يمنات
حملت جلسة اختتام مؤتمر الحوار الوطني اليوم الثلاثاء عددا من المفارقات “المدهشة”، إليكم إحداها:
طلب الرئيس هادي من أعضاء وعضوات المؤتمر التصويت على الوثيقة النهائية للحوار الوطني ووثيقة ضمانات تنفيذ الوثيقة النهائية، قائلاً: “اللي موافق على الوثيقة يوقف واللي مش موافق يجلس”. وقف الأعضاء باستثناء قلة قليلة جداً منهم ظلت جالسة. وهكذا، صوت أعضاء الحوار على أهم وأخطر وثيقة في تاريخ اليمن المعاصر (تقسم اليمن إلى عدة أقاليم) ووثيقة الضمانات، صوتوا عليهما بالوقوف وبسرعة خاطفة ودون أن يعرف أحد بالضبط عدد الذين وقفوا أو عدد من ظلوا جالسين!
مع اقتراب الجلسة الختامية من نهايتها، قال هادي للأعضاء: “أشتيكم تقفوا معي في بناء اليمن الجديد..”. لم يكن هذه المرة يطلب منهم التصويت على هذا ولا الوقوف بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنهم وقفوا جميعاً (تقريباً) بمن فيهم اولئك الذين لم يقفوا في المرة السابقة (كأنهم أرادوا تدارك وتعويض “الشرف العظيم” الذي فوتوه على أنفسهم في الوقوف السابق)!
التلفزيون الرسمي تحدث مرارا وتكرارا عن تصويت أعضاء المؤتمر بالإجماع على الوثيقتين، وتحدث هادي عن نجاح المؤتمر في تحقيق “توافق وطني غير مسبوق”! غير أن أعضاء الحوار، الذين صوتوا بالإجماع على الوثيقتين، صوتوا بإجماع أكبر على الكلام الإنشائي والفارغ الذي يقوله هادي بمناسبة وبدون مناسبة عن “بناء اليمن الجديد”، لقد صوتوا بإجماع أكبر على لاشيء!
الوقوف الأوتوماتيكي، أمرٌ يبدو أن أعضاء الحوار تدربوا عليه جيداً خلال فترة حوار موفنبيك حتى أتقنوه! أصبحوا بارعين جداً فيه وربما أدمنوه لدرجة أنهم باتوا ينفذونه متى طُلِب منهم، بمناسبة وبدون مناسبة: ينفذونه بالإجماع تصويتاً على أخطر وثيقة في تاريخ البلد، وينفذونه بإجماع أكبر على لاشيء، ينفذونه لمجرد سماعهم كلمة “وقوف” ترد على لسان هادي (كأنهم “روبوتات” مبرمجون على الوقوف والتصويت بالإجماع كلما سمعوا كلمة “وقوف”)!
إنها مفارقة كبيرة تقدم تلخيصاً مدهشاً قرابة عام من “الحوار الوطني” الذي انتهى بتصويت فارغ من معنى التصويت على تقسيم بلد حلم طويلاً بالتحول إلى “وطن” فتحول إلى أشلاء على أيدي مجموعة من أبنائه الانتهازيين الذين يصوتون بالإجماع على أي شيء، ويصوتون بإجماع أكبر على لا شيء!
التصويت بالوقوف والإجماع حسب الطلب، هذا ما فعله اليوم أعضاء الحوار الذين لم يكتفوا بهذا بل “أتحفونا” بنوع آخر ونادر من التصويت لم يسبقهم إليه أحد: التصويت بالوقوف وبإجماع أكبر على لا شيء وبدون أي طلب!
لم يكن هناك داعٍ لتصويت أعضاء الحوار على الوثيقتين وبقية مخرجات الحوار، لأنهم لم يقرروا شيئاً منها، بل قررتها مجموعة بعدد أصابع اليد الواحدة في هيئة رئاسة المؤتمر وخارجها. كان تصويتهم بوقوفهم الأول بلا معنى على الإطلاق تماماً مثل تصويتهم على لا شيء بوقوفهم الثاني. وإذا كان هذا التصويت قد حمل معنى يذكر، فإنه لم يخرج عن الإهانة، إهانة هادي وشركائه لهم، الإهانة التي تلقوها برحابة صدر وبحماس شديد لأنها لن تكون بدون مقابل: طمأنهم هادي بأن مهمتهم لن تنتهي باختتام المؤتمر في ظل حديث عن أنه سيتم توزيعهم بعد المؤتمر على التأسيسية والشورى.
وهنا، يمكنكم أن تضعوا دائرة حول تطمين هادي لهم وتكتبوا تحتها: رشوة تاريخية.
هل سأكون مبالغاً ومتجنياً إذا قلت إن أعضاء الحوار أنفسهم هم أبرز مخرجات الحوار الوطني؟ دخلوا موفنبيك كبشر وخرجوا منه ك”روبوتات”، “روبوتات للتصويت”: تصوت اوتوماتيكياً بإجماع على أي شيء يطلب منها وتصوت بإجماع أكبر على لا شيء و.. بدون طلب!
………………………………………
وقوف ثالث ومفارقة إضافية:
إضافة إلى الوقفة التي صوتوا فيها بالإجماع على مخرجات الحوار والوقفة التي صوتوا فيها بإجماع أكبر على لاشيء، نفذ أعضاء الحوار وقفة ثالثة بطلب من هادي لقراءة الفاتحة على روح عضو مؤتمر الحوار عن جماعة الحوثي الدكتور أحمد شرف الدين الذي اغتيل صباح اليوم وهو في طريقه إلى فندق موفنبيك لحضور الجلسة الختامية. هذه هي الوقفة الوحيدة التي كانت في محلها، لكنها مثل سابقتيها قدمت مفارقة أخرى من مفارقات الحوار الذي استمر قرابة عام بالتزامن مع تصاعد الانفلات الأمني واحتدام الحروب بين جماعة الحوثي من جهة وبيت الأحمر وحلفائهم من السلفيين والإخوان المسلمين من جهة أخرى. لقد امتلأ عام الحوار بالدم والإغتيالات والحروب وبالكلام الفارغ عن “نجاح الحوار” و”بناء اليمن الجديد” دون أن يتم ضبط مقترفي جريمة واحدة أو إطلاع الرأي العام على مسار التحقيق فيها، حتى تحقيق واحد في جريمة واحدة لم نسمع بنتائجه!
ثلاث وقفات حملت مفارقتين غنيتين بالدلالات في جلسة كانت مليئة بالمفارقات، الجلسة التي اختتمت مؤتمر حوار وطني خلا تماماً من الحوار ومن الوطن وامتلأ بالدم واللامعنى و… اللاشرف.
من حائط الكاتب على الفيس بوك