أرشيف

موجة ارتفاع الأسعار..مكافئ للفقر والبطالة

ليعذرني القارئ إن أنا تناولت قضية ارتفاعات  الأسعار  الدائمة الحدوث وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية  بمنهج تعليمي  لعل في   المنهج أكثر قدرة على التعبير عن الظاهرة ، وعرض ابرز أثارها ، ومرتباتها  ومضاعفاتها ، وتقريب معناها إلى ذهن القارئ ،وذلك لإظهار حجم الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي تحدق بالأمة ، وتعصف بها ، إمام سمع وبصر المسئولين الذين ينظرون إلى  ذلك الخطر المدمر بسذاجة   ويتعاملون  معه  بخفة ،  وعدم اكتراث . ِ

ظاهرة تكرار ارتفاع الأسعار

تتكرر  ظاهرة  موجات ارتفاعات الأسعار على نحو متصل ، تمتد إلى مطلع حقبة التسعينات ، عائدة إلى عام 1992 م  وهي بداية  صراع  إرادات الأضداد  في عقد الوحدة ،ساهمت مبكرا في شل الاقتصاد  وانهيار  قيمة  وقوة الريال ، وانحلال الإدارة العامة ، وتفشي  الفوضى ، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة .

ومنذ ذلك الحين لم تعرف الأسعار توقفا  ولا استقرارا ،إذ ظلت محافظة على وتيرة تصاعدها في موجات أسعار عامة متتالية  أحيانا  وارتفاعات أخرى  صاعدة في أسعار بعض السلع حينا أخر ، وفي الحالتين وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود سقط الاقتصاد مترنحا تحت ضربات موجات  التضخم السنوية ،  متقلبا في دوائر الكساد  والجمود ، والبطالة ، والفساد ، وتدهور مناخ الاستثمار  وتباطؤ  وانخفاض  معدلات النمو الاقتصادي مما اغرق الأمة  في مستنقع  الفقر والبؤس والشظف والأمية والانحلال الاجتماعي ، والتطرف السياسي  ، وذلك بفضل سياسات اقتصادية ومالية ، ونقدية قاصرة عدمية ، ومعالجات  مبتسرة تفتقر إلى العلمية والرصانة والعمق .

برنامج الإصلاح

ثم  هل على الأمة  برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي  والإداري سيء السمعة  ، مركزا على سياسة إدارة الطلب رافعا أسعار السلع والخدمات ، ساحبا  الدعم ، وفارضا ( البرنامج )  مزيدا من الضرائب الحال الذي دفع بالأسعار صعدا ، فنجم عنه رفع  تكلفة الناتج المحلي الإجمالي ،   وتباطؤ معدلات النمو التي بلغت خلال العامين 2005، 2006 م ،2.5  1.5 %    ومن ثمة تضاعف معدلات التضخم  ،  وارتفعت إثمان السلع والخدمات  فانهارت قيمة تبادل العملة ، وقيمتها الشرائية مما رفع  عاليا من تكاليف المعيشة ،  موزعا خيرات البؤس  والفقر ، والبطالة ، والفساد ، معيدا ضخ الثروة لصالح ذوي الدخول العالية ، والأغنياء ، مما عمق من الأزمة الاقتصادية  وأضاف له  مزيدا من الجمود  والانكماش ، والتراجع والكساد  وعمق من صفوف  البطالة والفقر  والبؤس والاضطراب الاجتماعي  والسياسي  وعم الفساد البلاد ،  واستشرى الصراع الاجتماعي الخفي والمعلن .

هذا ولم يول  البرنامج سياسة إدارة العرض اهتماما يذكر – استسلاما لضغوط المنظمات المالية الدولية وتضحية بالقرار الوطني المستقل  –  مع أن ذلك التوجه ( إدارة العرض ) كان كفيلا بزياد عرض السلع والخدمات مما يفضي إلى حالة من التوازن بين العرض والطلب ، وبالتالي يحافظ على درجة مقبولة من النمو الاقتصادي المعقول  ،  ومن استقرار الأسعار  وتقليص معدلات التضخم ،  والفقر والبطالة .

 

أسباب الزيادة السعرية

تأتي  في مقدمة تلك الأسباب والعوامل ، والظروف ، التي أفضت  وتفضي إلى حدوث مثل تلك  الاختلالات الاقتصادية  والمالية  والنقدية ، والاجتماعية وعلى رأسها ارتفاعات الأسعار   الأسباب التالية :

  • 1. اعتماد سياسات اقتصاد السوق خارج نطاق شروط توفر الحد الادنا من المقومات الاقتصادية والمؤسسية والقانونية وتحرير التجارة الخارجية والداخلية في غياب تلك الشروط والمقومات وقبل استنفاذ فرص شروط ، وتسهيلات ومزايا منظمة التجارة العالمية .
  • 2. تراجع الدولة عن وظيفتها الاقتصادية بحجة مقتضيات اقتصاد السوق – تحت ضغوط المنظمات المالية الدولية والمقرضين-في حين أن اقتصاد السوق لا يلغي وظيفة الدولة اقتصاديا ورقابيا بل يفرض عليها هذا التوجه الاقتصادي موازنة العرض والطلب ، والتدخل بزيادة العرض ، وتهذيب السلوك المتوحش للرأسمالية الفجة ، واقتصاد السوق النزق .
  • 3. لقد استغلت حفنة قليلة العدد ( ثمانية تجار للقمح مثلا ) فرصة انسحاب الدولة اقتصاديا وتحرير التجارة فاستولت على أسواق السلع والخدمات، واحتكرتها، متلاعبة بفواتير الاستيراد، وتكاليف السلع فارضة أسعار احتكارية عالية محققة بذلك إرباحا ضخمة.
  • 4. فهمت الدولة معنى الاقتصاد الحر ، فهما خاطئا ، ولم تقم بواجباتها الاقتصادية من خلال تحفيز القطاع العام والمختلط ، والسعي إلى إعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية والمؤسسية ، والتركيز على إدارة العرض توخيا لكسر الاحتكار ومنع استغلال المستهلك ، وتوفير متطلباته الضرورية .
  • 5. أفضى الجمع بين الإمارة والتجارة إلى الخلط بين صاحب القرار ، وصاحب الملكية ،فمكن ذلك الخلط أصحاب مراكز النفوذ إلى الميل لحماية مصالحهم الذاتية الشخصية والعائلية على حساب مراعاة وحماية المصالح الشعبية العليا .فغابت الدولة وغاض نفوذها .
  • 6. أدى سوء الإدارة ، وفسادها ، وضعف كفاءتها العلمية ، والمؤسسية إلى تفاقم معدلات الإنتاجية وعدم استغلال الموارد إلى انكشاف الاقتصاد ، وتدهوره المستمر ، إلى تفاقم الحالة الاقتصادية ـ وتوسع مظاهر وظاهر التضخم والكساد ، والأمية ، والفقر ، والبؤس ، والتطرف الاجتماعي والسياسي .
  • 7. الإنفاق الترفي وغير الاقتصادي على مؤسسات وفئات غير منتجة ، علاوة على شراء ذمم مكن جانب كبير من العملة النقدية من التسرب إلى أسواق السلع والخدمات ، محفزة الطلب رافعة الأسعار ، داعمة للتضخم

 

 

ٍأثار مخاطر ارتفاع الأسعار

تفضي زيادة الأسعار في صورتيها العامة التضخمية ،  والجزئية إلى أثار ، و متربات ، ومخاطر اقتصادية واجتماعية وسياسية تعصف بالحياة العامة ،  وتقوض الأمن ، والاستقرار ، فعلى الصعيد ألاقتصاديي ينجم  عن تصاعد الأسعار بمعدلات مرتفعة   رفع تكاليف الناتج المحلي الإجمالي بصورة شكلية اسمية ، تنعكس في صورة تشوهات ،  واختلالات سلبية  هيكلية  جمة تطول الموازين  الاقتصادية الكلية ، ومختلف قطاعات الاقتصاد  وجهاز الثمن ، وتكاليف المعيشة ،  وقيمة العملة النقدية ، وأسعار الفوائد ، وتكاليف الائتمان  والمشروعات ، ومناخ الاستثمار ، مما يصيب الاقتصاد في المحصلة النهائية  بحالات  مشوهة مزمنة  من الكساد ، والجمود ، والنمو السالب ، فينهار الاقتصاد ، وتجف مصادر التمويل ، ويقوض مناخ الاستثمار  فيلحق الدمار بالمشروعات والمؤسسات ، فتصاب بالإفلاس ، وتخرج من السوق ، فتعم الفوضى الأسواق وتصاب حركة الإنتاج بالشلل  فتبور العملة النقدية ، وتسقط قيمتها التبادلية والشرائية ـ مما يرفع من  تكاليف الاستيراد ، والتصدير  والاقتراض   والدين العام ، فتصاب خزينة الدولة بالإفلاس ، فبتعزز  ذلك  الانحلال الاقتصادي ، والمالي ، والنقدي بالمقابل في صورة مزيد من الانحلال ، والانحطاط ، والدمار  الاجتماعي   فيشيع البؤس  والفقر ، والبطالة  فيتعمق تدهور الأوضاع العامة  فيتصدع المجتمع ، وتنحل عراه ،  ويتفسخ نسيجه خلافا وصراعا ، ومصالح شتى   وانقساما ، وتطرفا ، فتهاجر الصفوة  وتهرب رؤؤس الأموال الوطنية للخارج  ، ويدخل المجتمع في صراع الأضداد ، فتندلع الحرب الأهلية ، فتقوم الإقطاعيات ويبرز الأمراء في النواحي والمناطق  المستقلة فتنهار سيادة الدولة المركزية ، ويفقد الوطن وحدته واستقلاله

كل تلك المخاطر الكارثة المحدقة بالوطن  تتدافع مضاعفاتها وأثارها المدمرة  جلية واضحة دون أن تلقى اهتماما وعناية ،ولا اكتراث من قبل النظام لأن هذا الأخير  ليس في مقدور ثقافته ، وكفاءته إدراك ، وفهم حقيقة وإبعاد ما تنطوي عليه   تلك المخاطر  من أهوال  وكوارث ، بدليل  انه يقف منها موقفا ساذجا ، و وخفيفا ، وغير مباليا ، ولا محترزا ، بل يهدر الأموال وفرص الإصلاح والتغيير وكأنه في حل وانعتاق  من مسؤولياته ، وما نشاهده اليوم من احتقانات وتوترات  واختناقات  وسخط ، وصدامات ، إلا  تعبير عن مقدمة تأكل النسيج الاجتماعي وتفسخه .

ولا يمكن وقف تداعي الأسعار ، وتصاعدها المزمن إلا بسياسة  إدارة العرض ، وزيادة إنتاج السلع الضرورية ، في القطاعين الزراعي ، والصناعي وإعادة إصلاح الهيكل الاقتصادي العام ، وإعادة هيكلة الاقتصاد ومؤسساته الإدارية ،  من خلال عودة الدولة إلى مضمار الإدارة الاقتصادية ،  ودخولها  منتجة عبر القطاع العالم ، وتفعيل جهاز التموين  والثمن  وفرض رقابة سعريه على السلع  ، تمنع الغش ، والتلاعب  والتدليس ، والاحتكار ، وإحكام أدوات وقوى  السوق   وإطلاق قوى المنافسة ، ودفع الجهاز المصرفي  والمالي منتجا في السوق من خلال تأسيس المشروعات الإنتاجية المساهمة الضخمة  ، وأخيرا رفع كفاءة الإدارة العلمية ، والعملية  والسلوكية ودحر الفساد.

زر الذهاب إلى الأعلى