وفاء في زمن النگران وفتاة المطر تموت في المطر
كان طيف «أروى» لا يفارق خياله فهي روعة عمره وربيعه.. هي الزوجة الفاتنة الحسن، المخلصة الهادئة المكافحة، فلا عيب فيها ولم ير منها ما يستفز شكوكه منذ تزوجها، لم يجد منها إلا حباً يغمر كلَّ أيامه ولم يجد من عشرته معها إلا سعادة تنسيه كل سفر المعاناة في الغيبة والعمل. «عمر» الذي كان لا يدع فرصة أو فسحة تمر من عمله في المدينة دون زيارته لأسرته في القرية. عمر اقترب من أيام الحزن عندما ربط صداقة مع صاحب مختبرات طبية،الذي قال لعمر: ما رأيك نتأكد من نسبة الخصوبة عندك فوافق عمر، فكانت النتيجة التي طوت آخر أيام الربيع في حياة عمر وأروى.. عندما ضحك صاحب المختبر مازحاً مع عمر بقوله: (مكنتنا) معك خمسة أطفال من أين وأنت عقيم؟ (مش) عيب عليك تكذب على صاحبك؟! وهنا دقت الساعة القاسية في قلب عمر فكانت كلمات المختبري كأنها لظى تشتعل في جسده ولم يشعر بنفسه إلا وهو أمام مختبر طلب منه التأكد من نتيجة المختبر السابق فكانت نفس النتيجة وأخذ فحوصاته وسارع والدموع تتماوج في خده والحرقة تتمادى وتتسع في ليلته التي لم يعرف كيف مرت ، وفي النهار انطلق الجسد المثخن بالألم وركب مع أول سيارة ذاهبة إلى منطقته وفي خياله تلك الزوجة الوديعة قد غدت امرأة أفاكة شيطانية كل لحظة في غوية رجل.. الظنون كانت تتوسع في صدره وتمرق في دمه وجسده فيرتعش منها ويتمتم بألفاظ كانت بداية مشواره في رحلة اللاوعي ، كان متأكداً أنه سيصل في ليل ذلك النهار وسيجد منزله الذي بناه من عرقه يعج بصخب الفاحشة.. كان سفره يبكي قبل السفر وبخطوات تطوي المسافات وصل ودق باب المنزل وتأخر الفتح وبسرعة وقعت ضربة في رأسه صرخ منها وراح في غيبوبة فخرج إخوانه من منزل الأسرة المجاور ليجدوه مضرجاً بدمائه وزوجته تصرخ وتبكي في جواره فأسعفوه إلى المركز الصحي وعندما فاق سلمهم الفحوصات الطبية التي تؤكد أنه عقيم فاشتعلوا ناراً وهرولوا نحو أروى مزمجرين ومهددين بضرورة اعترافها أبناء من يكون هؤلاء الأطفال؟ فرفضت فطردوها مع أولادها من المنزل، ومع تضييق الخناق عليها من أهلها اعترفت أن ابن شيخ المنطقة الذي كان قد طلب يدها قبل أن تتزوج عمر ورفضته في حينه لأن قلبها كان مسكوناً بحب عمر.. هذا الرجل اغتصبها بعد زواجها من عمر بالقوة في خلوة من أرض المنطقة الزراعية والتقط لها صوراً ظل يهددها بالفضيحة إذا لم تستجب لغرائزه كلما أراد ذلك ليلاً أو نهاراً.
ورغم أنها اعترفت لكن من يحمي حمائم السماء من قراصنة الأرض فقد قرروا تزويجها به فالأبناء أبناؤه وعمر الذي خرج عن نطاق العقل وشرد لم يعد يعي ما حوله وأصبح مجنوناً أثبتت التقارير أنه لا ينجب.
هذا الشيخ أسكن أروى في منزل صغير في أطراف القرية لتتنفس الصعداء وتستنشق هواء الحرية رغم قسوة الحدث، وبدت تصد زوابع الأيام ورفضت أن تسلم جسدها لهذا الذي عبث بمقتنيات روحها ومزق صفحات حياتها وأغلق سطور التاريخ أمام أفراحها.
أروى التي اختارتها كل قلوب الشباب فاختارت عمر الذي سكب عمره عشباً أخضر في بساط التضحية من أجل أروى وأولادها الذي جاء دورها الآن لترد جزءاًً من الجميل وعلى الملأ .. وهاهي قد بدأت برفضها المطلق للنوم على فراش واحد مع ابن الشيخ وهددته بالقتل إن نام في منزلها وذهبت تشاطر الزمن قسوته، ووسط مشاعر الهزيمة والمرارة فتشت عن عمروأضحت وأمست تناديه يا حبيبي بصوت يكتسح العتمة ويجتاح الضباب.
كانت أروى تسكب دموعها خلف الفوانيس الحزينة وتنتحب حتى رأت عمر يوماً قد عاد إلى قريته بثياب رثة وشعر ولحية مضت عليها شهور منذ عرفت الماء، رأت عمر وقد أصبح عظماً من دون روح لكنه فتح في وجه أروى ابتسامة غزيرة نفضت ندم الغد والبارحة ولملمت أروى أنفاسها واشتاقت للعهد الماضي وحاورت عمر وانتحبت أمام صنم قد طال ليله، فلم تيأس فقدمت له الطعام وغسلت له رأسه ولحيته ، كيف لا وهو الذكرى الجميلة الوحيدة والأمل المعلن في سماء حياتها، ومرت الشهور ولم يدق اليأس باب قلبها في إمكانية شفاء «عمر» الذي ربما لم يعد يتذكر منها إلا امرأة تعطف عليه في زمن النكران..
وظلت أروى توزع مواويل صبرها على أولادها وتراتيل أحزانها على بقايا جسد عمر وصارت تنسج الوهم في حبل الخيال وارتخت التجاعيد تحت عيونها النرجسية حتى جاء يومٌ ماطرٌ وكان «عمر» في الوادي فخافت عليه ونادته بالصعود فلم يستجب وانسابت بجسدها المذبوح تتخطى السواقي حتى وصلت إليه وحاولت أن تأخذه معها لكنه لم يرد عليها بشيء كعادته.. وبين خوفها على عمر وتثاؤب المآسي عليها لمحت ولدها خارجاً من باب المنزل فسقط من مرتفع صغير يصرخ: (ماما .. ماما) فانتفضت تصرخ: ولدي .. ولدي وتركت عمر، وفي طريقها خذلتها قدماها على حافة هاوية تدحرجت فيها وفارقت عالم الظلم بعد أن قبّلت طفلها الذي ذهبت لإنقاذه وكان أول الواصلين وآخر من رأته عيناها قبل أن تغادر دنيانا.. أنثى المطر ماتت في المطر تاركة خمسة أطفال وزوج قديم جثى في جوارها يروي الأرض صمتاً ودموعاً..