قراءة اولية في حادثة استهداف خاشقجي في تركيا
يمنات
عبد الوهاب الشرفي
جمال خاشقجي صحفي ومحلل سعودي مرموق وكاتب في صحف عالمية وله علاقات واسعة مع العديد من مراكز الرأي العام في العالم العربي و الغربي ، هكذا يقدم جمال خاشقجي من قبل وسائل الاعلام التي تغطي بكثافة حادثة اختفاءه ثم اخبار قتله في تركيا .
بدأت الحادثة بتوجه جمال الى القنصلية السعودية في تركيا بعد اتصال من احد موظفي القنصلية لتسلم اوراق معاملة عادية كان قد تقدم بها للقنصلية قبل ايام ، لكنه دخل الى القنصلية ولم يتأكد مصيره بعدها وحتى الان .
بطبيعة هذا الاختفاء الذي بدأت ملابساته في مبنى القنصلية السعودية في تركيا لابد ان يكون الحدث مثيرا للضجة و قد يتطور جديا الى ازمة سياسية بين السعودية و تركيا لهذا كان الجميع حذرا في التعامل تجاه الحادثة و رغم الطبيعة الاستثنائية للحادثة الا ان التصريحات الرسمية التركية و الرسمية السعوديه نادرة و حذرة و مرنة بشكل ملفت .
لم يكن جمال صحفيا معارضا عمليا ولم يقدم نفسه كذلك مطلقا وكلما في جانب اراءه هو قدر من التحفظات على السياسة السعودية الجديدة التي بدأت مع تولي الملك سلمان للحكم في المملكة وفي اسوء الاحوال يمكن اعتبارها بالتحفظات المعبر عنها بشكل علني و لمكانة خاشقجي الاعلامية والفكرية فيكون معبر عنها بشكل واسع ايضا ، لكن جمال كان مقربا من الاسرة الحاكمة السعودية و علاقاته بها علاقة ولاء لايمثل معه اي خطورة جدية على الاسرة الحاكمة في الرياض كما هو حال المناهضين للحكم السعودي في الخارج ، على الاقل حتى الان .
قامت السعودية بحملة اعتقالات و استهداف للعديد من مواطنيها بمن فيهم افراد من الاسرة الحاكمة وكانت هذه الاعتقالات و الاستهدافات تتم على خلفيتين – ذات علاقة – الاولى هي الصورة الاصلاحية التي حاول محمد بن سلمان ان يقدم نفسه بها وطالت من يمكن وصفهم بالمتشددين الدينيين و الثانية هي تعبيد الطريق امام محمد بن سلمان للوصول للعرش وطالت عدد من الامراء و النخب السعودية المتوجس منها ، و بالنسبة لخاشقجي كان من المتحمسين لاصلاحات بن سلمان وان تحفظ على بعض اساليبها ، وكذلك كان من المتقبلين لمساعي محمد بن سلمان لتولي الحكم في المملكة ولم يبدر منه اي اعتراض بل كان من المبررين لذلك .
ساند جمال كثير من السياسات السعودية الخارجية وعلى وجه الخصوص مسألتين هما اهم التوجهات السياسية الخارجية وهما حرب التحالف السعودي على اليمن و علاقة الصراع مع ايران ، وشخصيا كنت بمقابلته لاكثر من مرة في مقابلات وحوارات حول ما يسمى بعاصفة الحزم الذي كان مدافعا بارائه عنها بكل وضوح .
مؤخرا نشط جمال في مايعرف بالنحل الالكتروني و هي محاولة للضغط باتجاه مزيد من حرية الرأي في السعودية عن طريق ومواقع التواصل الاجتماعي ، وباستثناء هذا و تحفظاته على بعض الممارسات الداخلية في السعودية لايوجد شيئ يستدعي ان تغامر السعودية بالنيل منه بتوريط قنصليتها في دولة اخرى كتركيا في عمل منتهك للقانون بشكل سافر كاختطاف او تصفية ، وان رغبت في ذلك فكانت ستبحث عن اسلوب اخر لايورطها هذه الورطة التي ستضعها في مواجهة العالم بمقابل الاخطار المحدودة التي يمثلها لها خاشقجي حاليا .
يحاذر المعارضون السعوديون في الخارج الدخول لسفارات او القنصليات السعودية في الخارج خشية ان لا يخرجوا منها ، لكن جمال توجه لقنصلية بلاده في تركيا لانجاز معاملة و دخل اليها وخرج بشكل طبيعي ، وهذا يعني ان جمال كان يقدر وضعه جيدا وان حجم الخطر الذي يمثله للحكومة السعودية محدود ولن يدفعها للنيل منه بمخاطرة لها تبعات سياسية كبيرة ان تم ذلك داخل القنصلية السعودية في تركيا ، مع انه كان يتوجس من استهداف سعودي له ومؤخرا جانب السفر جوا برحلات خاصة كنوع من الاحتياطات الامنية، وهذا من جانب ، كما ان دخوله للقنصلية وتقديم معاملته ومغادرته بشكل طبيعي يعني انه لم يكن مطلوبا او مبلغا به كخطير لدى السفارات و القنصليات السعودية في الخارج والا لم يكن ليخرج من زيارته الاولى للقنصلية وهذا من جانب اخر .
تلقى جمال اتصالا من القنصلية بان معاملته قد انجزت وان عليه ان يحضر لاستلام الوثائق وبالفعل اصطحب جمال خطيبته وتوجه للقنصلية ودخل اليها وبحسب خطيبته وكذلك التصريحات شبه الرسمية التركية انه لم يخرج منها . بينما القنصلية تقول انه دخل واستلم اوراقه وغادر القنصلية .
ان تقول القنصلية انه دخل ثم غادر هو القول الذي ستقوله منطقا في كلا الحالتين اي ان كان غادر او لم يغادر لن تقول غير ذلك لكن السؤال هو لماذا لم تقل القنصلية انه لم يدخل اساسا ؟ فقد كان ذلك انفى لتورطها في ما ينسب اليها من القول انه بالفعل دخل لكنه عاد وغادر .
تعرف القنصلية ان كاميرات الامن التركي حول السفارة سترصد دخول خاشقجي وانكار دخوله للقنصلية سيكون دليل نفي ذلك متوفر للاتراك ، لكن دور كاميرات الامن التركي ينتهي بوصول جمال لبوابه القنصلية وبعد دخوله تنتقل عهدة الدليل من الجانب التركي الى الجانب السعودي لان كاميراته هي التي ترصد بعد الدخول من بوابة القنصلية وهو امر يمكن التصرف فيه واخفاء الدليل ، وهو ما تم بالفعل بقول القنصلية ان لديها كاميرات لكنها لا تسجل !! .
اثبتت كاميرات الامن التركي دخول جمال للقنصلية و شهدت به خطيبته و اقرت به القنصلية ، وتثبت كاميرات الامن التركي انه لم يخرج من القنصلية كما دخل على قدميه وتشهد بذلك خطيبته لكن القنصلية تنكر ذلك وتقول انه خرج منها لكنها تورد كلاما لا منطقي فيما يتعلق بالدليل على خروجه فاصغر سوبر ماركت لديها كاميرات تسجل ولا يقبل المنطق ان كاميرات قنصلية لا تسجل .
على ذلك تكون السعودية هي التي في الموضع الضعيف لكنها لا تعتمد بالدرجة الاولى على انعدام الدليل بانكار التسجيل بل يبدوا انها تعتمد اكثر على عدم وجود جمال داخل القنصلية بالفعل وقد وافقت على زيارة صحفية مصورة تجول داخلها كما نقل عن ولي العهد السعودي عدم ممانعته تفتيش القنصلية من قبل الاتراك . اي انها تعتمد على منطق انكم تقولون انه لم يخرج من القنصلية وانه لازال بداخلها تفضلوا فتشوا القنصلية كما تشأون واعثروا عليه ان كان بداخلها مالم فعدم عثوركم عليه بداخلها هو دليل نفي دعواكم .
دخل خاشقجي القنصلية المرة الاولى وخرج بشكل طبيعي ولم تحصل الحادثة الا في زيارته الثانية وبينهما فاصل زمني كاف للتخطيط لعملية كهذه بشكل جيد وكانت القنصلية هي من حدد موعد الزيارة الثانية وهي من اتصل بجمال للحضور لاستلام اوراق معاملته ، ولاشك ان التخطيط لعملية كهذه سيكون اول مطلوباتها هو ان لايثبت بالدليل اي شيئ بحق القنصلية فالكاميرات لاتسجل و لن يعثر على جمال او جثته في القنصلية بل و لن يتم شيئ معه داخلها .
لاشك ان مسألة اخراج جمال من القنصلية هو اهم ما سيتم التخطيط له ليس فقط لتجنيب القنصلية اي تورط وانما لصعوبة اخراجه بعد تبلغ السلطة التركية بعدم خروجه من القنصلية لان الرقابة التركية ستكون في حالة استنفار ولن يخرج شيئ من القنصلية دون متابعته الى اخر مكان توجه له ، لهذا فالارجح هو ان القنصلية كانت مكان اصتياد لجمال فقط وبمجرد دخوله اليها تم السيطرة عليه واخراجه مخفيا في وسيلة ما ونقله لمكان اخر ، وتم ذلك خلال الفترة من دخوله للقنصلية وحتى قبل ابلاغ خطيبته للسلطات التركية بعدم خروجه لان هذا الوقت هو الذي يمكن فيه اخراج اي شيئ من القنصلية دون ان يتابع من الاتراك الى اين اتجه .
بينما لازال الجميع يتحدث عن احتجاز جمال في القنصلية لايام نشرت وكالة رويترز خبرا بان جمال قتل وتم العثور على جثته في مكان ما باسطنبول ، ويبدوا ان نشر هذا الخبر ومن وكالة رويترز تحديدا هو جزء من المخطط لتاكيد عدم وجود جمال داخل القنصلية ، وما يدعم ذلك هو تلاشي فكرة العثور على جثه اصلا ورد اردوغان اليوم لسؤال صحفيين يقطع بذلك وانه لاجثة قد تم العثور عليها بل ان قتل جمال لايمكن تبنيه رسميا حتى .
حتى الان و الى ان تصدر تصريحات رسمية بخصوص مصير خاشقجي تكون المسئولية واقعة على السعودية فالجانب التركي لديه الدليل على دخول جمال للقنصلية وكذا الدليل انه لم يخرج منها على قدميه كما دخل ومن بعد بوابة القنصلية ليست مسئولية الاتراك وانما مسئولية الجانب السعودي تبعا للاعراف الدبلوماسية وهي المعنية بتفسير ما حدث بداخلها مع جمال واثبات انه غادرها كما تقول . بمعنى ان الاتراك لديهم ما يثبت خروج جمال من مجال سيادتهم ودخوله لمجال سيادة السعوديين وعلى السعوديين اثبات انه عاد وخرج من سيادتهم لمجال سيادة الاتراك وان يكون معاودة الخروج تمت بكامل الارادة و السلامة مالم فالمسئولية واقعة على السعوديين حتى لو تم العثور عليه مرغما او جثة خارج القنصلية .
مابقي هو السؤال الاهم وهو لماذا تقدم السعودية على مغامرة تحملها مسئولية عالية كاستهداف خاشقجي بداية من قنصليتها وتعرض نفسها لفضيحة كبيرة في الوقت الذي لايمثل خاشقجي خطرا بالغا عليها يستحق تقبل هذه المجازفة السعودية .
من هنا يجب تقديم جمال خاشقجي ليس كما يقدمه الاعلام المهتم بالحادثة وحسب وانما يجب ان يأخذ في الاعتبار ان جمال كان احد المقربين من العائلة المالكة السعودية ولديه اطلاع قريب على كثير من التفاصيل الغير متاحة عنها ، كما انه كان مستشارا للرئيس السابق للاستخبارات السعودية ولديه اطلاع على ملفات استخبارية للدولة السعودية .
تراوح العلاقة السعودية التركية في موضع تدهور متصاعد منذ تحول تركيا للضفة الشرقية والتقارب التركي الروسي والايراني ودخلت العلاقة بينهما مرحلة احتدام بعد الازمة الخليجية وكلا الطرفين في حالة ترصد وحرب باردة في غير ملف مفتوح في المنطقة .
اختار جمال خاشقجي ان يكمل نصف دينه وان يتزوج بمواطنة تركية وهذه المواطنة قريبة لاحد مستشاري الرئيس التركي اردوغان وهي باحثة وذات علاقة بالشأن العماني وسلطنة عمان ايضا على غير انسجام مع السعودية ، كما ان جمال كان على علاقة جيدة بالمسئولين الاتراك ومن بينهم الرئيس التركي وكان يبدي ليونه تجاه الجانب التركي ويعمل على ترسيخ فكرة التحالف السعودي التركي في مواجهة ايران ، وكانت هذه المصاهرة ستزيد من الحضور التركي في حياة جمال وتزيد تبعا لذلك المخاطر المحتملة نتيجة ذلك على مايحوزه من معلومات واسرار .
على الارجح ان المعاملة التي قصد جمال القنصلية السعودية لاجلها هي من المطلوب للاتمام الرسمي لهذه المصاهرة ولم يتنبه لان السلطة السعودية لن تقبل بهذه المصاهرة مطلقا ، فهي دون شك لن تنظر للمسألة كمواطن سعودي سيقترن بمواطنة تركية وانما نظرت لها كصندوق اسود يحتوي معلومات واسرار وربما وثائق عن الاسرة المالكة السعودية و عن الاستخبارات السعودية سيكون هذا الصندوق بين يدي الاتراك اكثر من اي وقت مضى وهو امر غير قابل للمجازفة ولو دون قصد من جمال وخطيبته وقتها .
تحت هذا التخوف على ما يحوزه جمال من المعلومات ووقوعها بشكل او باخر بين يدي الاتراك وربما عمان ايضا قررت السلطة السعودية استهداف جمال في هذه الفرصة المحفوفة بالمخاطر السياسية و الدبلوماسية و القانونية العالية لكنها اهون من ترك صندوق اسود بالنسبة لها يقع في فرصة سانحة لخصومها ، وهذا ما يمكن قرائته في ظل ماهو متوافر حتى الان من الملابسات والمعلومات ولننتظر ماسيستجد .
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.