كيف يستطيع البعض وصف موقف بريطانيا تجاه اليمن بـ”المحترم”..؟
يمنات
لطف الصراري
لبريطانيا والعرب تاريخ طويل تزخر به المكتبات و«التراث الشفاهي» لشعوب المنطقة. منذ صراعها مع البرتغاليين، مروراً بعلاقتها القائمة على المصالح التوسعية مع السلطنة العثمانية ومع ايطاليا وفرنسا؛ تاريخ من تقسيم الأرض والثروة وهوية الإنسان، وتقاسم النفوذ مع منافسيها الدوليين. وفي كل مساعيها لذلك، طالما احتفظت بدور المستعمر الحكيم الذي يضع النقاط على الحروف النهائية للمعاهدات والاتفاقيات وقرارات الحرب والسلم.
غير القوة العسكرية والبراعة السياسية، كانت قوة بريطانيا التي تعزز حضورها ومصالحها، ترتكز بشكل أساسي على التجارة والاستكشافات العلمية والأثرية؛ هذه الأخيرة هي التي جلبت «لورانس العرب» وغيرترود بيل؛ عالما الآثار اللذان رسما وعدّلا الكثير من خطط التاج البريطاني في المنطقة، منذ الحرب العالمية الأولى حتى انحسار تلك الموجة من الاستعمار عن أرض العرب.
بعد مرور مائة عام على تقاسم ما سمي بـ«تركة الرجل المريض»، وبعد أن أجبرت الحرب العالمية الثانية مقتسمي تلك التركة على الرحيل من أرض لا تخصهم، هاهم يعودون مرة أخرى وإلى جانبهم «لاعبين» جدد فيما لايزال العرب مصابون بفيروس الانقسام ذاته. وها هي بريطانيا تقبض على ملف آخر من ملفاتها القديمة في المنطقة؛ ملف الحرب اليمنية. لا شك أنها لن تتجاهل دور أمريكا كشريك استراتيجي في النفوذ، ولا الحضور الروسي والإيراني، لكن كثافة التحركات البريطانية مؤخراً، تعطي إشارة إلى أن قضايا المنطقة العربية دخلت مرحلة أكثر تعقيداً تقتضي تصدر بريطانيا باعتبارها «حلاّلة العقد».
تنطلق بريطانيا في سياساتها من تاريخها القائم على المصالح التجارية والنفوذ السياسي، وهو نفس المنطلق الذي تأخذه بالاعتبار في تعاملها مع الدول الواقعة في مسار مصالحها. عندما خاضت صراعها مع السلطنة العثمانية، ركزت على التاريخ الديني لتفكيك الامبراطورية التي اعتمدت قوتها التوسعية على احتكار تمثيلها للشعوب المسلمة باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية. وجهت اهتمامها نحو قلب الجزيرة العربية – مكة والمدينة- وما حولها، حيث أسس نبي الإسلام أول دولة للمسلمين. دعمت ثورات العرب ضد الدولة العثمانية، ثم ضمتهم إلى قائمة مستعمراتها ومحمياتها، تاركة مدينتي رسول الإسلام محمد ص، لمن يثبت جدارته من العرب في تمثيل أمة المسلمين، لكن بدون نزعة «الفتوحات». لضمان ذلك، منح بلفور وعداً لليهود بدولة تخصهم على مقربة من المركز الجديد للدولة الإسلامية. وطيلة القرن الماضي وقرابة عقدين من القرن الحادي والعشرين، سهّلت بريطانيا على إسرائيل مهمة إبقاء العرب والمسلمين، دولاً وشعوب، تحت السيطرة. بقيت فلسطين جرح العرب النازف، وكلما حاول قائد عربي أو إسلامي وضع المبضع على الجرح، التهمته التركة الثقيلة للاستعمار؛ الانقسام الذي يغذي العداوات بين المسلمين طائفياً وعرقياً.
خلال عقود طويلة من الحرب الباردة، كرست بريطانيا سياسة الاعتناء ببذور الانقسام، وحين لا يرد ذكر أمريكا هنا، فذلك لأنها في هذا السياق ليست سوى بريطانيا محدّثة. في فترة الصراع العربي الاسرائيلي الممتدة لما يقارب ثلاثة عقود من القرن العشرين، غذّت بريطانيا وأمريكا حربي الخليج الأولى والثانية اللتين خلفتا أكبر شرخ في علاقة دول وشعوب المنطقة. حالة من التشظي ليس من السهل لملمتها. وهناك ذلك السعي الحثيث لإبقاء الحرب مشتعلة في سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطين، في ظل مساعي موازية لإعادة النظر في تقسيمات السيد لورانس والسيدة غيرترود. هما بالتأكيد لم يرسما كامل الخارطة السياسية للمنطقة، لكنهما نموذجين للأدوات الناعمة التي لا تستغني عنها السياسة البريطانية في أي زمان ومكان. ومن المؤكد أن لدى بريطانيا وبريطانيا المحدّثة، كما هي لدى أقطاب الصراع الدائر حالياً، أدواتها الناعمة التي توجه دفة سياساتها الخارجية نحو الأهداف والمصالح الاستراتيجية. ترى كم تعج البلدان العربية بخبراء من هذا النوع؟
هكذا، ومن أي زاوية نظر تاريخية وراهنة، لا يخفى كيف راكمت بريطانيا، مثل أي دولة تحترم مصالح شعبها، تاريخاً من التوازن الداخلي والنفوذ الدولي الذي يخاتل المساءلات الأخلاقية لسياساتها. ولا أعرف كيف يبدو الأمر سهلاً على بعض المثقفين والساسة من ذوي الوزن الثقيل، أن يصفوا موقف بريطانيا تجاه القضية اليمنية بـ«المحترم»، في الوقت الذي تزود فيه السعودية بالأسلحة وتدعم استمرارها في الحرب. في الواقع، هي تبتز السعودية بإيران وتبتز إيران بالنووي وما إلى ذلك من حلقات الابتزاز التي تبقي يدها في منتصف العصا. سوف تبتز اليمن أيضاً كما ابتزتها قبل أكثر من مائة وخمسين سنة، ومادامت إرادة الحرب هي خيار العرب الأول، فسوف تبقى قابليتهم للانقسام مصدراً لتغذية قابليتهم للابتزاز.
المصدر: العربي
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا