أرشيف

حَكُّمُوْا الحُوثي

حرب صعدة طال أمدها إلى خمس سنين, وفي كل سنة تلتهم أكثر مما التهمت في السنين السابقة, وتتوسع رقعتها إلى مناطق جديدة, وفي ظل المعطيات والظروف المحيطة نستطيع القول أنها قد تستمر أربعين سنة إذا لم ينته هذا النظام, مثلها مثل حرب داحس والغبراء أو كحرب البسوس, الفارق أن حرب البسوس التي نشبت بين البكريين والتغلبيين, وحرب داحس والغبراء التي نشبت بين عبس وذبيان كانت مسبباتهما اجتماعية معنوية بحتة, الأولى بسبب ناقة دخلت حمى ملك مستجد لم يألف الحكم من قبل فقتلها, فكان الحكم النهائي أن الناقة بكليب وكليب بالناقة, والأخرى بسبب فرسين سبقت احداهما الأخرى بحيلة غير أخلاقية, ولم تتوقف إلا بحكمة عروس بكر اشترطت على زوجها توقيف الحرب قبل أن تمكنه من نفسها.

أما في حرب صعدة فإن مسببات نشوبها وأسباب توقفها في كل مرة هي أسباب مادية بحتة, حيث تشتعل بشيك سعودي وتتضاءل الشعلة بشيك قطري, السعودية لها حساباتها الإقليمية وامتيازاتها المستمرة على حُكام اليمن منذ ثلاث وأربعين سنة(1965) عندما بدأت تضخ إعاشة أو إعانة شهرية أغنت وأقنت من يعملون لصالحها سواء من رجال القبائل أو من رجال السلطة, ولأجل ذلك الضخ المستمر فليس لأي طرف آخر الحق في التدخل في قضايا اليمن طالما السعودية موجودة, وليس لليمن حق مخاطبة أي طرف إلا عبر السعودية.

قطر فقط هي التي قوَّت وثائق صلتها بدول إقليمية قوية, وشبَّت عن الطوق وسحبت رقبتها من تحت هج السعودية العتيقة واخذت تتعامل مع اليمن مباشرة دون وسيط, ليس هذا فحسب بل إن قطر بمصداقيتها قد وصل دورها الإقليمي إلى مرحلة متقدمة فظهرت كقوة سياسية وإعلامية واقتصادية متقدمة على غيرها من دول الجوار, وتكاد اليمن ولبنان تخرجان من قبضة السعودية على يدها بعد نجاح الحوار اللبناني الذي رعته.

لكن كان لا بد للسعودية من مقاومتها بالنسبة في اليمن ولأن خيوط لعبة السعودية المادية مع السلطة اليمنية عديدة فإنها تستخدم كل مرة الخيط المناسب للعبتها, فعندما أوشكت قطر أن تنفرد بحل قضية اليمن بعد نجاحها في توقيع طرفي حرب صعدة على اتفاقية أوقفت نزيف الدم لأشهر معدودة فقد شكل ذلك النجاح كابوسا للسعودية تعتبره تدخلا في اختصاصها, فكان لا بد لها من اللجوء إلى أساليبها القديمة خاصة وقد رفرف جناح قطر في سماء لبنان الذي تزامن مع انكماش جناح السعودية من أجوائها, فإذا كانت قطر قد التزمت بنصف مليون دولار لإعادة تعمير صعدة المحتضنة للمعارضة الحقيقية وفتحت له حسابا خاصا ولجنة خاصة تكونت بقرار جمهوري فإن السعودية مستعدة لدفع مبلغ مساوي لاستكمال تدمير صعدة بدون أي شروط وبدون فتح أي حساب, وقد دفعته نقدا إلى يد من رأت فيه القدرة على إنهاء الحرب كدفعة مقدمة قابلة للزيادة إذا استطاع أن يقوم بما عجزت عنه جماجم الفرقة الأولى المتكسرة في ضحيان وكتائب معاوية المرهقة في جبال مران, ومن سؤ حظ الحرس الجمهوري أنه أصيب بضربة قوية في الوجه أفقدته توازنه قبل أن يدخل حدود محافظة صعدة, (ومن كُتُف ساعة الصبح قدِيْ لطول النهارة) ـ هكذا يقول المثل اليمني

ورغم تلك اللطمة المبكرة على مداخل حرف سفيان التي تعتبر بوادر هزيمة الحرس, فإن فيالق المنطقة الشمالية لا زالت تعتبر تدخل الملطوم سافرا في اختصاصها وفي قُطعتها, ومن أجل ذلك سيكون لها ردة فعل قوية, فالكاتيوشا والدبابات التي كانت قد نصبتها في المناطق التي كان الحوثي قد انسحب منها تطبيقا لبنود اتفاقية الدوحة قد تصبح من حق الصعداويون ليواجهوا بها العدو المشترك الذي لو نجح في المهمة المكلف بها لسقطت أسطورة الفرقة إلى الأبد, ولهذا فإن الحروب المأجورة التي توجهها أي سلطة إلى معارضة الداخل لا تحقق لها أي نصر, بل هي تآكل مستمر في كيانها حتى تقضي على نفسها بنفسها.

ونظرا لأن السلطة قد خالفت بنود العديد من الاتفاقيات ابتداء من وثيقة العهد والاتفاق إلى اتفاقية الدوحة, وخالفت كذلك الاتفاقيات الدولية التي تحرم قتل الأسرى, ليس هذا فحسب بل إن عجزها عن إثبات تهمتها للحوثي بتنفيذ تفجير مسجد سلمان بصعدة الذي أودى بحياة عشرات المؤمنين قد رد التهمة إليها, وما نسبته إلى خصمها الجوهري إلا لكي تجيز لنفسها الدخول في تدمير صعدة من جديد, فاعتقد بعد كل ذلك أن لا احد سيثق بها ويعقد معها أي اتفاق أو يسلم نفسه إليها, فبهذه الأساليب قد فقِدت ما تبقى لها من مصداقية.

ولأن ثقة الطرف الآخر فيها قد أصبحت معدومة فإنه سيلغي من برنامجه فكرة الخوض في الاتفاقيات ولهذا فإن الحرب ستستمر إلى ما لا نهاية إلا إذا استخدمت السلطة بقية أوراقها القبلية وهي ورقة (التحكيم) التي اقترح على السلطة المتخبطة أن تلجأ إليها لتحل المشكلة التي ورطت نفسها بها بنفس المرونة والطريقة التي عودتنا أن تحل بها مشاكلها, فلترجع إلى حكمتها المعهودة البعيدة عن نصوص الدستور والقوانين وتُحَكِّم الحوثي ولو بالطائرات التي قد ضربته بها بدلا عن الكلاكنشوف, وتلحقها بقاعدة تحكيم مكتوبة مشهود عليها, تنص على أن ليس لها إلا ما يحكم به الحوثيون ومن في شدادهم, حتى لو يحكموا بخروجها من الأرض المحروقة, فهذه هي الورقة الأخيرة التي تستطيع أن توقف الحرب بها وتخرج بما تبقى من ماء وجهها, بعد تجاهلها لكل المواثيق الدولية, ونكثها لكل الاتفاقيات التي وقعتها, وخذلانها لجميع اللجان.

أنا لا أمزح ولا أسخر من السلطة الحاكمة إنما هذا هو الحل الوحيد الذي وجدت أنه لا زال متاحا أمامها, فتحكيم مواطني صعدة في نظري هو الحل الأمثل بحق وحقيقة, وربما يكون حكمهم غير مشدد, فالعفو عند المقدرة من شيم الكرام, أما إذا لم يتم تحكيمهم فعلى السلطة أن تتقبل الهزيمة بروح رياضية وتخرج من ملعب الكبار بعد أن أدت دورها, صحيح أن الهزيمة هذه المرة ستكون مدوية بكل ما تعني الكلمة بعد أن عرف الضباط والجنود المدفوعين إلى الموت بأن القضية التي يضحون بأنفسهم من أجلها هي قضية غير وطنية, لكن لا بد للسلطة من تقبلها.

أما إذا كان الحاكم قد انتشى بتوصيات مجلس الوزراء السعودي وتصريحات وزير خارجيته المتزامنة مع استعانة الحاكم بخبراء أمريكا والعراق والشام لحسم المعركة فقد ينتصر نصرا مؤقتا إذا عزز ذلك بتقدمه لصفوف المقاتلين هو وأبنائه وإخوانه ليثبت للجنود أن روحه مساوية لأرواحهم وأن القضية قضية الجميع, فالنصر العسكري حينئذ قد يتحقق, لكنه لا يعدو أن يكون نصرا مؤقتا لا طعم له ولا رائحة وبمرور الأيام سيتحول إلى هزيمة كما تحول نصر 7 يوليو 94 إلى هزيمة موازية, ذلك النصر الداخلي الذي كانت جرأة السلطة قد وصلت إلى حد الاحتفال به سنويا وأسمت به شوارع ومدارس ومعسكرات و…, فمن يجرؤ هذه السنة أن يحتفل بذكراه كنصر؟!! ومن هنا فالحل الأمثل هو في تحكيم المعارضة الحقيقية والقبول بحكمها ولو كان بطعم العلقم, فمرحلة انكسار الحاكم وانحداره قد بدأت منذ أعيد انتخابه, ولن يوقفها أي فارس.

 

زر الذهاب إلى الأعلى