الانتخابات قسِّم اليمنيين
لم تفلح الاتفاقيات التي وقعتها الأحزاب في اليمن خلال العامين الماضيين في تجنب أزمة سياسية تعيشها البلد اليوم، بعد أن افترق طرفا المعادلة السياسية بسبب الانتخابات التشريعية المقبلة، المقرر أن تشهدها البلاد في السابع والعشرين من إبريل/ نيسان المقبل، حيث يصرّ حزب المؤتمر الشعبي العام على تجنب فراغ دستوري في حال لم تجر الانتخابات في موعدها، فيما ترفض المعارضة الممثلة بأحزاب اللقاء المشترك إجراء الانتخابات من دون إصلاحات سياسية وانتخابية واضحة .
الأسبوع الماضي كان حاسماً للحزب الحاكم في هذا الشأن عندما صوتت كتلته البرلمانية التي تتمتع بأغلبية في مجلس النواب تصل إلى أكثر من 80% ، على مشروع تعديلات على قانون الانتخابات سبق وأن توافق الحزب الحاكم والمعارضة على أغلبيتها قبل عام، إلا أنها لم تقر بسبب خلافات حول أسماء أعضاء اللجنة العليا للانتخابات .
وتوالت الخطوات التي اتخذها الحزب الحاكم بعدما أقر تشكيل اللجنة العليا للانتخابات من القضاة عوضاً عن اللجنة السابقة التي كان يجري تعيين أعضائها من قبل الأحزاب السياسية بنسبة تصل إلى 60% للحزب الحاكم و30% للمعارضة المنضوية في إطار اللقاء المشترك و10% لبقية المعارضة والقريبة من الحزب الحاكم، قبل أن يصوت البرلمان على أسماء 15 قاضياً اختار الرئيس علي عبدالله صالح تسعة منهم ليشكلوا اللجنة الجديدة وأصدر قراراً جمهورياً بذلك .
جرت هذه التطورات في غضون أيام قليلة برهنت على جدية حزب المؤتمر الشعبي العام على حسم الخلافات مع معارضيه بطريقة أوحت للمراقبين ضيق الحزب الحاكم بسياسة المعارضة التي يعتقد المؤتمر الشعبي العام أنها تريد جره إلى تأجيل ثان للانتخابات أو إيصال البلد إلى مرحلة فراغ دستوري يتعذر معه إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، وقد يجر ذلك إلى فراغ دستوري لولاية رئيس الجمهورية نفسه التي تنتهي في سبتمبر/ أيلول من العام 2013 .
وبصرف النظر عن التزام الطرفين بضوابط الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها من أجل السير في خطين متوازيين، أي إجراء الانتخابات والحوار السياسي، فإن المؤتمر الشعبي أراد اختصار الطريق إلى محطة الانتخابات، حتى لو كانت هناك مخاطر قد يواجهها بسبب عدم دخول المعارضة في هذه الانتخابات وما سيمثله ذلك من تحديات من بينها إفراز مجلس نواب غير متوازن تتآكل شرعيته مع الوقت، بالإضافة إلى ما قد يواجهه من أزمات على الأرض، بخاصة في إطار الحرب مع المتمردين الحوثيين في الشمال وأنصار الحراك في الجنوب، والمواجهات الدامية والمستمرة مع تنظيم القاعدة في مناطق مختلفة من البلاد، يضاف إليها تهديدات المعارضة بالنزول إلى الشارع وجميعها تحديات صعبة تفرض على الحزب الحاكم إعادة حساباته في المرحلة المقبلة للخروج بأقل الخسائر وأكبر المكاسب .
هل تنزل المعارضة إلى الشارع؟
لم تكن خطوة الحزب الحاكم مفاجئة للمعارضة، فقد كانت معظم المؤشرات، خاصة في الأسابيع الأخيرة تؤكد عزم الحزب الحاكم “فك الاشتباك” مع المعارضة حول قضية قانونية ودستورية شائكة تتمثل في إجراء الانتخابات من عدمها، فالحزب الحاكم كان ولا يزال يرى أن عدم إجراء الانتخابات في موعدها المحدد في السابع والعشرين من شهر إبريل/ نيسان من العام المقبل، يدخل البلد في فراغ دستوري كبير، لأن شرعية مجلس النواب تنتهي بعد ثلاثة أشهر فقط، أي عندما يحين الموعد الدستوري لدعوة الرئيس صالح لمواطنيه بالتوجه إلى صناديق الاقتراع .
لكن المعارضة كانت تراهن على عامل سياسي آخر، والمتمثل في الحوارات التي كان يقودها ممثلو الطرفين للوصول إلى اتفاق يسمح بتوافق سياسي يفسح المجال لإجراء انتخابات تشريعية يشارك فيها الجميع من دون استثناء، وهو مطلب ليس محلياً فحسب، بل وإقليمي وعربي ودولي، غير أن الإشارات التي أرسلها حزب المؤتمر الشعبي العام أكثر من مرة عن عدم التزام المعارضة بما يجري الاتفاق عليه أعطى مؤشرات بتوجهه نحو الحسم داخل البرلمان، وهو ما حصل بالفعل .
وكانت أولى هذه المؤشرات تلك التي أطلقها الرئيس علي عبدالله صالح بعد أيام قليلة من إسدال الستار على بطولة “خليجي 20”، والتي قدمت النظام إلى المواطن الخليجي والعربي بشكل مختلف، ففي خطاب له أكد صالح أن الحوار والانتخابات يجب أن يسيرا في خطين متوازيين، كما اقترح أن يتم تشكيل اللجنة العليا من القضاة، الأمر الذي اعتبر بمثابة إشارة إلى حزب المؤتمر لأن يتحرك في مجلس النواب لإقرار التعديلات على قانون الانتخابات وإعادة تشكيل اللجنة العليا للانتخابات بموافقة المعارضة أو بدونها .
وجاء التحرك المؤتمري في البرلمان ليضع نهاية للاتفاق السياسي الذي أبرمه مع المعارضة في شهر يوليو/ تموز من العام الجاري، والذي حدد آلية تطبيق اتفاق فبراير/ شباط من العام الماضي، وبإقرار التعديلات بحكم الغالبية التي يتمتع بها المؤتمر وضع الطرفان نفسيهما وجهاً لوجه من جديد .
المعارضة رفضت الخطوة التي أقدم عليها الحزب الحاكم وعدّها “انقلاباً على الاتفاقيات السياسية وعلى الديمقراطية”، ورفضت التسليم بمبررات المؤتمر ؛ فعقدت مؤتمراً صحافياً دعت فيه إلى “هبة غضب شعبية متواصلة شاملة لا تهدأ إلا باستعادة خياراته الوطنية الديمقراطية المشروعة وحقه في التغيير وتحقيق الشراكة الوطنية في السلطة والثروة وفي العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية” .
ورفضت المعارضة القرار الذي انفردت به كتلة حزب المؤتمر الشعبي العام بإقرار التعديلات على قانون الانتخابات من طرف واحد، واعتبرته “انتهاكاً صارخاً للدستور والقانون ولائحة عمل مجلس النواب وأعراف وتقاليد العمل البرلماني وانقلاباً مكشوفاً على اتفاق 23 فبراير 2009”، وحذرت من “مغبة ما تدفع إليه القلة الفاسدة من السير المنفرد في انتخابات مزورة تستهدف إبقاء البلاد تحت طائلة الفساد إلى ما لا نهاية” .
وجددت المعارضة تمسكها بحقها في اللجوء إلى الشعب، الذي قالت إنه “صاحب المصلحة الحقيقية بالتغيير لتحقيق التغيير السلمي بالوسائل الشعبية”، وطالبت بالسير في الحوار الوطني وعقد مؤتمر للحوار الوطني في الثلث الأول من العام القادم وبتمثيل شعبي واسع يمنحه شعبية شرعية تمكنه من تحديد آليات التغيير وتنفيذها، بالإضافة إلى استمرار كتلة المعارضة النيابية في اعتصامها في البرلمان إلى نهاية هذا الشهر .
ويبدو أن حالة الحنق لدى المعارضة دفعها للأخذ بالخيار الصعب، وهو خيار النزول إلى الشارع، ما خلق تخوفات من صدامات بين أنصار الحزب الحاكم والمعارضة إذا لم يتوصل الطرفان في المستقبل القريب إلى اتفاق يجنب البلد خضات عنيفة، وقرر حزب المؤتمر الشعبي العام السير لوحده في الانتخابات التشريعية دون الأخذ بالاعتبار تعقيدات الوضع الداخلي .
في مقابل تحركات المعارضة رمى حزب المؤتمر الشعبي بكل ثقله لتوضيح موقفه من التطورات المتصلة بالانتخابات، حيث أكد أنه قدم العديد من التنازلات للمعارضة التي لم تتجاوب مع هذه التنازلات، بل واعتقدت أن ذلك ضعف لدى الحزب .
فبعد مؤتمر المعارضة بيوم واحد عقد المسؤولون في المؤتمر الشعبي العام وحلفاؤهم في التحالف الوطني الديمقراطي مؤتمراً مضاداً للمعارضة فنّدوا من خلاله المواقف المؤتمرية ومواقف المعارضة .
ويقول الأمين العام المساعد لحزب المؤتمر صادق أمين أبو رأس إن حديث المعارضة عن الشعب “هو جزء من آلية الخداع والتضليل التي تمارسها تلك الأحزاب من خلال افتعالها للأزمات المتوالية وإعاقة مسيرة التنمية وتشجيع الأعمال الخارجة عن القانون والدستور في محافظة صعدة والمحافظات الجنوبية، إضافة للأعمال الإرهابية”، وقد جمع المعارضة في سلة واحدة مع المتمردين الحوثيين وأنصار الحراك الجنوبي وتنظيم القاعدة، وهو ربط دأب الحزب الحاكم عليه منذ سنوات، إذ يعتقد أن هناك “حبلاً سرياً” يربط المعارضة بالأطراف المعادية لليمن .
ويشير أبو رأس إلى أنه “منذ توقيع اتفاق فبراير/ شباط العام الماضي والمؤتمر يقدم تنازلات تلبي طموحات وتطلعات الجماهير اليمنية، إلا أن المعارضة تتنكر لهذه التنازلات وللمبادرات التي قدمها الحزب من بينها إعادة تشكيل لجنة عليا للانتخابات وتشكيل حكومة وحدة وطنية، إضافة إلى تشكيل لجنة مصغرة من الأحزاب الممثلة في مجلس النواب للاتفاق على التعديلات الدستورية”، معتبرا أن “الحزب استنفذ كافة السبل ولم يبق أمامه سوى مطالبة مجلس النواب لتحمل مسؤوليته الدستورية وإقرار قانون الانتخابات” .
ولم يفوت الحزب الحاكم فرصة دعوة كافة الأطراف السياسية للمشاركة في الانتخابات بما فيها المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، لكن الأسئلة بدأت تترد حول ما إذا كان الحزب الحاكم سيكون مصراً على الذهاب إلى الانتخابات بمفرده، وما هي انعكاسات هذا الخيار على طبيعة العلاقة بين السلطة والمعارضة، ثم كيف ستكون عليه صورة المشهد في ظل تقاطع المواقف بين الجانبين، وهل تفرز الانتخابات برلماناً متوازناً أم سيكون محل اتهام بعدم الشرعية، وهناك سؤال أكبر يتعلق بالسيناريوهات الممكن حدوثها بين الجانبين، وهل يمكن أن تغير المعارضة مواقفها لصالح الذهاب للانتخابات بموجب صفقة ما؟
يعتبر رئيس منتدى التنمية السياسية علي سيف حسن أن ما يجري اليوم بين الأحزاب السياسية في السلطة والمعارضة “مجرد مناورات أكثر من كونها خيارات جادة”، أي أنه لا الحزب الحاكم ولا المعارضة لديهما النية في السير بمواقفهما إلى النهاية، ويعني ذلك أن يدخل الطرفان في حوارات جديدة تقود إلى توافق سياسي يقضي بتأجيل الإنتخابات بضعة أشهر .
ويستند على سيف حسن في توقعاته هذه على تجارب ماضية وصلت فيها الأطراف إلى حافة الهاوية قبل أن تبدأ بالتراجع، وهو بذلك يؤكد إمكانية تراجع طرفي الصراع السياسي في أية لحظة عن خياراتهما “التفرد” بالنسبة للحاكم و”الشارع” بالنسبة للمعارضة .
ويرى حسن أن الأمور اليوم على حافة خطين متناقضين فإما تنافس تعددي طبيعي وكل يذهب في طريقه ويلتقون أمام الديمقراطية وإما انهيار المركز في صنعاء بكل مكوناته، السلطة والمعارضة معاً، محذرا من انهيار المركز وضعفه وانكماشه بمقابل قوة الأطراف وخروجها عن الخط العام إذا لم تعمل الأطراف السياسية إلى تقوية كليهما أو أي منهما لرفع حاملة التطور السياسي .
التحديات الثلاثة
تبدو مواقف الأطراف الأخرى في الساحة مؤثرة إلى حد كبير في المشهد المقبل، فالأوضاع في المناطق الشمالية تهيمن عليها الصراعات القائمة مع الحوثيين والتي تزايدت في الآونة الأخيرة لتصبغ المشهد بمفردات مواجهات محتملة بين المتمردين الحوثيين وقوات الجيش، وصعّد الحوثيون من لهجتهم الحادة ضد النظام، بخاصة بعد مقتل وجرح عدد من أنصارهم في سجن الأمن القومي بمحافظة صعدة، إضافة إلى ذلك بدء التقارب السياسي بين المتمردين الحوثيين والمعارضة، بعدما انضمت اللجنة الوطنية للحوار الوطني المتحالفة مع المعارضة إلى قائمة المتحالفين مع الحوثيين، حيث جرى توقيع اتفاقية بين الجانبين في محافظة صعدة .
وهذا يعني أن الدولة ستجد صعوبة في دخول المناطق التي يهيمن عليها الحوثيون في صعدة وبعض مناطق محافظة عمران والجوف، أو على الأقل إجراء الانتخابات فيها في أجواء طبيعية من دون أية مشاكل قد تحدث هنا أو هناك .
في المقابل هناك تحديات ستواجهها الدولة في بعض المناطق الجنوبية من البلاد، بخاصة في ثلاث محافظات هي لحج، الضالع وأبين، حيث لا يزال التوتر على أشده بين الجانبين، فضلاً عن موقف الحراك الجنوبي المعارض لإجراء انتخابات في مناطق الجنوب .
إلى جانب ذلك هناك مجازفة حقيقية في إجراء الانتخابات في ظل المواجهات القائمة بين السلطات وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والذي يراهن على إفشال الانتخابات بأي شكل كان .
وتعد الأوضاع المعيشية الصعبة والجرعات السعرية التي اتخذتها الحكومة مؤخراً واحدة من الأمور التي قد تدفع المواطنين إلى العزوف عن المشاركة في هذه الانتخابات كما كان الوضع في الانتخابات السابقة التي شهدتها البلاد .
لهذا كله تحاول السلطة إيجاد مخرج حقيقي لحالة التفكك في مواقف الأطراف السياسية في البلاد تجاه الانتخابات، خاصة وأن العديد من الأطراف الإقليمية والعربية والدولية ترى ضرورة أن تجري انتخابات نزيهة وبمشاركة الجميع، وهو ما عبرت عنه الإدارة الأمريكية مؤخراً، والتي أكدت من خلال مسؤول كبير في الخارجية أن الولايات المتحدة تدعم إجراء انتخابات موثوق بها ونزيهة وأن تكون كافة الأطراف السياسية حاضرة فيها .
من هنا ربما ستكون الانتخابات المقبلة واحدة من أكثر دورات الانتخابات تعقيداً في البلد منذ قيام دولة الوحدة في الثاني والعشرين من شهر مايو/ أيار ،1990 فالانتخابات التي تجري اليوم تهيمن عليها الانقسامات السياسية أكثر من أية انتخابات سابقة، والأطراف المختلفة لم تعد تختلف حول جزئيات صغيرة، بل في جوهر الانتخابات نفسها، حيث ترى المعارضة أن إجراء انتخابات بهذه الصورة وبجداول الناخبين السابقة التي أضاف إليها البرلمان مادة مؤقتة لتكون أساساً للانتخابات المقبلة يجعل الانتخابات غير شرعية من وجهة نظرها، وستبني علاقتها مع السلطة ومواقفها في الشارع على هذا الأساس .
ويخشى مراقبون من أن تتحول الانتخابات من وسيلة لتطوير النظام السياسي وترشيد العملية الانتخابية لتكون أكثر قوة من قبل إلى وسيلة تفريق بين الأحزاب السياسية التي ستجد نفسها تتشرذم بين مؤيد للانتخابات ومعارض لها .
وبكلمة أخرى فإن الانتخابات سوف تقسم اليمنيين في مرحلة أحوج ما يكونون فيها إلى الوحدة وتجنب الانقسامات حفاظاً على ما تبقى من الدولة التي أكلتها الحروب منذ قيامها قبل عشرين عاماً وحتى اليوم، فحجم التحديات التي تواجهها البلد ليست هينة، والذهاب إلى استحقاق مهم كهذا في ظل تباين المواقف وانقسام الشارع يزيد الأمور تعقيداً ويحول الخلافات الصغيرة إلى معارك كبيرة، فإذا أضفنا تحديات الحراك الجنوبي والحوثيين والقاعدة إلى الخلافات بين السلطة والمعارضة فإننا نكون أمام مشهد مقلق، يفرض على الجميع سلطة ومعارضة التعامل معه من زاوية الحرص على أمن ووحدة واستقرار البلد خوفاً على كل ذلك من الضياع.
المصدر: جريدة الخليج ـ الكاتب صادق ناشر