منذ خمسين سنة، ثم تعززت الصداقة بالنسب بيننا وبينهم قبل ثلاث سنوات…

ما أجمل ريفنا بهمدان بعلان، والخريف سيما بعد نزول الأمطار التي عم خيرها قبل أيام عموم اليمن..

أجواء خلابة، هواء منعش، الأرض اخضرت وربَت، وتغتسل بمطر الخريف منذ ثلاثة أيام، أعادت للحياة الروح، وللريف العذوبة والرقة والبهاء والجمال، وللقلوب العطشى التي كان قد أصابها اليأس والقنوط، السكينة والأمل والفرح والإشراق والسعادة..

شاهدنا على الطرقات من مذبح إلى شملان وظلاع همدان وطريق سوق الربوع وعلى امتداد خط صنعاء همدان شبام، الحياة تعج بالحياة، والناس والأسواق مزدحمة وكل أنواع الفاكهة الخريفية تملأ السوق بأسعار زهيدة، تفاح، عنب رازقي يلمع مثل الذهب، وعنب أسود، وعنب عاصمي، وجوافة وفراولة، وفاكهة الرمان نزلت الأسواق طازجة، وبأسعار رخيصة حد البلاش: ٤ كيلو بألف ريال فقط…

السماء ملبدة بالغيوم، الشوارع مغتسلة بالأمطار، مسترخية كعروس لازال شعرها مبللًا بعد ليلة دخلتها!

تجاوزنا سوق الربوع، وعلى ضفتي الخط الأسفلتي شاهدنا المزارع خضراء راوية منتعشة نشوى، وزهرة البطاطا تتراقص وتعزف سمفونية الخريف وتغني للأمطار وتشدو بفرح، وكأنها تريد أن تحلق وتطير من أوساط الحقول نحو السماء..

عرجنا من خط شبام يمينًا جهة الخط الأسفلتي لفرع قرية “الغرزة”، ثم اتجهنا جهة الشمال الغربي وأمامنا بدت قرية “الغرزة”. لفت نظري اسم القرية!

تساءلت بنفسي: لماذا سميت الغرزة؟

حسب مفهومي وقراءتي الأدبية لأدب نجيب محفوظ بالذات، يتبادر إلى ذهني أن الغرزة هي مكان للتصوف والعبادة، مكان منخفض يقصده أهل الطريقة المتصوفة لأداء طقوس عبادتهم وخلواتهم برب العباد..

واصلنا السير بالخط الدائري المتعرج الذي يلتف على القرية التي بدت رابضة أعلى حصن حصين أعلى الجبل، ومن تحتها تلال ووديان وصفوح جبلية صخرية بيضاء رميلة..

والبيوت القديمة الحصينة أعلى الحصن، والبيوت الحديثة والعصرية ابتعدت مسافة مئات الأمتار جهة الشرق والجنوب، وموزعة على التلال والتباب والصخور الرملية البيضاء التي تتوزع حول البيوت الجديدة، وكأنها أرصفة طبيعية بلطتها ونسجتها يد الطبيعة بأجمل شكل وحلة..

نزلنا من السيارة أمام منزل أنسابنا آل شريان..

ثم مشينا مرجلين مسافة لا بأس بها جهة الغرب للتلهي والتمشي بين مزارع القات ومشاهدة آثار وحصون القرية…

والتمتع بالمناظر الطبيعية والأجواء المنعشة والخلابة بهذه الغرزة المدهشة..

دخلنا مزارع القات الهمداني، أشجار القات باسقة، أخشابها متطاولة عالية، قات منس كأن أغصانه قدت من ذهب..

المزارع محاطة بالجدران والمحاريس، جدران من كل الجهات، الأرض مرتوية، التربة مزبرة من شدة الغصب والري!

التقطنا بعض الصور للذكريات..

ثم جهة وسط الغرزة، والحصن العتيق، والقرية القديمة أمام أعيننا، ثم واصلنا المشي حتى صار الحصن على يسارنا جهة الغرب..

سألتهم عن قرية الحناجر، قرية حنجور، وهي قرية الشيخ السبئي الهمداني البطل المرحوم علي مطلق بن داوود..

فقالوا لي: لازم نصعد هذه منتصف التبة البيضاء الرملية التي تراها خلف بيتنا وملاصقة له..

وبمجرد أن نصل إلى منتصفها سترى أمامك من جهة الشمال الغربي “قرية الحناجر” والتي لا يفصلنا عنها سوى هذا الوادي الخصيب..

ونحن وهم بزي وخال وأهل وجيران، وكلنا كنا ربع بني مكرم والآن ضمونا على ربع همدان!

مشينا مسافة قريبة فإذا قرية حنجور الحناجر تبدو شامخة في عنفوان، رابضة على حصن حصين من جهة الشمال الغربي وتحت حيد عالٍ ووادي خصيب هو أموال وأراضي القرية الزراعية..

وشرحوا لي قصة الشيخ علي مطلق بن داوود مع كاتب الإمام يحيى، وفي من نزلت الآية الكريمة: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا». فقال كاتب الإمام: يا مولاي، نزلت يا مولاي في الشيخ علي مطلق وأصحابه بعد أن أعطوه ثلاثين قدح ذرة وبر، والإمام أعطاه قدحًا فقط!

وشرحوا لي مناقب ومآثر ابن مطلق وشجاعته وكرمه وشهامته…

وحكيت لهم ما قرأته في كتاب لسان اليمن أبو محمد الحسن الهمداني الإكليل، الجزء العاشر المخصص لمعارف همدان وأنسابها وعيون أخبارها..

والذي يقول فيه:

(الكتاب العاشر، باب نسب وادعة) عند ذكر «حنجور» و«الحناجر»؛

حنجور” أو “الحناجر” “أشد همدان بأسًا وأعظم أمانة”

«فولد حبيش بن ناشج عبدَ الله بن حبيش، ومعاويةَ بن حبيش، وعمرو بن حنيش، وعريبَ بن حنيش، وسعدَ بن حنيش، والأفوهَ بن حنيش، ويامَ بن حنيش.

فولد عبدُ الله بنُ حنيشٍ دالانَ بنَ عبدِ الله، وعامرَ بنَ عبدِ الله، وهم حنجور.

بطنٌ، وهم الحناجرُ من أشدِّ همدانَ بأسًا وأعظمِهِ أمانةً، ويعيشُ بنُ عبدِ الله، وسابِقَةُ الأصغرُ بنُ عبدِ الله بطنٌ، وقد يهمُّ بعضُ النَّسَّابين فيقول: دالانُ بنُ سابقةَ بنِ ناشجِ بنِ وادعة.

فولد عامرٌ — وهو حنجور — بنَ عبدِ الله جريرَ بنَ عامرٍ وعميرَ بنَ عامر.»

وهي القرية التي تروها بالصورة متربعة فوق الحصن وأشير لها بأصبعي..

انتهينا من جولتنا، ثم دلفنا إلى المنزل ونحن نشعر بعد التمشية والدورة بجوع خفيف يلسعنا..

كنت طلبت منهم وألححت أن لا يتكلفوا بشيء، وأن يكون الأكل كله بلدي، أريد أن نأكل مما نزرع، مما تنتجه خيرات أرضنا…

فكان ما طلبت: اللبن والسمن من البقرة والغنم، والسوسي والشفوت من البر البلدي، والعصيد والهريش والسمن والعسل واللحم وبنت الصحن وما لذ وطاب كله أكل بلدي، فكانت ألذ وأمتع وأطيب وأهنأ عزومة غداء، أكلنا بشَرَه حتى شعرت بتخمة..

ثم صعدنا للمفرج بالدور الثاني، المطل على الوادي الأخضر الخصيب، حرفنا المداكي، وأغصان وعيدان القات الهمداني الطويل المنس مدت بالصمايط أمامنا، وهي متفرهدة فرِحة تتمايل وتتراقص قبل أن نقطفها ونمضغها..

قات طري نظيف، لا سماد ولا بودرة ولا سموم، طعمه يسكر ويشذي ويفرح..

امتلأ المفرج بالمقيلين، وشرعنا في تبادل أحاديث الزراعة والريف والمذاري وذكريات وقصص الحياة الزراعية بالريف…

وكيف انقرض العنب من القرية..

شكوا أنهم لم يزرعوا ذرة ولا بر ولا شعير ولا بلسن هذا العام بسبب تأخر موسم الأمطار الربيعية ومن بعدها الخريفية، الأرض عانت من القحط والعطش..

ومياه الآبار لديهم لا زالت باردة وقريبة نوعًا ما، لكنها تخصص لسقي القات..

حثثتهم على زراعة الحبوب والاعتماد على إنتاج المحاصيل النقدية، على الأقل كل مزارع ينتج ما يكفيه يأكل طوال العام..

والعودة لزراعة العنب “كرم همدان” الذي انقرض من عقود لديهم ولم يعد يزرع…

ما أجمل المقيل البسيط مع الفلاحين البسطاء الطيبين…

مرت الساعات بسرعة البرق ونحن منهمكين في أحاديث الصباح والمساء المتعلقة بالزراعة والأرض والإنسان والتاريخ وهمدان وتاريخها وأمجادها التليدة..

وقبل أن يحل المساء استأذنا، وهم يلحون أن نجلس ضيفانهم إلى الغد فاعتذرنا…

وعدنا إلى صنعاء قبل أن يحل المساء، والأجواء غائمة والأمطار تكاد تنزل، واصلنا السير بهدوء وأريحية إلى أن وصلنا ظلاع، وشاهدنا أن الشوارع بمذبح قد اغتسلت قبل ساعات، أما شارع الزراعة القريب منا فوجدناه مبللًا وينم أنها أمطرت وأفرقت قبل قليل..

أنصح كل من عنده قدرة على الخروج بأسرته وأهله إلى ضواحي وريف صنعاء أن يقتنص الفرصة ولا يفوتها، فالأجواء بالريف مدهشة، ساحرة، ممتعة، منعشة، خلابة…

اغتنموا ما تبقى من الخريف بنجم الرابع الأول، ونجم الرابع الثاني…

والتي ستنتهي يوم ٨ سبتمبر، وبعدها يدخل نجم الخامس الجاف المشمس، ويوم من أيام الخامس وأكل علان بعقاعقة..

وهذا العام مابش عقاعق بعلان تأخر المطر .

زر الذهاب إلى الأعلى