قضية اسمها اليمن

رحلات الموت الصومالي إلى اليمن

 

 

 

يمنات – متابعات

تمتلك شبكات التهريب الآدمي في مقديشو أساليبها الخاصة في إقناع الصوماليين بوجود "أرض الميعاد" التى توفر لهم كل الاحتياجات خلف البحار وإنهم لا يحتاجون غير رحلة واحدة لبلوغ أحلامهم، وإنهم سيجدون هناك من سيستقبلهم بشغف وربما أيضاً يعاتبهم على التأخر في المجيء من بلادهم المشتعله بالحرب منذ عقدين من الزمن افتقدت فيها الصومال لمعنى الدولة.. لتستقبل اليمن 10.187 لاجئاً صومالياً خلال النصف الاول من 2012 فقط، في رحلات محفوفة بالمخاطر. 


  "هناك اذاعات محلية عملت على اقناعنا للمجيء الى اليمن ".. هكذا يتذكر اللاجئ الصومالي "فارح عبدالله ابراهيم" كيف بدأت القصة قبل أن يفتح أذنيه لراديو" كابيلا" ويقتنع بفكرة القدوم إلى اليمن، مندفعاً في الرحلة إليها، تاركاً والديه وخطيبته هناك في مقديشو، ليتبين له كل يوم أنه وقع في الكذب ولم يجد أى شي مما وُعِد به غير الانتظار لما سيحدث.  


يقول "فارح" الذي غادر الصومال ذات صباح من العام 2008، إنه حمل معه كيساً صغيراً فيه القليل من الملابس والقليل من العمله الصومالية وانه انضم إلى مجموعة أخرى على مركبة قديمة متوجهين نحو مدينه تدعى "ابارا فجوي" ومنها نحو "بوساسو" عبر طرق متعددة ونقاط تفتيش كثيرة تتبع أمراء الحرب الصوماليين والتي تبحث عن كل شي مهم لتأخذه منهم: أموال، تلفونات محمولة، حتى النساء في عمر الشباب.


" امراء الحرب ياخذون كل مايعجبهم بدون أي اعتراض".. قال فارح بألم.


بوساسو

في "بوساسو" بحث "فارح" عن عمل يقتات منه كما يفعل آلاف الصوماليين الراغبين في مغادرة البلد المشتعل، وعمل في قص الأشجار مقابل عشرة ألف شلن في اليوم الواحد يصرفها كلها في الأكل والشرب والنوم، ومن إحدى المراكز بدأ في إجراء اتصالاته إلى أسرته وأصدقائه لتجميع ثمن الرحلة إلى الشاطئ الآخر والتي تكلفتها "مليون شلن" وتعادل 50 دولاراً امريكياً تُدفع لمتعهد التهريب هناك في بوساسو.  


ومرت أسابيع الانتظار ثقيلة على "فارح" إلى أن توفر المبلغ المطلوب " مليون شلن " لكنه كان مضطر للانتظار حتى يكتمل عدد الراغبين في الهروب إلى الشاطئ الآخر في اليمن، فلابد أن يصل العدد إلى مائة وعشرين شخصاً ليقلهم القارب الذي لايعرفون عنه شيء سوى أنه قديم واعتاد على نقل الصوماليين كلما اكتمل عددهم هناك في بوساسو.


يقول فارح: فجأة جاءت الأوامر بالتحرك وصدرت توجيهات من المسلحين بأن يصعد الجميع إلى قارب صغير لايمكنه أن يحمل أكثر من أربعين شخصاً فقط، وبدأ كل مسافر بدفع ماعليه من اجرة.."مليون شلن" عن كل واحد.


ويضيف فارح: "لم نفكر حتى في سؤال المُهربين "المتوترين" عن أى شيء وكنا نصعد لنرتمى فوق بعضنا دون حتى أن يصرخ من ترمي نفسك عليه". وتصف المصورة البريطانية "اليكسندرا افازينا" التى تتبعت حياة الراغبين في الهروب من الصومال، أنهم أغرب مارأت.. وقالت:" إنهم يحرصون على امتلاك شيئ واحد مشترك وهو دفتر العناوين التي يحملونها والتي غالباً ماتكون ضد الماء وتحتوى معلومات عن زملائهم وأصدقائهم في اليمن الذين يخططون لمقابلتهم أن أمكن".


وتضيف فازينا: "ولأنه لا يوجد ما يفعلونه يقوم هؤلاء مثل "تشالا" بقضاء ساعات بالنظر في دفتر العناوين وغالباً ما يقومون باستعارة التلفونات لإجراء رنات إلى أصدقائهم دون أن يتجاوبون معهم إلا قليلاً".  


يومان قضاها "فارح" في عرض البحر وفي كل لحظة يتوقع أن يتوقف القارب القديم ويغرق الجميع أطفالاً ونساء وكبار سن وشباب وسط خليج عدن، التى قرأوا عنها ذات يوم عنها في كتب التاريخ المدرسية.


"في الليل كنت أرى القمر فأحس بالأمان وأتذكر أسرتي التى تركتها تبكي وأنا أغادر كأنى ذاهب للموت وكان يراودني إحساس لماذا لا أعود على نفس القارب – ولكن في هذه هزيمتي أمام كل الناس".. قال فارح بحزن.



d8a7d8abd986d8a7d8a1 d8b5d8b9d988d8afd987d985 d8a7d984d989 d8a7d984d982d988d8a7d8b1d8a8

 




الهروب إلى الموت





تشير المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى أن رحلة اللاجئين الصوماليين إلى اليمن عبر البحر الأحمر وخليج عدن في المحيط الهندي من ميناء بساسو في الصومال – تكون رحلة صعبة وخطرة يسافر فيها اللاجئون في مراكب تهريب غير صالحة لنقل البشر وبحمولة أكثر مما تستوعبها تلك القوارب من ثلاثة إلى أربعة أضعاف، كما يقوم المهربون بضَربَ المسافرين إذا حاولواَ التَحَرُّك على القارب، فلا يسمح لهم برفع أصواتهم أو حتى الاهتمام بنظافتهم الشخصية.




ويسافر المهاجرون الإفريقيون تحت هذه الشروطِ المعقدة بدون غذاء من يومين إلى 3 أيامِ، فقط القليل من الماء، وفي بَعْض الحالات يتعرض بعض المهاجرين إلى اختناق بسبب احتجازهم في اماكن ضيقة اسفل تلك المراكب. وعند وصِولُ المراكبَ إلى قرب الساحلَ اليمني، يبدأ المُهرِبون بإجْبار المسافرين بالنزول إلى الماءِ، وفي أغلب الأحيان في المياهِ العميقةِ والمائجةِ، وبسبب عدم قدرة عديد مِنْ المسافرين على السباحة والتعب الشديد الذي يعانونه طوال أيام الرحلة وظروفها الغير مستقرة والآمنة لايتمكنون من الوصول إلى الشاطئ ما يؤدى إلى غرق الكثيرين.

يقول فارح: "من مسافة بعيدة أشار إلينا أحد المُهربين نحو ضوء بعيد وقال اقفزوا هناك الشاطئ، ومن يرفض يقومون باطلاق النار عليه وترمى جثته في الماء.. فقفز الجميع".



وأضاف:" لقد رأيتُ الموت أكثر من مرة وتمنيته أيضاً وأنا أسبح والضوء يزداد بعداً وكأني لا أتقدم وكنت أسمع أنين النساء والأطفال وهم يغرقون وأعجز عن انقاذهم – لم أصدق وأنا المس رمال الشاطئ وهناك تركت جسدي دون شعور ولم أصحو إلا حين كان هناك رجل يمني يحمل علبة حليب وبسكويت لإنقاذي، وهو متطوع في جمعية أهلية تساعد اللاجئين، واخبرني بإن كثيراً من رفاق الرحلة قد ماتوا فتذكرت تلك الوجوه التي كنت أراها ليومين وعندي إحساس أنني لن أراها من جديد ولن يراها أحد غيري إلا وقد أصبحت ميتة".. "مازلت أدعوا لهم بالرحمة".. يردد الشاب الصومالي الذي يقطن منطقة الصافية وسط العاصمة اليمنية صنعاء -وهي منطقة مشهورة بان اغلب قاطنيها صوماليين-.. ويحلم فارح أن تتوقف البنادق ليعود إلى أهله ووطنه وأن يفي بوعده لخطيبته التي مازالت تنتظره هناك.



وتتكرر مأساة "فارح" الذي بدا حزيناً وهو يتذكر رفاقه الذين قضوا غرقاً في رحلة الهروب من الصومال إلى اليمن عبر البحر يوماً بعد يوم، إذ تقول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أن 1500 شخصاً قضوا وسط البحر قبل وصولهم إلى اليمن خلال الفترة الماضية من 2012، وهو الأمر الذي يضيف بعداً إنسانياً لعشرات ومئات القصص للاجئين الذين يلقون حتفهم في عرض البحر غرقاً أو في بطون اسماك القرش بعيداً عن الأنظار، فيما كان عدد الذين وصلوا إلى الساحل حسب احصاءات المفوضية هو 51.441 شخصاً بينهم 10.187 صومالي و 41.210 أثيوبيون، و 44 آخرون، خلال الفترة الماضية من 2012 أيضا. مخاوف وتخشى المفوضية السامية للاجئين أن عدداً أكبر من اللاجئين سيتعرضون للموت غرقاً في البحر أثناء عمليات تهريب ماتزال مستمرة وخطرة، وهناك مخاوف متزايدة من وقوع حوادث غرق للنازحين بصورة يومية، فعشرات الحوادث تحمل الرواية نفسها عن عدد جديد من اللاجئين تعرضوا للموت غرقاً أو أغرقوا بواسطة متعهدي التهريب الآدمي الذين يضعون حساب وقوع قواربهم في قبضة خفر السواحل.

ولا تنتهي مأساة الأفارقة الذين يأتون من الجهة المقابلة لشاطئ اليمن في البحر، لكن المأساة تستمر معهم وتلاحق الواصلين أيضاً إلى اليابسة ومن نجو من البحر، وتكون النساء والأطفال أكثر المتضررين من مغامرة الرحلة بحثاً عن الأمان.. حيث تؤكد المفوضية أن من يتبقى منهم على قيد الحياة بعد رحلة شاقة، غالباً مايصلون فى حالات جفاف من العطش الشديد وسوء التغذية و في أغلب الأحيان يصابون بصدمة عصبية شديدة.

ضمان الحماية 



تقول المفوضية أنها تقوم بدوريَّات في خليجِ عدن والبحر الأحمرِ لاستقبال وضمان الحمايةِ للقادمين الجدّدِ، وتزوّدِيهم بوسائل نقلِ لإيصالهم إلى مراكزِ استقبال المفوضية، حيث يَقضّي القادمون الجدّدَ بضعة ساعات أَو أيام للراحة والتَعافي، وهناك يحصلون على الإسعافات الأوليةَ، وجبات طعام وتسجّيلهم لدى مراكز الاستقبال، وبالنسبة للاجئين الصوماليون الذين لديهم وثائق ثبوتية يتم نَقلهم إلى مخيّمِ خرز للاجئين -الذي انشأته اليمن عام 2000 – وهناك مباشرة يتم منحهم اللجوء، أما غير الصوماليون الذين يطلبون اللجوءِ فيتم تسجيلهم ويَخضعون لعملية تحديد حالةِ اللجوء.


 



 


وتؤكد المفوضية إنها تقوم بتقديم المأوى العاجل و المساعدات المنقذة للحياة للاجئين والنازحين، والحماية وحافظت على تواجدها الواسع في اليمن عبر ثمانية مكاتب موزعة بين شمال وجنوب إضافة الى ثلاثة مراكز استقبال على طول السواحل اليمنية تستقبل التدفق المستمر للواصلين الجدد من القرن الافريقى.


أرقام وإحصاءات 



وبحسب تقرير صادر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين- اليمن، فقد ارتفع عدد اللاجئين الأفارقة إلى اليمن خلال النصف الأول من العام الحالي 2012 و أنه حتى شهر مايو الماضي فقط وصل 51.441 لاجئاً افريقياً بينهم 10.187 لاجئاً صومالياً، مشيرة إلى أن غالبية القادمين هم مهاجرون إثيوبيون يقدر عددهم بـ 41.210 نهاجر اثيوبي، وقالت إن هذا الرقم لتدفق اللاجئين الأفارقة خلال الفترة الماضية من 2012 يعد رقماً كبيراً مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي 2011 الذي وصل فيه 103.154 لاجئاً إفريقياً بينهم 27.350 صومالياً.




ووفقاً للمفوضية فإن 224.540 لاجئاً إفريقياً مسجلين رسمياً لديها بينهم 214.485 لاجئاً صومالياً معترفاً به من قبل الحكومة اليمنية والبقية من جنسيات أخرى معظمهم إثيوبيون. فيما تؤكد الحكومة اليمنية إن هناك حوالي 2 مليون لاجئ صومالي وصلوا اليمن منذ اندلاع الحرب الأهلية في الصومال – مطلع تسعينيات القرن الماضي – وما يزال تدفق اللاجئين إلى اليمن بشكل مستمر ويقدر بحوالي 160- 200 لاجئ يومياً.


اليمن..مهمة إنسانية 



في العام 1951 كانت اليمن هي الدولة الوحيدة في شبه الجزيرة العربية التي وقعت على معاهدة اللاجئين التي تنص على منح ملتمس اللجوء حقه دون تمييز، إضافة إلى مصادقتها على بروتوكول 1967.. إلا أنه منذ العام 1991 بدأ الصوماليون بالتدفق إلى اليمن بشكل جماعي كبير عقب انهيار نظام محمد سياد بري في 26 يناير من نفس العام. ويوفر اليمن ملجأً آمناً للصوماليين أفراداً وجماعات وتقوم الحكومة اليمنية بمنح الصوماليين حق اللجوء منذ الوهلة الأولى لوصولهم أفراداً وجماعات.



ورغم أن اليمن تواجه حالياً عدداً من التحديات الداخلية، فهناك حوالي نصف مليون نازح يمنى بسبب الحرب في صعدة (شمالاً)مع الحوثيين والحرب مع أنصار القاعدة في أبين (جنوباً)، حيث تم تسجيل أكثر من 486,000 نازح داخلي إلى الآن بسبب تلك الصراعات المتفرقة في شمال وجنوب اليمن.. إلا أنها مازالت تقوم بواجبها تجاه اللاجئين على أكمل وجه. ومنذ مطلع العام 2011 بدأت الثورة الشعبية في اليمن تطالب بإسقاط نظام الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، ترتب عليه انتشار واسع للاختلالات الأمنية الذي أدى الى تعقيد الحالة في اليمن وزاد من حالة السوء أكثر مما كانت عليه في السابق، حيث تواجه اليمنُ هبوطَاً اقتصادياً حادَّاً في ارتفاع نسبة أسعار المواد الغذائيةِ 41 % ونشاطاً اقتصادياً يَنكمشُ بشكل ملحوظ.


وتقول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدةِ إن مهمة اليمن أصبحت صعبة ومعقّدةُ جدًا بشكل غير عادى وإنها تواجه في عملها ثلاث حالاتَ إنسانيةَ آنيةَ تتمثل في تدفق جماعي مستمر للاجئين والمهاجرين مِنْ القرن الأفريقي، إضافة الى النازحين في الجنوبِ والذي يقدر عددهم بـ ( 171.882 نازحاً) بسبب الحرب على القاعدة في أبين منذ مايو 2011 و متطلبات العودة المحتملة للنازحين، خاصة بعد سيطرة الدولة على مناطق زنجبار و جعار و لودر وطرد مسلحي القاعدة، إضافة إلى استمرار حالة النزوح طويل الأمد في الشمالِ (314.706 نازحاً) مع عمليات نزوح جديدةِ مستمرةِ، خصوصاً في محافظةِ حجة بسبب الحرب مع المتمردين الحوثيين في صعدة شمالاً.


تحديات اليمن



وكانت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أعلنت – منتصف مايو الماضي في مؤتمر صحفي للمدير الاقليمي لشؤون اللاجئين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا السيد يعقوب الحلو – أن اليمن بحاجة الى 470 مليون دولار لمجابهة الاحتياجات الإنسانية 60 مليون دولار منها هو حاجة المفوضية، وأنه متى توفر هذا الرقم فإن العاملين في المجال الإنساني سيتمكنون من توفير بعض الاحتياجات اللازمة للاجئين والنازحين من مأكل ومشرب ومأوى.
ودعا الحلو المجتمع الدولي وأصدقاء اليمن والمجموعة الدولية إلى القيام بواجبهم تجاه اليمن ودعمه ليفي بكافة التزاماته، كون اليمن قد قام بواجبه تماماً تجاه اللاجئين والمهاجرين الأفارقة والنازحين المحليين وقدم ما لم تقدمه كبرى المنظمات الدولية تجاههم- حد قوله.




ومن جهته قال ممثل المفوضية العليا لشؤون الاجئين في اليمن السيد نافيد حسين: "يوجد في اليمن حوالي ثلاثة أرباع المليون بين نازح ولاجئ، والحكومة اليمنية تبنت سياسة كريمة في استقبال اللاجئين رغم الظروف التي يعيشها، وهو بحاجة الى الدعم المستمر من دول الجوار والمجتمع الدولي خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة التي يمر بها، من أجل ضمان السلام والاستقرار في البلاد والمنطقة، وكذا تلبية احتياجات أولئك الأشخاص الأكثر احتياجاً.   


"لا يجب أن نترك اليمن وحيدة تواجه أوضاعها ويجب على المجتمع الدولي أن يدعمها" قال نافيد بصدق.





* المصدر: صحيفة 30 دقيقة التونسية  – مهيب زوى – zawapress@gmail.com

 

زر الذهاب إلى الأعلى