أرشيف

عدن إذ تتشبث بالحرية في أذهان تحضرها الحداثة المغيبة

كان ملحاً عليًَ أن أتقصى حقيقة أن عدن هي المدينة التي يبحث عنها شجني كما يبحث عنها كل شقي بالحب أو بالمدنية، وقد فعلت ساعتئذ فاكتشفت أن عبوري فيها ليلة واحدة ليس كافياً لاحتساء أمنية بحجم مدينة كانت قبل أن أعرفها حلماً، وصارت بعد أن عرفتها أحلاماً شتى.

وفي عدن النائمة على شفاه بحر لا ينام، ولا يدعها تنام إلا على همساته الوارفة، وفي غفلة من نومها يتسلل المحبون -كما كنت أفعل- بحثاً عن لحظات هادئة بعيداً عن فضول لا يروق تلك اللحظات بعد أن صار بإمكان ممثلي الفضيلة المزعومة اقتفاء آثار الحب والمحبين بتوجس وخوف من أفعال تخدش غباء لحاهم المسدلة بعبث غير بريء بالتأكيد.

في نفس الغفلة يذهب الصيادون على إيقاع أغنية قديمة لم تزل بعد جديدة في أذهانهم:

هيلا يا صياد يا بو السفينة

شراعك مع الريح سلم علينا

هي عدن التي من إيقاع الحياة فيها تنفجر الذاكرة مترعة بالحكايات بلا نهاية، بأفق هو اللاأفق أيضاً، وبشجن مشحون بطاقة سرد قادرة على تعبئة البال بما يكفي لمشاوير باذخة حد التماهي مع عالم غير مرئي سوى في ذاكرة الحكاية نفسها.. تلك الحكاية التي كانت طفولية تماماً، وجائتني على لسان فتاة سقطت أحلامها وأمانيها بمستقبل أكثر حرية مما كانت تظن، فجاء حراس الفضيلة الأدعياء ليهتكوا ما تبقى من حلمها أو يكادون.

كانت عملية التذكر صعبة وقاسية، ولذا برز جمالها جلياً في بالي وواضحاً في شجني الذي أدرك آلية التمسك بالبقاء عبر تنشيط ذاكرة المكان في مراحل تشكل الشخصية منذ طفولتها فيه بتتابع غير مستقر. مضت الفتاة العدنية في إعادة تشكيل مدينتها في بالي كما كانت أيام طفولتها لكن ذلك تم باللجوء إلى التشبث بالثقافة التي ترفض الثقافة الحاضرة الآن بقوة السلطان والدين وحراس الفضيلة الأشقياء، ونقضاً للمرجعيات القبلية والبدوية ومرجعياتها الفقهية باستقصاء تاريخ من المدنية البريئة التي شكلها موقع المدينة وانتمائها للبحر حتى باتت عدن في وفاق دائم مع الحداثة التي كأنها منها، أو كأن عدن ليست مدينة يمنية إذا كانت صنعاء مثالاً للمدن اليمنية مثلاً، وزاد ذلك من اليقين بأحقية أن تبقى عدن بهيجة المدن بدلاً من تحويلها إلى كابول جديدة أيام طالبان.

كان الخطاب الموجه نحوي وكأني غريب أو "دحباشي" ولج هناك خطأ يستفسر عن موقع أحلامه فيه، ولأني أبحث عن حلمي في تلك اللحظة فقد كنت إذا "دحباشياً مطوراً" يأتيه الكلام مباغتاً يصف المواقع التي حملت ذاكرة العشاق والمحبين -كماي- يمسكون أكفهم مشرعين نظراتهم وخطواتهم باتجاه البحر. تغيرت أسماء كثيرة وسقطت رموز أكثر كأنما تغير دور المدينة فتغيرت أدوار أهلها، بل وتغيرت مشاعرهم وألغت القبيلة والفقهاء الحب من مكنوناتهم.

ومنذ بداية السرد العدني البهيج الحزين في آن معاً شهدت مخيلتي حراكاً هائلاً ومشاعر حب جارف..لم أسأل راويتي الحزينة كيف استطاعت ذاكرتها الطفولية الاحتفاظ بكل تلك التفاصيل منذ الطفولة؟ وكيف كان لها أن تدرك حينها أن تشابك أصابع المحبين بتلك الطريقة كان حباً.؟ وكيف كانت تفهم الحب يومها؟ فمن سردها أدركت أن عدن كانت تملك من الشفافية ما يكفي ألف مدينة أخرى، فهل يدرك الفقهاء العابثون بأحلامنا أنهم -بكل غرورهم وشطحاتهم التي أرعبتنا-لا يستطيعون استيعاب معنى واحداً للشفافية؟ وأنهم غير قادرين على الإيمان بأن تشابك أصابع الأحباب لحظة واحدة أجمل من ألف صرخة من صرخاتهم فينا، وأقوى من كل تحذيراتهم لنا من الحب الذي لن يكون حباً إذا حاولوا هم تزيينه وتوصيفه كما يشاءون.

كان السرد يأخذني بعيداً كالسرديات الكبرى التي تتسلى بهوية كانت حديثة وأجمل من هويات محدثة كما هو الآن. هوية مدعومة بأنساق هندسية ومباركة بمدنية قلما تولد في جزيرة العرب، ويصعب أن تستولدها عقليات القبيلة والفقهاء الساخطين.

في تلك الذاكرة العدنية لا يتغير شيء من إجمالي البهجة مهما يكن الحاكم، لكن وحين تتسلل السلطة الفقهية أو القبلية المحافظتين تأتي شبكة واسعة من العلاقات المقاومة للحرية، فتلجأ الراوية إلى إحصاء المشاهد التي دارت في ذاكرتها حتى ولوج الفضيلة المزعومة لتتعرض بعدها الحرية الفردية للأفراد -المحبين خصوصاً- والمجتمع عموماً لأنواع شتى من الانتهاك، حتى الطفولة تسر براءتها وتبدأ مبكراً البحث عن حدود المسموح به، والتعرف على الخطوط الحمراء في ظل تراتبية القمع الداخلي، ليصبح القمع يأتي من الأعماق البشرية منذ بداية تعرفها على معاني الحياة التي ستخلو من البهجة قبل حتى أن تبدأ التعرف عليها، ويتم بعدها البحث عن التدابير التي تحمي من التمرد من الحرية ومن الحب عموماً.

يتعامل المرء مع عدن وكأنها الفعل الحقيقي لحياة ينبغي لها أن تكون، وأن لها ذلك الأثر الحقيقي الفاعل في تفكير وتصرفات البشر، فهي وإن كانت وكأنها مازالت تبحث عن طريق نحو أن تكون مدينة كاملة كما يرى الكثيرون؛ إلا أنها ودون عناء البحث والتفكير والتفكيك والتساؤل تحيل المرء دائماً إلى السكينة والهدوء والتفكير في معاني المدنية والتمدن.. كيف لا وكل من يذهب نحوها لا شك يأتي منها مشدوهاً بأشياء كثيرة.. على الأقل بساطة البشر الذين يوزعون ابتساماتهم الطازجة ساخنة كأنما خرجت من أعماقهم دفعة واحدة.

كانت عدن متهمة بأشياء كثيرة .. وتهمتها الحقيقية ليست سوى الحداثة والحب، وهي تهمة تليق بمدينة مثلها ارتضت أن تكون منارة على مسافات الزمن، وحملت على كاهلها معنى التسامح وقيمته الحقيقية منذ عصور، فامتلأت أرجائها بأرواح البشر من كل جنس ولون وعرق،  ولم تمثل يوماً ترجمة لنرجسية قبلية أو بدوية أو قومية، وليس سوى النظام الشمولي القائم حالياً من يدفعها بإقصائه لها، وتهميش دورها الحداثي نحو اختيار الحفاظ على هويتها التي- وإن لم تكن عصبية يوماً- إلا أنها حتماً ستكون نافية لفعل التحديث والحضارة الذي تنتجه عدن بألق.

يمكننا أن نعرف أن لعدن قيمة فاعلة ليست ساكنة، ولا مرتبطة بأي ماض، فالماضي في قلب عدن أكثر من أن يكون معنى واقفا أمام العابرين، بل إنه في كل أجزاءه حركة متجهة إلى المواجهة والإضاءة.

بيد أن السلطة الاجتماعية التقليدية المسيطرة رأت في عدن عنواناً للتمرد على جمودها وكينونتها، وخروجاً على مألوفها الداكن من الإرث المقيد لحركة البشر والحياة عموماً، وحينما نشبت حرب صيف 94 كانت عدن هدفاً مستوعباً للقوى التقليدية من أجل احتوائها والقيام بالدور الأبوي البشع تجاهها، وعندما كانت قوافل الفيد القبلية تأتي على ميراث عدن المدني، وفي الوقت الذي ذهبت قيادة الحرب نحو الإستيلاء على كل مقدرات وطن كان تحت سلطة أخرى، وابتلاع مقوماته الاقتصادية؛ كانت القوى المدججة باللحى و(الجنابي) تكتشف ضعفها أمام المعاني التي عملت عدن على تجسيدها منذ زمن بعيد.

ترى السلطة الاجتماعية التقليدية الموجهة بطبيعة الحال أن على كل شيء أن يقدم فروض الطاعة والولاء نحوها، وتقديس وعبادة تراثها الذي يبنى عادة على قيم الحرية والتحضر، والذي تقدمه دائما على أنه مسلمات لا ينبغي التراجع عنها أو تجاوزها، ولذا كانت عدن بمثابة التمرد على المسلمات العقائدية والروحية لتلك القوى التقليدية الحاكمة مباشرة أو حتى بدون مباشرة، وانتهى الحال بعدن أن صارت في قبضة أولئك الذين يشذبون كي يكون لها القدرة على إنجاز فعل الرعب والترهيب بل وإعادة عجلة الحداثة في عدن إلى عصور بالية، لم تكن حتى عدن في تلك العصور تقليدية كما هي اليوم.

من وقاحة المصير أن يكون لعدن ولاة أمر تقليديون يأمرونها بالفضيلة، ومن سخرية القدر أن تحتاج عدن اليوم لمن يعلمها اليوم معاني الحشمة بحثاً عن مجد كاد يخفت حين انتهت غنائم الحرب التي كانت موجهة إلى معنى الإنسان العدني منذ البداية.

سألتني فتاتي العدنية يوماً عن حاجتي لعدن، فقلت لها إن حاجتي لعدن لا إطار لها، فهي حاجة باقية باستمرار حتى لو لم أعرف عدن أو أمر فيها، وحتى لو كنت بعيداً عنها عشرات البلدان. وإزاء دهشتها من تلك الإجابة أضفت: إن عدن هي الحقيقة التي يحتاج البشر إلى حداثتها باستمرار، ولذا لا مساحة يمكن أن تضمها. وعند سؤال آخر عن هوية عدن كانت إجابتي مسروقة من قول سابق لي بأن هوية عدن هي الحداثة الدائمة.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى