فضاء حر

من البنطلون إلى البطون الجائعة: حين تختل أولويات المجتمع في ظل الظلم والفساد

يمنات

فؤاد محمد

مقدمة

في واقع مليء بالظلم والفقر والفساد، تبرز مفارقة مؤلمة تستحق التوقف، بينما يتجادل البعض حول ما إذا كان من “اللائق” أن ترتدي امرأة بنطلونا أو لا، تغيب تماما أصواتهم حين يتعلق الأمر بانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين، ونهب الإيرادات العامة، وحرمان الموظفين من مرتباتهم، وتجاهل آلاف الأسر التي تعيش في الجوع والحرمان.

لقد أصبح من المألوف أن تتحول قضايا المظهر الشخصي إلى معارك محورية، في الوقت الذي يُدار فيه ظهر المجتمع لمآسٍ حقيقية تتعلق بكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية.
فأي خلل هذا في ترتيب الأولويات؟ وأي منطق يسكت عن الظلم، ويصرخ في وجه لباس؟.

أولا: قضايا السطح تغطي على عمق الأزمة

في زمن الأزمات، يظهر اختبار حقيقي لوعي المجتمعات وضميرها الحي. وإذا اختار الناس أو من يُوجههم أن يُشغلوا الرأي العام بقضايا سطحية كـ”عدم لبس البنطلون”، ويصمتوا عن القضايا الجوهرية مثل:

– الفقر والجوع.
– نهب المال العام.
– تعطيل صرف المرتبات كاملة.
– قمع الحريات.
– انتهاك القانون والدستور.

فإننا أمام مجتمع يُدفع عمدا نحو السذاجة الأخلاقية والانفصال عن الواقع.

هذه الظاهرة ليست بريئة، بل تُستخدم عمدا لصرف الأنظار عن المسئولين الحقيقيين عن المعاناة الجماعية، ولتقديم صورة مزيفة عن “الانشغال بالقيم”، في وقت تُداس فيه القيم الحقيقية.

ثانيا: السلطة حين تنتعل الدستور

حين تُحكم البلاد بقوة السلاح لا بشرعية الشعب، وحين تُنتهك القوانين تحت مسمى “الضرورة”، وحين يُعين القضاة بلا مؤهلات، وتُقمع الأصوات الحرة، ويُعطل القضاء، فإننا أمام سلطة أمر واقع تنتعل الدستور وتستبيح القانون.

في هذا السياق، فإن أي حديث عن “الاحتشام” أو “الأخلاق” يصبح نفاقا صريحا، إذا كان موجها فقط نحو الأضعف، متجاهلا الأقوى الذي ينهب ويقمع وينتهك دون مساءلة.

العدالة لا تتجزأ، والأخلاق لا تُستخدم كغطاء للظلم، بل تُمارس أولا في احترام حقوق الإنسان، وكرامته، ومعيشته.

ثالثا: آلاف الأسر بلا طعام ولا مرتبات

في ظل هذا الواقع، يعيش آلاف الموظفين دون مرتبات كاملة.
وفي حال صُرفت، فإنها تُصرف:
– بنصف القيمة أو أقل.
– بتأخير يمتد لأشهر.
– بدون انتظام، وبدون محاسبة.

هذه ليست مجرد قضية مالية، بل قضية كرامة وحقوق إنسانية. فكيف لمن لا يجد قوت أطفاله أن يهتم بما تلبس هذه أو تلك؟.
كيف تُختزل “القيم” في لباس، وتُغيب حين يتعلق الأمر بمنع رواتب الناس وتجويعهم؟!.

أليست الكرامة أولى من “الاحتشام المظهري”؟.
أليس إطعام الجائع، وصرف حق الموظف، وحماية الأسر، واجبا دينيا وأخلاقيا قبل الاهتمام بلباس الأفراد؟.

رابعا: استخدام المرأة كأداة لتصفية الحسابات

المرأة، في مثل هذه البيئات، تُستخدم كأداة:
– لإشغال المجتمع بقضايا غير جوهرية.
– لتبرير سلطات استبدادية تدّعي حماية الأخلاق.
– ولتغطية الفشل في تقديم حلول حقيقية للمشاكل القائمة.

فبدلا من محاسبة من ينهب، يُحاكم مظهر النساء. وبدلا من انتقاد من يعطل مؤسسات الدولة، تُنتقد فتاة بسبب فستان أو بنطلون.

هذه الازدواجية تكشف نفاقا عميقا في الخطاب العام، حيث يُبرر الظالم، ويُجلد الضعيف، وتُختزل الأخلاق في ثياب.

خامسا: الانشغال بالمظاهر والتغاضي عن الجوهر

حين يُقدَّم الحديث عن لباس امرأة على أنه “قضية أخلاقية وطنية”، بينما يُصمت تماما عن نهب الثروات وانتهاك الحقوق، فإننا أمام مجتمع يُراد له أن يعيش في وهم الفضيلة الزائفة.

المجتمعات السليمة ترتب أولوياتها كالتالي:
1. العدالة أولا.
2. الكرامة الإنسانية.
3. العيش الكريم.
4. الحرية، والمساواة، وسيادة القانون.

أما قضايا اللباس والسلوك الشخصي، فتظل مسألة شخصية تُناقش بهدوء داخل سياقها، وليس على حساب صرخات الجياع ودموع الأمهات وحرمان الأطفال من التعليم والغذاء.

سادسا: من ينهب أكثر ضررا ممن لم تلبس البنطلون

التهجم على مظهر شخصي، في ظل صمت عن الظلم، هو خيانة أخلاقية وإنسانية.
من يسرق راتب موظف واحد، أضرّ بالمجتمع أكثر ممن لبست ما لا يعجبهم.
من يُجوع شعبا، لا يحق له أن يتحدث عن الشرف والاحتشام.
ومن يُبرر القهر والفساد، لا يملك لسانا يُعلم به الناس الأخلاق.

سابعا: نحو إعادة ترتيب الأولويات: رؤية منهجية

لعلاج هذا الخلل، لا بد من نقلة نوعية في وعينا الجماعي والفردي:

1. العدالة كأولوية مطلقة: يجب أن تحتل قيم العدالة ومحاربة الظلم والفساد صدارة الهرم القيمي في خطابنا. لا يمكن بناء مجتمع أخلاقي على أنقاض الظلم. “إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ” (حديث شريف). هذا المبدأ النبوي يضع النقاط على الحروف.
2. الفهم الشامل للدين: الدين ليس مجموعة من الطقوس والمظاهر فقط. إنه نظام متكامل للحياة يشمل العدالة الاجتماعية، والأمانة، والنزاهة، وإعطاء كل ذي حق حقه. “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” (سورة النحل: 90). هذه الآية الجامعة تضع الإطار الشامل للعمل الإسلامي.

3. تمكين الخطاب التنموي والحقوقي: يجب أن نرفع صوتنا عاليا بالحديث عن قضايا التنمية المستدامة، ومكافحة الفساد، واحترام حقوق الإنسان، وضمان كرامة العيش للجميع. هذه هي القضايا التي تمس حياة الناس مباشرة وتُحدث فرقا حقيقيا.

4. النقد البناء الموجه للدولة والمؤسسات: يجب أن يتجه خطابنا النقدي بشكل أساسي نحو المؤسسات والأنظمة والحكومات، فهي الحاملة لمسؤولية توفير الحياة الكريمة للمواطن، وليست المرأة في طريقة لبسها.

5. ثقافة المساءلة المجتمعية: بناء ثقافة تُقدِّر المساءلة والمحاسبة على القضايا الجوهرية، وتحتقر الصمت على الظلم، بغض النظر عن لون القميص أو نوع البنطلون الذي يرتديه الظالم أو المظلوم.

خاتمة

ليس المهم ما تلبس امرأة، بل ما يأكل طفل جائع.
ليس المهم كيف خرجت فتاة إلى الشارع، بل لماذا لم يصرف راتب والدها.
ليس المهم نوع البنطلون، بل كيف تُدار الإيرادات، ولماذا تُنهب دون حساب.

إن محاولات التغطية على الفساد والانهيار الأخلاقي الحقيقي عبر التركيز على المظاهر ليست إلا إهانة لعقول الناس.
ومن يخشى على المجتمع، فليبدأ بإعادة الحق لأصحابه، وإطعام الجياع، وضمان الكرامة والحرية.

أما ما عدا ذلك، فمجرد ضوضاء… لن تُسكت صرخة المظلوم، ولن تشبع بطنا جائعة.

زر الذهاب إلى الأعلى