حين غسلت الغيوم وجه صنعاء

يمنات
عبدالوهاب قطران
كان يومًا خريفيًا استثنائيًا في صنعاء، يومًا تسللت فيه السماء إلى القلب فأروته بمطرها العذب، وغسلت وجه المدينة بدموع الغيم الرقيقة.
صحوت ظهراً، لأجد صنعاء وقد ارتدت حلتها الباريسية: غيوم متدثرة، رذاذ يرقص على الأرصفة، وهواء يغريني ألا أضيع لحظة واحدة من هذا الفرح السماوي.
أمسكت هاتفي، واتصلت بالأصدقاء الأحبة: أحمد عبدالرحمن، وعلي الضبيبي، ومحمد السمة. اتفقنا أن نبحث عن قات همداني غرزي أصيل، نظيف من سموم المبيدات، ذاك الذي كان يخزن منه القاضي الراحل عبدالكريم العرشي. قصدنا دكان الرعوي المجاور لمنزل العرشي بمدخل القاع، وهناك حصلنا على أعواد خضراء ندية، تحمل عبق الأرض ورائحة المطر.
قادنا أحمد بسيارته، ومعه علي الضبيبي، اخذنا الصديق عبدالكريم عامر من امام المستشفى الجمهوري ،ثم اتجهنا إلى باب اليمن لأخذ صديقنا الفنان المتألق محمد علي عبدالله السمة من منزله بالصعدي. ومن هناك مضينا في جولة خاطفة بشوارع تعز والسبعين والنهدين، بينما السماء تنثر غيمها الكثيف، والرذاذ يطرّز زجاج السيارة بوشاح ندي. كنّا نستمع لملحمة “البالة” بصوت السمة، فتماهت الأغنية مع المزاج الخريفي حتى صرنا نحن والمدينة والسماء لحنًا واحدًا.
بشّرنا أحمد بخبر سار: خروج فيزة ابنه البكر، زاهي، من الصين بعد طول انتظار. باركنا له من قلوبنا، وفرحنا معه كما لو أن الفيزا منحتنا نحن جميعًا نافذة جديدة على العالم.
حطّ بنا المسير عند مطعم الصنعاني بشارع ٤٥، دخلنا استراحته المفتوحة للهواء الطلق، وتناولنا “الفحسة” بمذاقها الشعبي الأصيل، والسماء تمطر علينا كأنها تضيف إلى المائدة نكهة خاصة لا تشترى. ثم مضينا إلى مقيل أحمد عبدالرحمن في الدور الثامن، ذاك المجلس الأبهى الذي يطل على صنعاء كلها، مدينة تغتسل بالمطر وتتباهى ببهائها من خلف النوافذ العالية.
في الطريق إلى المقيل، غسلت أمطار “الروابع” الشوارع وقلوبنا معًا، حتى بدا كل شيء حولنا طاهرًا، جديدًا، مفعمًا بالحياة. وبالصدفة، صادفنا الشيخ المناضل مختار القشيبي يسير بجوار كلية الشرطة. وقفنا نحييه، فوافق أن ينضم إلينا بعد أن ينهي موقفًا قضائيًا لأصحابه قريبًا من مكاننا.
حين بدأنا المضغ، باغتني وجع الأسنان، ذلك الألم العنيد الذي لم يفلح دواء وصفته لي الدكتورة إيثار في تهدئته. ابتسمت رغم الألم وقلت لنفسي: “الصم دلا دلا بالجهة اليمان، مشي حالك… السوق تعبان.” فالمزاج كان أكبر من أن تفسده وجعة.
جلسنا نتبادل الأحاديث، ونتأمل صنعاء وهي تتلألأ تحت المطر من نوافذ المقيل. وما إن طاب المجلس، حتى أخذ ابن السمة ريشة العود، وغنى بصوت رخيم يلامس الروح: “أهلاً وسهلاً روح داخل الروح”، ثم أتبعها بأغنية أخرى: “يا قلب لا تبكي على من أبك دم.” فكان الطرب ينساب مع قطرات المطر، يضاعف النشوة، ويعمّق الحنين.
خرجنا عند الثامنة والنصف مساءً، ونحن في حال من الصفاء الروحي والهدوء النفسي، وقد غمرت الشوارع مياه المطر حتى صارت مسابح طبيعية باردة ومنعشة، كأنها أنهار صغيرة تشقّ قلب صنعاء.
هكذا عشنا يومًا خريفيًا فاتنًا، يومًا قاوم أنياب الظروف القاهرة، وانتصر بالجمال، بالصحبة، بالمطر، وبصنعاء التي لا تكف عن منحتنا أسباب الفرح.