أرشيف

الرئيس الحمدي.. مشروع دولة توزعت لاغتياله عصبة الخيانة في أكثر من مكان

قال البردوني : "تؤكد كل البراهين التاريخية أن حركة 13 يونيو أعادت الدورة الدموية إلى عروق ثورة سبتمبر، تأجج أعنف صبيحة الثالث عشر من يونيو 1974م"

حيث لم يصل الرئيس إبراهيم الحمدي إلى السلطة عن طريق انقلاب دموي أو مؤامرة وإنما وصل إلى الحكم برضا السلطة التي كانت تحكم البلاد، فقد استدعى القاضي عبد الرحمن الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري، أبرز رؤوس السلطة والمشايخ الذين كانوا يسيطرون على زمام الأمور في البلاد بعد أن شعر أنهم يتجهون بالوطن إلى الهاوية من خلال مواقعهم في مجلس الشورى الذي كان يرأسه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر .. وأبلغهم عن عزمه في تقديم استقالته وأنه من مصلحة البلد تقديمهم استقالات جماعية، بعدها تم الاتفاق على أن يقدم استقالته إلى رئيس مجلس الشورى وبدوره رئيس المجلس يقدم استقالته مرفقة مع استقالة رئيس المجلس الجمهوري.

الحمدي والطريق إلى الكرسي

لقد كان الحمدي قائداً عسكرياً مثقفاً تلقى تعليمه بالمدرسة التحضيرية بصنعاء مستوى ثانوية عامة والتحق بكلية الطيران، تخرج منها عام 1959م، ودافع عن صنعاء في ملحمة السبعين يوماً وتولى منصب وكيل وزارة الداخلية عام 1967م ثم عين قائداً لمعسكر (العاصفة) عام 1969 وفي 18 سبتمبر 1971م عين نائباً لرئيس الوزراء للشئون الداخلية وساهم بشكل أساسي في تأسيس الحركة التعاونية وانعقاد مؤتمر تأسيس الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي، وقد ازدادت شهرته أكثر من خلال تقديمه مشروع القوات المسلحة للتصحيح المالي والإداري للمجلس الجمهوري عام 1972م حيث كان الجيش يعاني من فوضى إدارية ونهب للرتب العسكرية وضعف في قدراته في مواجهة الزحف والتمدد السعودي على الحدود اليمنية، وفي يناير 1973م تم تعيين الحمدي في منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة، وكان القائد العام حينها "محمد الإرياني"، شقيق رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني.

تمكن الرئيس الحمدي من الوصول إلى السلطة دون أن يريق قطرة دم واحدة، فقد كان إجماع كافة المتناحرين والمختلفين على كرسي الحكم وتطويع اليمن للجيران ينصبُّ على شخصية إبراهيم الحمدي الذي وصلت إليه الرسالة التالية :

"الأخ العقيد / إبراهيم محمد الحمدي وقادة الجيش                   حياكم الله

حيث قدم القاضي عبد الرحمن الإرياني استقالته من المجلس الجمهوري إلي بصفتي رئيساً لمجلس الشورى، صدرت الرسالة إليكم لنشرها وإعلانها.. وأنا من جانبي أقدم إليكم استقالتي من رئاسة مجلس الشورى وذلك إخلاصاً مني لتجنيب البلاد من الأزمات ولكي لا يقال أننا هواة مناصب ومختلفين على المناصب، نحملكم مسئولية الحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد والسير بها إلى الأفضل والله يوفقكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم عبد الله بن حسين الأحمر

وهكذا تسلم الحمدي زمام قيادة البلاد وهي تعج بالتدهور و الفساد، وسطوة المشايخ والمتنفذين بلغت الذروة، لكن الأحوال تغيرت إلى عهد هو الأجمل في تاريخ اليمن الحديث، والأهم من ذلك كرامة المواطن حفظت ومعنويته ارتفعت..

هامة رئيس

استهل الرئيس الحمدي عهد حركة 13 يونيو التصحيحية بتوديع القاضي عبد الرحمن الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري المستقيل، وداعاً رسمياً في مطار صنعاء، فكان قيام الحمدي بتوديع الإرياني ووداع الرؤساء تعبيراً عن أخلاقيات الرئيس الجديد، وقد قالت الباحثة السوفيتية الدكتورة جلوبو فسكايا: "إن عملية بناء الدولة المركزية الحديثة في الجمهورية العربية اليمنية بدأت منذ قيام حركة 13 يونيو برئاسة الحمدي".

شكل الرئيس الحمدي مجلس قيادة عسكرية كان هو رئيس مجلس القيادة والقائد العام للقوات المسلحة، وكان نائب القائد العام أحمد حسين الغشمي، وأول قرار اتخذه الرئيس الحمدي تخفيض الرتب العسكرية إلى رتبة مقدم، مطبقاً هذا الأمر على نفسه، حيث تنازل من رتبة عقيد إلى مقدم واتجه إلى تثبيت الأمن والأمان من خلال فرض هيبة الدولة والقضاء على الرشوة والتجاوب مع حاجيات المواطن فوراً لتوفير الأمن له دون مقابل عبر القنوات الشرعية المعترف بها في سجلات الدولة وإيقاف تدخل وفضول المشايخ، فاستتب الأمن وسادت شيئاً من العدالة.

أما على المستوى السياسي فقد كانت هناك قوى موجودة من تنظيمات سياسية وغيرها مشاركة في الحكم ومؤسسات الدولة، وكان للمستقلين أيضاً نصيبهم في سائر المجالات رغم أن الدستور كان يحظر النشاط الحزبي، وأما بخصوص التيارات الدينية، تيار الأخوان المسلمين على وجه الخصوص، فقد كانت جزءاً من الواقع الذي تعامل معه، حيث كان هناك شخصيات من جماعة الأخوان المسلمين يشاركون في الحكم، كما أصدر قرار رئيس مجلس القيادة رقم "86" قضى بتشكيل لجنة مؤقتة لإعداد مشروع برنامج العمل الوطني (الميثاق الوطني) الذي كان، كما هو مقرر، سيتضمن الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة في بنوده.

وعلى مستوى السياسة الخارجية تمكن الرئيس الحمدي من جذب أنظار الدول الخارجية، وتمكن لأول مرة من بناء علاقات خارجية لليمن، كدولة يجب أن يكون التعامل معها مباشرة وليس عن طريق دولة أخرى وحسب إملاءاتها ورغباتها، مع عديد من دول العالم، أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية.

جماعة عمنا رشوان

 شهدت اليمن نهضة تنموية وتحسن حال المواطن الذي كان يعيش زمنا مأساويا مؤلما، ولهذا كان كافة أبناء الشعب يحبون الحمدي وإلى اليوم يترحمون على روحه الطاهرة ولكن أعداء الشعب وأصحاب المصالح والفوضى والهمجية المأجورين كانوا أعداءً للرئيس الحمدي.

كان البعثيون الذين كانت تربطهم في تلك الأيام علاقة مصالح مع التيار السلفي والتوجه الأمريكي  يكنون العداوة للرئيس الحمدي، وقد حاول جناح صغير من حزب البعث الترتيب لانقلاب ضد الحمدي ولكنهم فشلوا واكتفى الحمدي بفصل بعض الضباط البعثيين وتوقيف بعضهم، ثم تم الإفراج عنهم دون سفك قطرة دم واحدة، حيث كان يمتاز بسماحة فذة .

في تاريخ 22/10/1975م أصدر الحمدي قرار مجلس القيادة بحل مجلس الشورى الذي كان يرأسه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ومجموعة من المشايخ بدعوى عدم شرعيتهم كونهم غير منتخبين من قبل الشعب وأيضاً انتهاء المدة الإضافية الممنوحة للمجلس بعد مغادرة الرئيس الإرياني الحكم.

وهو ما حذى بالشيخ الأحمر لمغادرة صنعاء إلى السعودية عن طريق الجوف.

الحمدي و الديمقراطية

 في اجتماع مجلس القيادة برئاسة الرئيس الحمدي في يوم 9 فبراير 1977م بمدينة الحديدة تم تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشعبي العام وقد نص القرار على تشكيل اللجنة من 15 شخصاً، وقالت صحيفة الثورة حينها أن من بين الخطوط العريضة لأعمال المؤتمر الشعبي "الوضع السياسي – الديمقراطية – وتجربة التعاون"، لقد كان الحمدي يتجه إلى بناء دولة، ولهذا أصدر قانون انتخابات مجلس الشورى وتم تشكيل اللجنة العليا للانتخابات، كانت كل التوجهات تؤكد على المضي في بناء دولة لا يستطيع فيها أحد الاستحواذ على خيرات البلاد، وفوق ذلك كله كان يوم إعادة الوحدة اليمنية قد اقترب.

الحمدي وربيع

أجرى الرئيس سالم ربيع علي، رئيس الشطر الجنوبي حينها، مباحثات مع الرئيس إبراهيم الحمدي في ديسمبر 1974م على هامش مؤتمر القمة العربية السابع في دولة المغرب واتفقا على عدة مسائل تتصل بالوحدة، وكان الرئيس ربيع محبوباً في الجنوب، وقام الرئيس الحمدي بزيارة إلى السعودية في ديسمبر 1975 أسفرت عن إقامة علاقات دبلوماسية بين السعودية والشطر الجنوبي، وفي 10 مارس 1976 بدأ في البحث على إنهاء الصراع بين عدن ومسقط من أجل رحيل القوات الإيرانية التي كانت تتبع إمبراطورية إيران وتتمتع بصداقة أمريكا والسعودية في ذلك الزمن، وتوطدت العلاقات مع السعودية بزيارة الرئيس ربيع للرياض في 31 يوليو 1977م وكان للرئيسين الحمدي وربيع موقف موحد في مؤتمر قمة عدم الانحياز بكوالا لامبور عام 1976 واتخذ المؤتمر موقفاً من التواجد الأجنبي "الروسي والأمريكي" في البحر الأحمر وتم في سبتمبر 1977 إجراء مباحثات في نيويورك أثناء ذهاب الرئيس ربيع لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة، وشكلت تلك المقدمات بوادر لإقامة علاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والشطر الجنوبي وربما بوادر لإقامة دولة الوحدة التي حدد موعدها يوم 13 أكتوبر 1977، الأمر الذي أغضب أعداء التحديث لخشيتهم من أن تتحول اليمن إلى دولة ذات ثقل داخل الجزيرة العربية.

أسرة الخيانة

تضامنت بعض القوى الرجعية تحت مبرر حب الوطن لتثأر لمصالحها وعملت على إجهاض مشروع الوحدة اليمنية بين دولتين كانتا ذواتي  قوة واقتصاد جيدين، وفي 11 أكتوبر 1977 وقبل يومين من الموعد المزمع بخصوص الوحدة اليمنية التي كانت لا تزال تعاني من تآمر الكثيرين، دُعي الرئيس الحمدي وأخيه المقدم عبد الله الحمدي، قائد قوات العمالقة لتناول طعام الغداء في منزل عضو مجلس القيادة، نائب القائد العام للقوات المسلحة أحمد حسين الغشمي  وذلك ما بين الساعة 30/2 والساعة 3، وتم إبلاغ الحرس خارج المنزل التابعين للرئيس الحمدي في الساعة الثالثة وخمس دقائق بأن ينصرفوا إلى منزل الرئيس حيث اتضح أن الحمدي لم يصل إلى المنزل وفي الساعة السادسة مساءً اتصل الغشمي بوزير الداخلية محسن اليوسفي وأبلغه أن الرئيس اختفى وأن يشاركوا في البحث عنه وفي الساعة الثامنة والنصف تم الاتصال بالمقدم عبد الله عبد العالم، عضو مجلس القيادة وعبد العزيز عبد الغني عضو مجلس القيادة رئيس الوزراء وإبلاغهما بأنه تم العثور على الرئيس إبراهيم الحمدي قتيلاً في أحد المنازل، كما تم العثور على المقدم عبد الله الحمدي قتيلاً في نفس المنزل، أما المقدم علي قناف زهرة، قائد اللواء السابع مدرع فتم العثور عليه قتيلاً في مكان آخر، وكذلك الرائد عبد الله الشمسي قائد الاستطلاع الحربي والمنطقة المركزية.

اغتيال أبكى اليمن

لم تكن عملية الاغتيال مجرد صراع على الكرسي بقدر ما كانت مؤامرة انقلابية دموية استهدفت اليمن، ولهذا توزعت أسرة الخيانة في أكثر من مكان لتنفيذ المهمات القذرة..

وفي محاضر التحقيق قال أحد الحراس كيف لرئيس سيتناول طعام الغداء في نصف ساعة ثم يخرج من الباب الآخر! وبسيارة من غادر؟ مؤكداً أنه لم يسمع طلقات نارية لأن القرية هادئة وليس فيها ضجيج ولكن كانت مستنفرة بالمتاريس وكانت استنتاجات المحققين أن القاتل استخدم سلاحاً كاتماً للصوت لقتل الرئيس ولكن أسدل الستار وأوقف التحقيق ولم يتم التحقيق مع صاحب أول منزل ولم يكشف عن هوية المنزل الثاني الذي نقلت الجثث إليه.

وقد حاول منفذو عملية القتل فبركة قصة من قصصهم الحقيرة، حيث قاموا بقتل سائحتين فرنسيتين ووضعوهما بجانب جثتي الرئيس وأخيه، ليوصلوا رسالة إلى الرأي العام مفادها أن القتلة قاموا بتطبيق الحد الشرعي عليهما لكنهم تراجعوا بعد ذلك حين لفت نظرهم مستشاروهم لغباء هذه التهمة.

القسم التاريخي

كانت الإذاعة التلفزيون قد قطعت برامجها في الساعة العاشرة والنصف مساءً وبدأت في بث سور من القرآن الكريم وبعد حوالي ساعة أذيع بيان مجلس القيادة ينعي إلى الشعب اليمني والأمة العربية استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي وأخيه، كما تم إعلان الحداد الرسمي وتنصيب الغشمي رئيساً لمجلس القيادة وساد اليمن حزن عميق وشامل وشك مريب في الغشمي وبعض المشايخ، وصدر في عدن بيان سياسي للشعب اليمني صادر عن الاجتماع الاستثنائي لرئاسة مجلس الوزراء برئاسة سالم ربيع علي صباح يوم 12 / 10 نعى استشهاد الرئيس الحمدي في مؤامرة دنيئة، وأعلن الحداد الرسمي وإلغاء الاحتفالات الرسمية والشعبية بمناسبة ثورة 14 أكتوبر، وقد اعتذرت القيادة اليمنية للعديد من الدول العربية والإسلامية التي استفسرت عن ترتيبات تشييع جثمان الحمدي بهدف مشاركة زعماء ووفود تلك الدول، فتم الاعتذار باستثناء سالم ربيع علي الذي وصل إلى مطار صنعاء يوم 13 أكتوبر لتشييع جنازة الحمدي والقسم فوق قبره بالانتقام من القتلة.

وقد اتهمت الجماهير الغشمي بقتل الحمدي صراحة وكانت تردد أنت القاتل.. ولكن من هم المشاركين والمخططين والداعمين؟

سؤال سيبقى في ذاكرة الشعب يتوارثه الجيال.

المصادر : كتاب "سنوات مجيدة من عمر الثورة اليمنية" ، كتاب "معالم عهود رؤساء الجمهورية في اليمن".

زر الذهاب إلى الأعلى