أيّ شعور إنساني يمكن أن يضاهي هذا الجمال؟

يمنات
أحمد غراب
موقف حصل فعلا وكنت شاهدا عليه ؛ على متن الباص، صعد رجلٌ مسنّ تتكئ عليه زوجته، أو لعلّه كان هو من يتكئ على صبرها. بدا المرض واضحًا عليه، ومن حديثهما فهمت أنّ وجهتهما باب اليمن للتسوّق. كانت بساطتهما تقول كل شيء؛ فقرٌ هادئ، لا يملكان من الدنيا إلا حبًّا صادقًا ووفاءً يتقاسمانه، وروحان تتساندان كي لا تسقط إحداهما دون الأخرى.
ولم تمضِ لحظات حتى صعد زوجان آخران، أشدّ فقرًا وأقسى حالًا. كانت المرأة مريضة، يتلوّى الألم في جسدها، وزوجها يرشّ الماء على رأسها بيدٍ مرتجفة، كأنّه يحاول إخماد نارٍ مشتعلة في رأسها. من كلامه عرفت أنّهما نازحان، وأنه أسعف زوجته إلى المستشفى بعدما أصابتها الحمى الشوكية، لكن المستشفى رفض استقبالهما لأنهما لا يملكان ثمن الأشعة والفحوصات.
كان الوجع يعصر قلبي وأنا أستمع إليه. عرفت أنه من حَرَض، وكان يمسك بزوجته وكأنه يخشى أن تفلت من يديه في أية لحظة، ولا يملك لها شيئًا سوى حضنه وعجزه. اضطرب فكري، وبحثت في نفسي عن وسيلة لمساعدتهما، لكن التفكير انقطع فجأة أمام مشهدٍ لن أنساه ما حييت.
المرأة التي كانت تجلس خلفه، تلك التي تسند زوجها المريض، همست له بشيء، ثم أوقفا الباص. نزلا بهدوء، وقدّما للرجل وزوجته كل ما كان بحوزتهما تقريبًا؛ عشرين أو ثلاثين ألفًا، هي على الأرجح كل ما يملكان. ثم غادرا الباص، ورأيتهما يعودان على أقدامهما من حيث ركبا، بلا تسوّق ولا حاجات.
على فقرهما ومرض الرجل، رأيا من هو أفقر وأشدّ ألمًا، فأعطياه كل ما لديهما، وعادا إلى بيتهما بملامح رضا وسكينة، كأنهما اشتريا شيئًا أثمن من كل الأسواق: إنسانًا آخر.
أيّ قلوب هذه؟ وأيّ أرواح ملائكية تمشي على الأرض؟ وأيّ شعور إنساني يمكن أن يضاهي هذا الجمال؟