شجرة وارض يمنية أو سعودية

يمنات
بجانب البوابة الرئيسية للسفارة السعودية في صنعاء، تطل شجرة كبيرة من السور، بدأت مع نيسان تكتسي فروعها العارية بالورق. اسم الشجرة العلمي اللبخ، وتسمى في مصر دقن الباشا، وفي الشام اشجار هشام. وهي شجرة تشكل محيط واسع حولها، ذات أوراق ريشية مركبة، تتدلى منها قرون صغيرة، كعادة الفصيلة البقولية. كان سيكون وجود هذه الشجرة عادياً في زاوية السفارة، باعتبارها جميلة وكثيفة الخضرة. كما تتميز بالميحط الواسع الذي تتخذه، وهي الدائرة التي تجعلها تقفز لتطل اغصانها الريشية على الشارع. لكن ذلك الملفت لا أريد مسبقاً أن يخرج عن سياق التوقع، والمقاربات التي لا يفترض ان نحملها اثقل من احتماليتها. فالشجرة قد تثير كذلك العلاقة الملتبسة بالسعودية لسبب وحيد أنها من الاشجار التي تنمو في مدينة جيزان، حسب التسمية اليمنية، وجازان حسب التسمية السعودية. وهي احد المناطق التي كانت تتبع جغرافية اليمن التاريخية.
والسؤال ما إن كان وضع الشجرة في ذلك المكان، يحمل مغزى ما؟ أي أن السفارة أرادت أيضاً التأكيد على هويتين للمدينة، هوية يمنية تاريخية، وهوية سعودية سياسية.
فالشجرة أيضاً تطل علينا من سور سفارة سعودية، وهي نفس الدلالة حين تطل مدن الجنوب السعودي في حنين ذكرياتنا الوطنية.
لست مع الاستمرار في علاقات قائمة على التوتر بيننا. ولست مع فكرة أن نطالب بإعادة اراضي كانت يمنية، بصورة تلغي مواطني تلك المدن، وكأنهم مجرد دمى، تلحقهم السياسة حسب تقلباتها، دون أن يكون لهم رأي أو موقف. بمعنى أنهم أصحاب الشأن في تقرير أي مصير سياسي في المستقبل. بالطبع، الحديث عن ذلك أيضاً من الترهات. فليس من المنطقي أن ننبش صراعات جغرافية مع جارة، يفترض أن تقوم علاقتنا على مصالح استراتيجية.
أنا لست مع اعطاء الأشياء مغزى يفوق الواقع، لا نعطي الأشياء أبعاداً ميتافيزيقية، ونقرأ غيبياتها. فانا أرجح، وأكاد أجزم، أنها زُرعت في ذلك المكان، لأنها أفضل خيار جمالي، لشجرة تستطيع التعامل مع بيئة صنعاء القاسية قليلة الماء. ربما الشخص الذي قرر وضعها، ينتمي لمدينة جيزان، فالناس حينما يذهبون أمكنة، يصطحبون أشياء تخص بيئتهم. لماذا نحاول قراءة الأشياء بأحكامنا الخاصة. لقد كان سبب أنشدادي للشجرة ليس على علاقة بطبيعة السياسية الملتبسة بين الجارتين.
دعوني لا أكون شوفينياً في المسألة الوطنية، فكثير من الحدود للدول تأخذ طابعاً متغيراً مع الوقت، واذا عدنا لتاريخ دول كبولندا وحتى دول كبيرة كفرنسا والمانيا، فقد تغيرت حدودها وتداخلت فعل التغيرات السياسية. بلجيكا نشأت منذ قرنين ربما، على اراضي فرنسية وهولندية. وكذلك يحمل التاريخ الكثير من الصراع الفرنسي الالماني، فقد اتخذ تصور لزعامة الدولة الرومانية المقدسة، في القرون الوسطى. وفي العصور الحديثة، تشكل بطابع الحروب الدينية: كاثوليك- بروستانت. الأوطان لا تبقى كما هي إلا في ذاكرتها. قليل من الأوطان تحتفظ بجغرافيتها كما هي. وعندما حاول هتلر أن يجعل المانيا تسترجع ذكرياتها، اراضيها الطبيعية، تشكل الطابع الشوفيني للقومية الخرقاء. واهتاجت الذاكرة لتغلف أوروبا. كانت اقسى حرب عرفتها البشرية. مع ذلك هذا التنافس في اوروبا بدأ يتسم بملامح اقتصادية.
دعونا كيمنيين نتخلى عن انفعالاتنا. دعونا نفكر قليلاً، ونتعامل مع وقائعنا كما هي. أليست ظفار أيضاً جزء من اليمن التاريخي. لكن هل اليمن كما هي. تهامة، كمفردة قادمة من الآلهة البابلية تياميت، وتمثل الماء المالح، وكما هو معروف فتهامة تشكل الارض المطلة على البحر الأحمر وتشترك فيها ارض اليمن والحجاز. فالاله البابلي مردوخ ذو الوجه النوراني استطاع هزيمتها وشطرها شطرين ليحل النظام مكان الفوضى. للذاكرة أيضاً أرض في الأساطير القديمة، وإن لم نعرف. لكن اليمن أيضاً اسطورة سامية بامتياز. وتقول المعتقدات القديمة أنها ارض الآلهة. مع هذا فالنفط يفوق آلهات الساميين القدماء قوة. تنوم بابل اليوم على حروب طائفية. شكل النفط ازدهار لممالك دون أن تتشكل حضارة. اليمن تعيش مدفونة تحت ركام ذكرياتها وماضيها، ولا تستطيع حتى تذكر تياميت حين كان العالم ظلمة وكان يعمه الماء، كما في اسطورة البابليين. لست مع تلك التحيزات الاسطورية. كما لست مع اختلاق هويات اسطورية للأوطان.
بعيداً عن انفعالات الخطاب الثوري، والحماسة الوطنية، لدينا مصلحة أن تكون علاقتنا بالسعودية متوافقة، وقائمة على تطلعات مستقبلية، وليس على التباس التاريخ. لست كما لوثنا الخطاب السياسي، مجرد آيادي ممتدة لصدقات الجار الغني. على العكس، فنحن تحولنا من مجتمع يتنج، إلى آفات اتكالية. نجاري اغنياء النفط، لأن النخب تؤجر نفوذها الوطني لمال الخارج. مشائخ ورجال دولة، وحتى نخب، اصبح همها كيف ترفع ثمن ما تؤجره، أي الولاء لليمن. يقول كارلوس فوينتس حتى تتشكل هوية وطنية، عليها تصور عدو. الهويات الأوروبية تشكلت أيضاً على تصور أعداء، ثنائيات: المانيا- فرنسا، انجلترا تدخل بين الطرفين، روسيا ازدهرت كامبراطورية في الثلاثة القرون الأخيرة. لكن هويتنا الوطنية تتوقف على المال، تنقسم الهوية الوطنية نحو عدوين؛ السعودية وايران. تتبارى الهويتين لكن على ايقاع التمزق اليمني.
كنت سأتمنى أن تكون علاقتنا بالسعودية شبيهة بالشجرة كثيفة الخضرة. لكن السعودية تفكر دائماً خارج مصالحها الاستراتيجية. هي لا تفكر ببعد استراتيجي عميق، بل تفكر بعاطفة ذكرياتها، تعيش على وصية قالها الأب المؤسس، أن قوة السعودية تسير في علاقة عكسية مع قوة اليمن. لا يعني أن النظرية في ذلك الوقت لم تكن صالحة، بل على العكس. كان عبدالعزيز آل سعود يتمتع بذكاء فطري، مكنه من انشاء مملكة كبيرة. لكن النظريات لا تستمر، ولا تصمد. الزمن كفيل بتغيير الحقائق. حتى نظرية نيوتن عن الذرة تغيرت. في الواقع، اثبتت التغيرات، ان السعودية ايضا تتأثر بالفوضى اليمنية. لا أدري كيف يفكر صانعو السياسة السعودية. هل هناك حقاً سياسات مرسومة؟ أو ان العادات العربية تعيش دائماً على الارتجال والانفعال.
علاقتنا بالسعودية في الواقع، انفعالية أكثر منها واقعية. لا أدري إن كان بناء سور على الحدود، يكف من تسرب الاضطرابات اليمنية إلى السعودية. لماذا تكتفي السعودية على شراء النفوذ في اليمن، عبر مرتزقة يشكلون نخب، ولاءاتهم يصوغها المال سواء كان سعودي أو قطري أو حتى إيراني، أو أي شيء آخر. تغلف السعودية مالها بالايدلوجيا، كما ايران تغلفه. لكن هل ستكون سعيدة، عندما تكون اليمن مخربة. لماذا تطرد العمال اليمنيين. لست موافقاً على أن نكون كبلد وشعب عالة على فتات ما ينتجه النفط. النخب استطاعت أيضاً افساد الناس. لكن تتشكل اليوم نظرة أصلح من وصية المؤسس السعودي، لأن العالم تحشده المتغيرات. أي فوضى في اليمن لن تنجو منها السعودية. النظرة الأعمق لصانع السياسة السعودي، تغيير تلك النظرة العتيقة. لا معنى أن تستمر علاقتنا على الانفعال، بل على واقع الكثير منه مشترك ومتداخل.
عن: الشارع