المنطـــــــــق المضـــــــــاد للمنطـــــــــق

يمنات
إذا كان اللواء علي محسن الأحمر أول من طالب بخروج المعسكرات من العاصمة كما يحاجج الناطقون باسمه ومؤيدوه الرافضون لمطلب خروج المعسكرات من صنعاء، فالأولى به أن يكون أول المؤيدين لهذا المطلب.. أليس هذا هو المنطق؟ بالنسبة للناطقين باسم قائد الفرقة الأولى مدرع ومؤيديه، المنطق هو العكس تماماً: أن يكون علي محسن أول الرافضين لهذا المطلب.
مناشدات الخميس الماضي الموجهة من أمين العاصمة وتكتل اللقاء المشترك إلى رئيس الجمهورية بإصدار توجيهاته القاضية بإخراج المعسكرات من المدينة على إثر انفجار مخزن الأسلحة في معسكر الفرقة واجهت رفضا شديدا وقاطعا من الناطقين باسم قائد الفرقة ومن حلفائه السياسيين، وقد كان أول ما حاجج به هؤلاء هو أن علي محسن كان أول من طالب بخروج المعسكرات من العاصمة! وهكذا، أصبحت مطالبته "المبكرة" بإخراج المعسكرات من صنعاء حجة لرفض مطالبة المشترك وعبدالقادر هلال والناس بالشيء نفسه! هذا نوع جديد وغير مسبوق من المنطق المعاكس للمنطق التقليدي المتعارف عليه عالميا والتي أمضت البشرية آلاف السنين في بنائه وتشييده، ويمكننا أن نطلق عليه اسم: المنطق المضاد للمنطق.
في أحد تصريحاته الصحفية الأخيرة، بدأ القيادي الإصلاحي المعروف محمد قحطان محاججة المطالبين بإخراج المعسكرات من العاصمة بنفس الحجة: علي محسن كان أول من طالب بإخراج المعسكرات من العاصمة. وكذلك الحال بالنسبة لرئيس نيابة المنطقة الشمالية الغربية في الفرقة الأولى مدرع.
في منشور على صفحته في موقع "فيسبوك" مرفق بخارطة تظهر مواقع المعسكرات المتواجدة داخل العاصمة وحولها، علق عبدالله الحاضري قائلا: "لم تكن انفجارات صواريخنا علةً لمطالبهم بإخراجنا. لكنها لمّا انفجرت أحيت قلوبهم التي انفجرت كمداً قبل صواريخنا"، وأضاف: "وللمحبين اقول: نريد الخروج وهو مطلبنا، لكن تقدير الزمن متروك لنا. أنخرج اليوم والأعداء ملتفون حولنا؟ انظر الى الخارطة ستجد أنه من الغباء القول إنه حان وقت خروجنا".
منشور الحاضري سعى إلى تقديم الخارطة المرفقة به كحجة ثانية ودامغة توضح وتسند الأولى. فرغم أن مطلب إخراج المعسكرات من العاصمة هو مطلب علي محسن وفرقته أصلا، إلا أنه من الغباء أن يقدم صاحب المطلب على تنفيذه الآن، بحسب كلامه. لماذا؟ يجيب المنشور: انظروا الى الخارطة، انظروا الى "الأعداء الملتفين حولنا"! غير أننا عندما نلقي نظرة على الخارطة المرفقة، نجد بسهولة أنها لا تشكل حجة دامغة وكافية- كما تصور- لـ"افْـحَـام" المطالبين بإخراج المعسكرات من العاصمة وإقناع "الأحبة" بعدم صوابية مطلب خروج المعسكرات، بل هي تشكل حجة إضافية دامغة لتعزيز صوابية هذا المطلب.
الخارطة تظهر 11 معسكرا تابعا للأمن والجيش منتشرة داخل وحول العاصمة، منها 10 معسكرات تظهر باللون الوردي مقابل معسكر وحيد ظهر باللون الأبيض. المعسكرات الوردية الـ10 تابعة للحرس الجمهوري والأمن المركزي التي تخص من وصفهم بـ"الأعداء الملتفين حولنا"، فيما أشار للمعسكر الأبيض في هامش منشوره بقوله: "المنطقة البيضاء فقط للفرقة الاولى مدرع".
بصرف النظر عن التقسيم اللوني والسياسي والعسكري لها، فالمعسكرات بعددها المهول الظاهر على الخارطة المنشورة لا تثبت أبدا صوابية طرحه الرافض لمطلب الخروج بل تثبت صوابية هذا المطلب وضرورته القصوى. فأصحاب مطلب الخروج يؤكدون على ضرورة تنفيذ هذا المطلب حفاظا على أرواح المواطنين المدنيين من سكان صنعاء الذين أكدت انفجارات الخميس المرعب أنهم يعيشون في خطر حقيقي في ظل وجود المعسكرات وسط أحيائهم السكنية المأهولة. فقد الحقت انفجارات الفرقة أضرارا غير معروفة بدقة في أرواح وممتلكات المواطنين الذين يعشون في أحياء سكنية مأهولة حول معسكر الفرقة، وتطايرت الصواريخ والقذائف الى انحاء متفرقة وبعيدة داخل العاصمة.
وهذا حدث داخل معسكر واحد فقط أصبح واضحا إلى أي مدى بات يشكل وجوده وسط الأحياء السكنية المأهولة خطرا كبيرا على أرواح السكان المدنيين وممتلكاتهم، ما بالك بوجود 11 معسكرا داخل المدينة: هذا يعني أن سكان صنعاء يعيشون داخل مدينة مفخخة حرفياً، وهذا لا يشكل الشق الوحيد من الخبر السيء.
الشق الآخر من الخبر السيء يتعلق بتركز أغلب القوة العسكرية للأمن والجيش داخل العاصمة ما يعني أن أغلب مناطق البلد الواقعة خارج العاصمة متروكة على الدوام للانفلات والفوضى وغياب السيادة بما فيها حدود البلاد. وهذا خطأ وطني استراتيجي يمس أمن واستقرار وسيادة اليمن بلدا وشعبا بشكل مباشر. وبالتالي، فإن مطلب إخراج المعسكرات من داخل العاصمة وإعادة توزيعها خارجها يشكل قضية وطنية حقيقية وماسة لا تخص سكان صنعاء فقط، بل البلد بشكل عام.
غير أن هذا كله- كما يبدو- لا يعني شيئا لعبدالله الحاضري الذي لا يكترث لما يشكله وجود الفرقة ومعسكرات الحرس والأمن الأخرى وسط أحياء العاصمة المأهولة بالسكان من خطر على هؤلاء السكان، ولا لأمن واستقرار وسيادة اليمن، بل يكترث فقط للخطر الذي ستشكله معسكرات الأعداء الوردية على معسكره الأبيض الوحيد في حال تم تنفيذ مطلب خروج المعسكرات! وهذا ليس منطق قائد عسكري وطني يمني يتحلى بأي قدر من المسئولية تجاه أرواح اليمنيين، بل منطق رجل عصابة.
لكن، مع هذا، دعونا نسلم جدلا بمنطق الرجل الذي قال إننا إذا نظرنا الى الخارطة ورأينا "الأعداء الملتفين حولنا" فسنجد "أنه من الغباء القول إنه حان وقت خروجنا". لم يوضح من الذين قصدهم بكلمة "حولنا": هل قصد بها نحن سكان العاصمة أم قصد بها قوات الفرقة؟ في كلتا الحالتين، الخارطة تؤيد صحة كلام الحاضري بشأن واقع الحصار الذي تشكله المعسكرات الوردية الـ10 على العاصمة وسكانها كما على المعسكر الأبيض والوحيد. لكن هل يؤكد هذا الحصار العسكري المضروب على المدينة والفرقة وجهة نظر الحاضري التي اختتمها قائلا إن "من الغباء القول إنه حان وقت خروجنا (الفرقة)" في ظل واقع الحصار العسكري هذا؟
طرح الحاضري حمل مغالطة كبيرة وصارخة، وهي المغالطة نفسها التي حملتها محاججة كل الرافضين من الناطقين باسم قائد الفرقة وحلفائه السياسيين لمطلب خروج المعسكرات. هذه المغالطة تمثلت في محاولتهم إظهار أن مطلب خروج المعسكرات يقتصر على معسكر الفرقة فقط ولا يشمل أيضا معسكرات "الأعداء الملتفين حولنا"، وهذا أمر غير صحيح البتة. فمطلب خروج المعسكرات يشمل كل المعسكرات: وردية اللون منها مع المعسكر الأبيض. وإذن، تسقط حجة الحاضري القائلة إن من الغباء تنفيذ مطلب الخروج في ظل وجود "الأعداء الملتفين حولنا" في حال قصد بـ"حولنا" سكان العاصمة لأن صنعاء ستتخلص من جميع المعسكرات بلا استثناء.
والأمر نفسه في حال قصد بكلمة "حولنا" قوات الفرقة. فبقاء الفرقة داخل العاصمة يعني استمرار بقاء المعسكرات الـ10 التابعة لـ"الأعداء الملتفين حولنا" أيضاً. وهذا يعني أن خطر معسكرات الأعداء الوردية على المعسكر الأبيض الوحيد سيظل قائما في أي مواجهة محتملة بحكم تفوقها الواضح عليه في العدد والعدة. وإذن، سقطت حجة الحاضري في احتمالها الثاني أيضاً، إلا في حالة واحدة.
الاحتمال الوحيد الذي يجعل من حجة الحاضري، المتعلقة بالتهديد الذي يشكله خروج المعسكرات من العاصمة على معسكر الفرقة في ظل واقع التفوق العسكري لـ"الأعداء الملتفين حولنا"، مفهومة يبرز في حال قصد بأن قوات الفرقة ستكون مكشوفة للأعداء ومعرضة لخطرهم إذا ما غادرت مكانها وسط العاصمة: أي في حال تخلت عن الدروع البشرية التي يشكلها لها المواطنون المتواجدون في الأحياء السكنية المأهولة المحيطة بها. لكن هذا يضعنا أمام احتمال بشع للغاية مفاده أن: قادة الفرقة يحتمون بالأحياء السكنية المأهولة المحيطة بمعسكرهم ويتعاملون مع سكان هذه الأحياء وسكان العاصمة عموما باعتبارهم دروع بشرية.
فهل هذا هو فعلا سبب استبسال قائد الفرقة وحلفائه في رفض مطلب خروج المعسكرات من العاصمة؟ ربما. لكن هذا كلام خطير لا يثبت ويعزز حق معسكر الفرقة ولا أي معسكر آخر في البقاء وسط الأحياء السكنية المأهولة داخل العاصمة، بل على العكس تماما: إنه يثبت ويعزز مطلب إخراج المعسكرات من العاصمة ويجعل منه قضية وطنية ملحة للغاية.
غير أن المسألة لا تبدو بهذه البساطة أيضا. فمن المعروف جيدا أن احتمال تفجر صراع عسكري واسع وحاسم داخل العاصمة أو خارجها بات أمراً مستبعداً في ظل التسوية السياسية القائمة والقبضة الدولية الممسكة بزمام الأمور والتي كانت السبب وراء عدم السماح لطرفي الصراع في تفجير صراع عسكري واسع وحاسم. وإذن، لماذا يرفض علي محسن وحلفاؤه مطلب إخراج المعسكرات من العاصمة؟ ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، لكن المجال لا يسمح بالتوسع هنا، وسنحاول الإجابة عليه إن واتتنا فرصة قادمة.
وبشكل عام، يبدو من الواضح أن الناطقين باسم علي محسن وحلفائه السياسيين الرافضين لمطلب إخراج المعسكرات من العاصمة يفتقرون تماما للحجة. ولتعويض غياب الحجة، يلجؤون إلى تقديم حجج لا تثبت وتعزز صوابية موقفهم لهذا المطلب الوطني الملح، بل تثبت وتعزز صوابية المطلب نفسه الذي يرفضون. وهم، إذ يفعلون ذلك، يحاولون إقناع مؤيديهم بصفة رئيسية وفق المنطق العكسي المقلوب الذي أسميناه هنا بـ: المنطق المضاد للمنطق. ولعل في هذا استخفاف كبير وصارخ بعقول اليمنيين وبعقول مؤيديهم تحديدا.
عن: يومية الأولى