زمن الاعمار الغضة
هذا زمن الاعمار الغضة، زمن الشبان العشرينيين والثلاثينيين الذين انتدبوا انفهسم لصناعة الفجر العربي الجديد، متجردين من كل الحسابات السياسية المملة التي لا تنتهي، كان بارود الثورات العربية المسلحة في القرن الماضي قد خمد واختفت رائحته حين جاء الى الدنيا هذا الجيل الذي يقود الثورات الان ويضرم اوارها بدمائه ومعاناته.. وساعاته الطويلة في عالم افتراضي رهيب: الانترنت. ففي مصر، يتكرر نفس المشهد الذي اكتمل في تونس قبل اسبوعين: قدامى السياسيين وقادة الاحزاب التقليدية يحاولون اللحاق بمئات الالوف من الشبان اليافعين الذين يبتدعون فتوحاً سياسية لم تعرف المنطقة العربية مثلاً لها في تاريخها الحديث. يصور رجل تونسي هذه اللمعة المبهرة بما يكفي وهو يتحدث الى تلفزيون الجزيرة مبدياً انبهاره بثورة الشبان الذين اسقطوا الدكتاتور ذا القبضة الرهيبة زين العابدين بن علي، ويضيف الرجل وهو يشير الى شعر رأسه الابيض” لقد هرمنا ولم نفعل شيئا”ً. خالد عبدالهادي حقاً.. انه عصر خاطف ولابد لاحداثه ان تكون سريعة، تتلاءم مع الثورة المعرفية والتقنية المذهلة التي تصبح مختلف سمات هذا العصر. قد تمثل الثورات المدنية الناعمة الانعكاس الابرز لثورة المعلومات وعالم الانترنت الخيالي اللذين ادخلا العالم عصر السماوات المكشوفة والارجاء المتصدعة. لذلك نشأت مفارقة قاتمة تشبه جنوناً جماعياً ان يتمكن المواطنون العرب من تدفق الثورة الرقمية الهائل في الوقت الذي يخضعون فيه لانظمة حكم مستوحاه من القرون الوسطى، تحرمهم من ابسط الحريات العالمية والحقوق الانسانية. تتبين المفارقة اكثر من خلال مثال حديث بالغ الجلاء يعود الى نوفمبر الماضي حين منح حاكم عمان السلطان قابوس بن سعيد اكثر من مائة الف جهاز كمبيوتر لطلاب بلاده احتفاء بالذكرى الاربعين لتوليه مقاليد الحكم. فكيف لمائة الف طالب ان يهدأوا فيما ستتدفق عبر حواسيبهم ثورة معرفية لا حدود لها من بينها تاريخ الديمقراطيات في العالم والطرق المختلفة الابداعية في تطبيقها في الوقت الذي يلج رئيسهم عامة الحادي والاربعين حاكماً. الثورات الجديدة تولدت عبر هذه القنوات ولتساؤل قيم مثل ذلك ان يحفز ضمائر الشبان لتجسيب لنداء الثورة الجذاب. لقد دفُع سياسيو القرن العشرين العرب قسراً الى العصر الرقمي الذي ظل يقتل الازمنة والامكنة اختزالاً فيما الحاكم العربي يهدي كل اسرة دجاجة مجمدة في عيد ميلاده والمعارضة تقضي اياماً في تهذيب بيان سياسي خشية اساءة فهمه. من بين تفاصيل هذا المشهد الساخر والمرير على حد سواء، طلع الجيل الشاب ذو الاعمار الغضة والطلعات المتصالحة الخالية من قسمات التجهم والشوارب الكثة ليرسم للعالم صورة الثوري العربي الجديد الذي يحضر للثورة عبر (فيس بوك) وتويتر وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي. ماذا لو لم تطح مظاهرات الشبان التونسيين بالدكتاتور الغليظ بن علي مثلاً او لم تنحرف انظار الدول الكبرى في العالم صوب انتفاضة الشبان في مصر لترقبها قلقة، محاذرة؟ بلا جدال، كان السياسيون التقليديون سيصنفون تلك التحركات الشبابية ضمن المغامرات غير المحسوبة او المراهقة السياسية الطائشة. هذا لا يعني ان حسابات الساسة العتيقين الذين يتزعمون غالبية الاحزاب المعارضة في البلاد العربية هي حسابات خاطئة بل هي سديدة في الغالب انما تبالغ في الواقعية الى حد التنطع الذي يقيد الفعل ويوصد الباب امام انشاء خطوات سياسية بديعة. لكن سيكون من غير الانصاف ان ينظر الى ذلك انه خطأ محض يقترفه الساسة العتيقون اعتباطاً. في الواقع، انهم يعيشون رهناً لذكريات مؤلمة، ناجمة عن انتكاسات اطاحت باحلام كبيرة كانوا ينشدون افراغها الى وقائع. وقد اورثتهم تلك الانتكاسات رهبة من النتائج التي قد يسفر عنها اي تحرك جريء، غير تقليدي اضافة الى تهويل مبالغ فيه قدرات الخصوم السياسيين. فالمعارضات العربية حالياً جلها احزاب يتقاسمها الاسلام السياسي واليساريون والقوميون وكل هذه الاحزاب والحركات تعرضت لمؤامرات اشتركت في معظمها قوى عالمية فأطاحت بها في نهاية المطاف. لقد فرض ذلك النمط من العمل السياسي خصائصه على زعماء الاحزاب السياسية المعارضة لتواجه بها سياسات متحركة لا تستقر فيما هم جامدون ومتشككون دائماَ. ولا يبدو الحل المناسب لذلك في توجيه مزيد من اللوم والتوبيخ اليهم بل مساعدتهم في مغادرة جو الريبة والجمود الذي دخلوه قبل عقود اضافة الى الدفع بفئات عمرية جديدة الى هيئات الاحزاب القيادية.. ان هذه مهمة المؤتمرات الحزبية وهي المهمة التي لن تتحقق الا في حال جرحت الانتخابات في المؤتمرات الحزبية بنزاهة عالية ودون تسويات من اي نوع. في يوليو 1952، تألف مجلس قيادة الثورة المصرية من 12 عضواً جلهم عسكريون اما الثورة المدنية الحالية فلا قائد لها او حتى مجلس قيادة اذ ان مئات الالاف من الشبان المصريين يقودون انفسهم وباقي السياسيين القدامى الذين وصلوا متأخرين كما في تونس. وحدث هنا في اليمن حين انتفض السكان في الجنوب وهرعوا الى الساحات والشوارع رفضاً للقهر السياسي والتمييز الاجتماعي قبل ان تسعى اليهم الاحزاب السياسية لتصل متاخرة وقد اتخذ الحراك خطأ متشدداً حيال كل شيء. لا تنظيم حديدياً او ايدلوجية محددة يجمع هؤلاء الشبان الانقياء سوى فئتهم العمرية والهم الموحد وربما استمتاعهم بالاغاني الحديثة المارقة التي لا تتجاوز الاغنية منها الدقيقة الواحدة.. لكنهم وصلوا في موعد عظيم.
نقلا عن صحيفة المصدر