فضاء حر

المواعظ الكاذبة: عندما يصبح الخطاب الديني والسياسي ستارا للفساد والاستغلال

يمنات

فؤاد محمد

من المعروف أن الإنسان حين يتحدث عن مبادئ سامية وقيم إنسانية نبيلة، يُفترض أن يكون قد فهم هذه المبادئ وأخذها بعين الاعتبار في حياته اليومية. لكن حين يصبح الشخص الذي يُكثر من المواعظ بليغا في الحديث عن الفضيلة والأخلاق، ويخالف أفعاله ما يقوله، ويظهر على أرض الواقع من خلال تصرفاته وتطبيقاته اليومية أنه بعيد عن تلك المبادئ، يصبح هذا التناقض صادما، ويثير الكثير من الأسئلة حول دوافعه. السؤال هنا: ماذا يريد من يكثر المواعظ؟ وما هو التحليل النفسي وراء ذلك؟.

 

القول دون الفعل: قناع للواقع

كثرة المواعظ لا تعكس بالضرورة الفهم أو القيادة الحقيقية، بل قد تكون بمثابة قناع يحاول الشخص من خلاله إخفاء ضعفه أو تردده في التنفيذ. يقول البعض إن الشخص الذي يكثر من الحديث عن الفضيلة قد يكون هو نفسه في أشد الحاجة لتطبيق هذه الفضيلة في حياته. وعادة ما يكون هذا النوع من المواعظ مصحوبا بالعديد من التناقضات التي قد تدل على نقص في الوعي الذاتي أو تفادي المسئولية.

على سبيل المثال، حين نجد شخصا يكثر من الحديث عن العدالة والرحمة، لكنه يتصرف بعكس ذلك من خلال استغلال منصبه للحصول على مكاسب شخصية أو التلاعب بالآخرين، فإن هذا يُظهر تناقضا صارخا بين أقواله وأفعاله. يصبح الهدف من هذه المواعظ في هذه الحالة ليس إصلاح الآخرين أو نشر الفضيلة، بل كسب تأييدهم أو إخفاء عيوبه الشخصية.

التحليل النفسي وراء كثرة المواعظ

من الناحية النفسية، يمكننا تفسير كثرة المواعظ باستخدام عدد من الأطر النفسية. قد يكون الشخص الذي يكثر من المواعظ لا يمتلك الشعور الكافي بالثقة بالنفس، وبالتالي يعوض عن ذلك بالتأكيد على معرفة عميقة بالدين أو الأخلاق أو الفضيلة، على أمل أن يُظهر للآخرين أنه “أفضل” مما هو عليه. وهذا يكون نوعا من الهروب النفسي من مواجهة الذات، حيث يعاني الشخص من صراع داخلي بين ما يعتقده من قيم وأخلاقيات، وبين ما يفعله في الواقع.

في بعض الأحيان، يكثر الشخص من المواعظ لأنه يريد أن يحقق نوعا من السيطرة الاجتماعية. من خلال إظهار نفسه كخبير أو مُرشد، يشعر بأنه يمتلك السلطة على الآخرين. هذا النوع من الأشخاص يعاني من نقص في السيطرة على حياته الشخصية، لذا يحاول السيطرة على حياة الآخرين من خلال النصح المتكرر.

التحليل الاجتماعي والتأثيرات السلبية

من الناحية الاجتماعية، كثرة المواعظ من شخص لا يتبع ما يقوله يمكن أن تؤدي إلى شعور من حوله بالاستياء والفتور. هؤلاء الأشخاص الذين يتحدثون عن الفضيلة في الوقت الذي يُظهرون فيه سلوكيات متناقضة يُفقدون مصداقيتهم في النهاية، ويتحولون إلى مجرد أصوات فارغة أو أدوات للتلاعب. وفي السياقات السياسية أو الاجتماعية، يؤدي ذلك إلى تزايد مشاعر اللامبالاة والشك في النوايا، وهو ما يخلق انقساما ويزيد من فقدان الثقة بين الناس وأولئك الذين يفترض بهم القيادة.

النفاق والتفاخر: استخدام المواعظ كأداة لإخفاء الحقائق

في بعض الحالات، قد يُستخدم الحديث المستمر عن الفضيلة كأداة لإخفاء تصرفات غير قانونية أو غير أخلاقية. حين نرى شخصا يتحدث كثيرا عن الأخلاق، وهو في نفس الوقت ينهب المال العام أو يستفيد من موارد الشعب، فإن ذلك يشير إلى نوع من النفاق الذي يُستخدم لتغطية الأفعال السيئة. في هذه الحالة، يكون الهدف من المواعظ هو تحريف الانتباه بعيدا عن الأفعال التي لا يُرغب في التطرق إليها. وهذه الممارسة تؤدي إلى تعميق الفجوة بين الأقوال والأفعال، وتحقيق أهداف شخصية على حساب الآخرين.

 

الجبن أمام الحقائق: التهرب من المسئولية

كثرة المواعظ قد تكون أيضا رد فعل على ضعف في اتخاذ القرارات الحاسمة أو التهرب من المسئولية. الشخص الذي يكثر من المواعظ قد يفعل ذلك ليبدو أنه صاحب رأي ورؤية، دون أن يضطر إلى تقديم حلول واقعية أو أن يكون في موضع المسئولية الفعلية. هذا الشخص لا يرغب في تحمل تبعات قراراته أو أفعاله، لذا يتجنب التورط في العمل المباشر، وبدلا من ذلك يظل في منطقة الأمان حيث يقتصر دوره على تقديم النصائح!.

سلوك آكل السحت: ممارسات مرفوضة

ما يثير القلق بشكل خاص هو عندما يكون الشخص الذي يكثر من المواعظ آكلا للسحت، أو ينهب حقوق الآخرين، أو يتخذ من منصبه أو موقعه طريقا للاستفادة غير المشروعة. فإذا كان شخص يتحدث عن القيم الأخلاقية والعدالة بينما يتعامل مع الأموال العامة أو يثرى من أموال الشعب بشكل غير قانوني، فذلك يكشف بوضوح عن افتقاره إلى المصداقية، ويعكس صورة زائفة عن الدين أو الأخلاق.

في هذا السياق، يصبح مظهر الجشع والأنانية واضحا عندما يظهر الشخص الذي يتفاخر بالمواعظ في مشهد آخر، وهو يتجشأ من كثرة المال الذي جمعه عن طريق استغلال الآخرين. هذه الأفعال لا تمثل إلا إهانة للإنسانية وللدين نفسه، لأن الدين الحقيقي لا يمكن أن يتوافق مع التلاعب واستغلال الآخرين.

الخلاصة: دعوة للمراجعة الذاتية

من خلال هذه التحليلات، يتضح أن كثرة المواعظ لا تعكس دائما الفهم العميق أو القيادة الحكيمة. في الواقع، يمكن أن تكون المواعظ وسيلة للتغطية على أفعال غير لائقة أو ضعف في الشخصية، أو حتى محاولة لتحقيق أهداف شخصية عن طريق السيطرة على الآخرين. إنه من الضروري أن يكون الشخص مخلصا في أقواله وأفعاله، وألا ينجرف وراء استخدام الكلمات لتغطية التصرفات المرفوضة. في النهاية، القيم الحقيقية لا تُقاس بالكلام، بل بالأفعال التي تظهر على الأرض.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

للاشتراك في قناة موقع يمنات على الواتساب انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى