في مجلس القضاة
يمنات
أحمد سيف حاشد
بعد عودتي من مجلس العزاء، والذي وجدتُ نفسي فيه أحوج للعزاء؛ طلبتُ من ابني فادي أن يغيّر على الفور الأغنية “خطر غصن القنا” التي ألحقت بي كثير من الحرج في مجلس العزاء، ويستبدلها برنة عادية، أو أي شيء يليق بقاضٍ سابق ونائب ما زال في مستهل عهده، ولكن بدلاً من أن يغيرها برنة تليق بأبيه، غيّرها بأغنية أخرى تجلب مزيد من الحرج.. لم أفهم من كلماتها غير “عبد القادر يا بو علم”.. لا أعرف اسم الفنان الذي يغنيها، ولا جنسيته، ولكنها كانت بالإجمال أغنية شبابية مشهورة ومنتشرة في تلك الأيام.
أنا في الحقيقة وغالباً لا أفرِّق بين الأغاني التي تليق والأغاني التي لا تليق.. لا أفرِّق بين أغاني الشباب وأغاني العجائز.. أكثر الأغاني تنال اعجابي واستحساني بسبب جمال إيقاعاتها ولحنها وعودها وموسقتها، بل وأجد نفسي أحياناً استمتع بسماع بعض الأغاني الكردية لجمال ألحانها.
أنا أيضاً وغالباً لا أفهم ما يقول الفنان في الأغنية إلا إذا استعنتُ بصديق، أو سعيتُ إلى معرفة كلماتها سعياً، ويكفيني في جل الأغاني أن إيقاعها يأسرني، وترقص معه الروح والقلب والوجدان.. لازالت في ذاكرتي أغنية “بين الدوالي والكرم العالي” التي كنت اسمعها وأنا صغير من الراديو، وأرددها مع صوت الفنان بكلمات “بين الزاولي والدرب العالي” وشتان بين المعنيين.
***
زرتُ تعز.. تواصلتُ بأحد الزملاء القضاة للمقيل في مجلسه.. هذا الزميل كان قد انقطع التواصل بيننا بعد تخرجنا من المعهد العالي للقضاء.. كنت مشتاقاً للقاء به والمقيل في مجلسه، بعد سنوات من الانقطاع، وجدتُ كثيراً من القضاة المعممين، والذين تبدو عليهم الهيبة والوقار؛ وأكثر منهم أن والد زميلي هذا قاضٍ وفقيه ومؤلف، وكان له في أيامه تلك شأن كبير، ومؤلفات عدة، ومنها مجلدان في الأحوال الشخصية التي اقتنيتها حالما كنت طالباً في المعهد العالي للقضاء.. ما زلتُ أذكر أنني أحترت كثيراً فيما يتعلق بشروط صحة عقد الزواج، ومانع زواج الإنسي من جنية.
زميلي القاضي ومن خلال زمالة المعهد الذي دامت ثلاث سنوات، انطباعي الإجمالي عنه، أنه كان ذكياً في الدراسة، ومتوقد الذهن، ودمث الأخلاق، وذو وقار وكياسة ودين.. يحرص على أهمية مسلك القاضي وسلوكه والحرص حيال ما يجرح عدالة القاضي، وهي تفاصيل مررنا عليها في دراستنا في المعهد العالي للقضاء.
وفيما كان الحديث المحترم في حضرة جلالة القضاء وهيبة القضاة في المجلس الوقور، رن هاتفي، ولكن ليس برنّة، وإنما بأغنية “عبد القادر يا ابوعلم” انفجر القضاة بالضحك، وغرقتُ أنا معهم في نوبته، وأدركت أن ثمة فضيحة أخرى قد حلّت بي، وزميلي القاضي يقول:
– ما هذه يا قاضي؟!! شبابي هه.. من عمل لك هذه النغمة؟!
– وأرد: هؤلاء العيال الذين عملوها.. وأنا معرفش أغيّرها.
مد القاضي يده، وأخذ منّي الهاتف، وبدأ يتعامل معه حتى غيرها إلى رنة قاضي تميل إلى إيقاع رنين البيانو.
الحقيقة لم أخرج من المجلس إلا بعد أن عرفتُ أن هاتفي اسمه “الرنان” وعرفتُ كيف أتعامل مع التلفون، وكيف أغير نغماته، وعرفت أيضاً أن الأغنية جزائرية، واسم الأغنية (عبد القادر)، وأن الأغنية شبابية جداً، وأن الفنان اسمه الشاب خالد.. وعرفت أيضاً بعض كلمات الأغنية التي تقول:
عبدالقادر يا بو علم ضاق الحال عليّ
داوي حالي يا بو علم سيدي إرأف عليّ
دعوتي القلّيلة… يانا… ذيك المبلية
خليتني في حيره… يانا… العشرة طويلة
كانت جلستنا ممتعة و ودودة، وفيها فائدة ومعرفة لم أسبق إليها من قبل، ابتداء بالهاتف وانتهاء بكلمات الأغنية التي استصعبتها في البداية.. شُغفتُ بالمعرفة وصرتُ أشبه بالعربي الذي يتوق لتعلم اللغة العبرية.
خرجتُ من المجلس بعد المقيل، وأنا أضحك على نفسي وأحدثها بدهشة: بعض القضاة يجمع الزهد والطرب ويفهمون في كل شيء، وأنا الشاطح لا أعرف حتى اسم هاتفي.
***
خلال سنوات الحرب وما تلاها من هدن ومراوحة، تعرفتُ على قليل من القضاة المتجاوزين لواقعهم الاستبدادي المريض.. بدوا أكثر انفتاحاً على المرأة وعلى العدالة، ولهم اضطلاع ومعارف في كل الفنون.. لهم أيضاً عالمهم الجميل غير المعلن عنه في الحب والغناء والشعر والحكايات التي لا تُنسي، ولدى بعضهم قلوب مرهفة، وبإمكانك أن تسمع منهم ما لا تعرفه ولا تسمع به من قبل.. فيما بعضهم مأسوف عليه، ما زال يعتقد أن النجم سهيل كان عشّاراً في اليمن؛ فمسخه الله نجماً ليكون عبرة وموعظة للعالمين، بل هذا بعض ما مررتُ عليه في دراستي بمعهد القضاء وتحديداً في حواشي مادة “جوهر الفرائض”.
وجدتُ قضاة وما أكثرهم يستجرون كلما هو ظلامي وبائد من عهود مضت، حتى بدوا هم والسلطة التي تمثلهم عقبة كأداء أمام أي تقدم أو تطور أو مستقبل، بل يريدون تحويل المستقبل المنشود إلى مسخٍ مرعبٍ من ذلك الماضي المتوحش والدميم الذي يقتاتون تشدده وتزمته بنهم التماسيح.
مسنودين بأيديولوجيا مشبعة بالقتامة ضد المرأة، والثقافة المكتظة بالدونية والتراتبيات العنصرية والعُقد الاجتماعية، والحذر من المرأة كشيطان وفتنة وشر مستطير، وإخمادها بالأبوية والتمييز والهيمنة الذكورية، وإذلالها وقمع تطلعاتها في العدالة والمساواة والإنسانية..
لا يفرقون بين العادات والعبادات، ولا بين الحقوق والانتهاكات، ويرون أنفسهم وكلاء الله وشرعة في أرضه، وأوصياء مطلقين على أخلاق المجتمع وتفاصيله، ومدعومين بسلطة أكثر تغولاً وتخلفاً ورجعية منهم، بل تكتشف أن كل ذلك الظلام والرجعية بعض من صميم مشروع جماعتهم.
***
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا