من منصّات ترفيه إلى مهن المستقبل

يمنات
وليد سند
تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة من مجرّد فضاءات افتراضية للتسلية أو تبادل الصور والآراء إلى منظومة اقتصادية متكاملة، تُنتج فرص عمل حقيقية، وتفتح أبواب دخل لم تكن متخيَّلة من قبل. منصّات مثل (تيك توك وإنستقرام ويوتيوب وإكس..) وأصبحت سوقًا مفتوحًا للمهارات، والصورة، والتأثير، والرأي.
هذا التحوّل يفرض سؤالًا جوهريًا:
هل أصبح التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي مهنة حقيقية؟ وهل يمكن أن تصبح أغلب وظائف المستقبل قائمة على “التأثير الرقمي”؟
مع ازدياد أعداد المستخدمين واتساع نطاق التأثير، نشأ ما يُعرف بـ«اقتصاد المؤثرين»، وهو نموذج اقتصادي يعتمد على استثمار المحتوى الرقمي في الإعلان والتسويق وبناء العلامات التجارية. وقد بات بإمكان الأفراد تحقيق دخل عبر الإعلانات المدفوعة، الشراكات التجارية، التسويق بالعمولة، أو تحقيق العوائد من المشاهدات والبث المباشر.
ولم يعد المؤثر محصورًا في فئة المشاهير أو الفنانين، بل شمل متخصصين في مجالات التعليم، الصحة، القانون، الإعلام، الثقافة، وحتى الحياة اليومية، ما وسّع من مفهوم العمل المهني وربطه بالمهارة والقدرة على التأثير لا بالمسمّى الوظيفي التقليدي.
أصبح لهذا التطور المتسارع بعص الإيجابيات التي خلقت فرص جديدة وسوق مفتوح
حيث يوفّر العمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي جملة من المزايا، أبرزها المرونة في الوقت والمكان، والتحرر من قيود الوظيفة التقليدية. كما يتيح هذا المجال فرصًا متكافئة نسبيًا للدخول، إذ لا يتطلب رأس مال كبير بقدر ما يحتاج إلى فكرة، ومهارة، واستمرارية.
إضافة إلى ذلك، أسهم هذا القطاع في خلق وظائف مساندة، مثل إدارة الحسابات، التسويق الرقمي، صناعة الفيديو، تحليل البيانات، وكتابة المحتوى، ما جعله جزءًا مؤثرًا في الاقتصاد الرقمي العالمي. كما ساهم في تشجيع الإبداع الفردي وفتح المجال أمام الطاقات الشابة لإثبات حضورها خارج الأطر المؤسسية التقليدية.
ورغم ما يحمله هذا المجال من فرص، إلا أنه لا يخلو من تحديات حقيقية وسلبيات كثيرة. فغياب الاستقرار الوظيفي يُعد من أبرز سلبياته، حيث يرتبط الدخل بتغيرات الخوارزميات وسياسات المنصّات، ما قد يؤدي إلى فقدان المصدر المالي بشكل مفاجئ.
كما يواجه العاملون في هذا المجال ضغوطًا نفسية متزايدة، نتيجة السعي المستمر للانتشار والمقارنة بالأرقام والمشاهدات. ويضاف إلى ذلك تآكل الخصوصية الشخصية، وانتشار بعض أشكال المحتوى السطحي أو المضلل، في ظل غياب أطر تنظيمية واضحة في كثير من الدول.
ولعل من أبرز هذ السلبيات أيضاً، شهرة التفاهة واقتصاد المحتوى السطحي التي أفرزها اقتصاد وسائل التواصل الاجتماعي، صعود ما يمكن وصفه بـ«شهرة التفاهة»، حيث تحقّق بعض البثوث العبثية والمحتويات الخالية من القيمة المعرفية أو الأخلاقية انتشارًا واسعًا وعوائد مالية كبيرة لأصحابها. ويعود ذلك إلى طبيعة الخوارزميات التي تكافئ المحتوى الأكثر إثارة وجذبًا للتفاعل، بغضّ النظر عن مضمونه أو أثره المجتمعي. هذا الواقع أسهم في ترسيخ نموذج يربط النجاح الرقمي بالصخب والغرابة لا بالجودة والرسالة، ما يطرح تساؤلات جدية حول الدور الثقافي لوسائل التواصل، وحدود المسؤولية الأخلاقية لصنّاع المحتوى، وتأثير هذا النمط من الشهرة على الذوق العام، خاصة لدى فئة الشباب. ورغم أن هذه الظاهرة تدرّ أرباحًا سريعة، إلا أنها تهدد بتقويض القيمة الحقيقية لصناعة المحتوى، وتحويلها من مساحة للإبداع والتنوير إلى سوق استهلاكي قائم على الابتذال والربح السريع.
وفي المقابل سارعت بعض الدول نحو الاعتراف الرسمي بالمهنة
حيث تشير المؤشرات العالمية إلى أن صناعة المحتوى والتأثير الرقمي تتجه نحو الاعتراف الرسمي كمهنة معتمدة. فقد بدأت بعض الدول في إصدار تراخيص للمؤثرين، وفرض أطر قانونية للإعلانات الرقمية، وتنظيم الجوانب الضريبية، إضافة إلى إدخال تخصصات أكاديمية مرتبطة بالإعلام الرقمي وصناعة المحتوى.
غير أن هذا الاعتراف لن يكون قائمًا على الشهرة وحدها، بل على الاحترافية، والمصداقية، والالتزام بالمعايير الأخلاقية والمهنية، بما يضمن استدامة هذا النوع من العمل وحمايته من الفوضى والاستغلال.
تأخرت المجتمعات في فهم هذه الثورة ومواكبة التطور السريع لهذه المنصات ولعلهم أدركوا ماهيتها أخيرًا وعجزوا عن مجاراتها وتأطيرها وفق أفق ونظم معينة كالوظائف المهنية والرسمية، حيث أعادت وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل مفهوم العمل، وكسرت احتكار الوظائف التقليدية، وفتحت آفاقًا جديدة للدخل والتأثير. لكنها، في الوقت ذاته، وضعت الأفراد والمجتمعات أمام مسؤولية كبيرة في كيفية توظيف هذا التأثير.
فبينما يمكن أن تكون هذه المنصّات أداة لبناء الوعي والمعرفة وتحقيق الاستقلال المالي، فإن سوء استخدامها حوّلها إلى ظاهرة استهلاكية مؤقتة. ومن هنا، فإن مستقبل هذه المهنة مرهون بمدى وعي الأفراد، وتنظيم الدول، وقدرة المجتمعات على تحقيق التوازن بين الحرية الرقمية والمسؤولية المهنية.