أرشيف

الأستاذ محمد الجُميل يتذكر.. ضحايا الانتهاكات في الأمن الوطني وأمن الدولة

نحتاج في هذه الأيام إلى إن نتذكر ماحدث عام1982م، حتى يُقيِّض لنا أن نطالب السلطة.. برد الاعتبار والاعتذار، والتعويض المادي والمعنوي، لكل الذين تعرضوا للاختطاف، والسجن والتعذيب، وانتُهكت حقوقهم الإنسانية، فالذين عاشوا تلك التجارب.. في تلك الأيام بوعي.. يدركون حجم الانتهاكات لحقوق الإنسان.

فقد.. كُتب على المواطن أن توضع في طريقه سجون.. واحدة تلوّ أخرى.. مطلوب منه أن يعبرها.. وكُتب عليه أن تُبنى أمامه معتقلات.. لا تختلف كثيراً في أهدافها عن (البشائر).. مطلوب منه أن يعبرها.. وكُتب عليه أن يخوض محنة تلو أخرى.. وأن يواجه خطراً تلو آخر.

هكذا لم يكُن (البشائر) هو الكابوس الأول.. ولن يكون الأخير، فبعد (البشائر) كانت هناك عشرات (البشائريات).. وبعد (البشائر) كان هناك.. أقبية الموت في حَدةْ.

وقضية (المصالحة مع الماضي).. واحدة من القضايا التي يجب الوقوف فيها لرصد هذا.. فهي مَفصلة زمنية واضحة.. ينفتح عندها باب الرؤية الشاملة التي تُقلّب في إدارة الأيام.. وتعيد النظر في ملفات (ضحايا الانتهاكات).. بحيث تكون النظرة من بعيد.. كي يكون (رد الاعتبار) أوضح وأشمل وغير غارق في التفاصيل.

خلف أسوار مُتعقل (حدة)!

في تلك الفترة لم نكن نتوقع.. في هيئة تحرير صحيفة (الأمل) التي صدرت بناءً على اتفاق سياسي بين سلطتي الوطن، والذي قضى بإصدارها في العاصمة صنعاء، وإغلاق إذاعة الجبهة الوطنية الديمقراطية.. الحقيقة كُنا نتوقع أي خطر داهم يحدق بنا، لاسيما وان المراقبة الأمنية.. كانت تتعقبنا كظل الإنسان، لا تبارحه إلاّ في المنام أو الموت.. وفعلاً لم تفارقنا الرقابة الأمنية إلاّ في ساعة الخلود للنوم.. أم الموت فلم يكن قد حان موعده.. حينئذٍ كانت كل الاحتمالات واردة ومتوقعة، لكن.. أن تتم عملية الخطف بتلك الطريقة الإرهابية.. فقد كانت مستبعدة تماماً.

كان في ذلك اليوم، من عام 1982م، ثلاثة من الاستخبارات -الأمن الوطني- أو (الجستابو).. كما كان يطلق عليهم الأخ المناضل الوطني/ احمد صالح احمد العزعزي، الذي تم اختطافه معنا أيضا في ذلك اليوم المشؤوم من داخل منزله.

فقد توجهنا من مقر صحيفة (الأمل) إلى المنزل الكائن في قاع العلفي بصنعاء لتناول وجبة الغداء.. لم نكن نعلم أن جماعة من الأمن الوطني.. قد سبقونا إليه.. واتخذوا وضع التأهب والاستعداد داخل المنزل.. طرقنا باب المنزل.. وعلى الفور فُتح لنا.. على غير العادة بدون سؤال.. كانت المفاجأة تنتظرنا هناك.. ثلاثة مسلحين يرتدون الزيّ التقليدي يحتلون المنزل حتى أننا لم نشاهد طفلاً ولا امرأة.. فالجميع حُشروا في غرفة جانبية.. وتحت التهديد منعوا من إصدار أي حركة أو أصوات.. بمجرد أن تخطيِّنا عتبة الباب وقبل أن نميز ملامح (المُحتلين).. ونتعرف على طبيعة مهمتهم.. هجموا علينا كالوحوش الكاسرة.. كبلّوا أيدينا بالأصفاد، وأخضعونا لتفتيش إرهابي مرعب.

وعندما لم يعثروا على أي دليل لإدانتنا واتهامنا.. أخرجونا من داخل المنزل بطرية عنيفة وحاقدة.. لم نقاوم، ولم نُبدي أي اعتراض، على تلك الهمجية، والإجراءات الإرهابية.

وكيف يتأتى لنا ذلك وفوهات الأسلحة مصوبة نحو رؤوسنا، والموقف لا يحتمل سوى الاستسلام.. الاعتراض الوحيد الذي صدر منا هو استغرابنا لما يحدث.. وعندما قلنا.. أن هذا لا مبرر له لخص كبيرهم الموقف بعبارة واحدة انتم (شيوعيون ومخربون).. هكذا كان يسميها من فرط أدبه، وحسن تربيته.

الموكب في الانتظار!

أمام البوابة الرئيسية للمنزل، كان الموكب في انتظارنا، ثلاث سيارات مدنية داخل كل واحدة منها ثُلة من أفراد الأمن على أهبة الاستعداد بأسلحتهم.. رمونا بعنف.. كل شخص داخل سيارة.. تحرك الموكب، دون أن نعلم إلى أين المصير.

مرت تلك الساعات ثقيلة متباطئة، كأنها دهر بكامله.. لم أستفق من هول المباغتة، وعملية الاختطاف إلاّ وسط حشد من المعتقلين في زنزانة أرضية بمعتقل (البشائر).. استعيد كابوس الرعب الذي حدث!!.

العزعزي يُنقل بطائرة عسكرية!

أما بالنسبة للأخ المناضل/ احمد صالح العزعزي، فقد نقل جواً على متن طائرة (هيلوكبتر) عسكرية إلى محافظة تعز، وهناك أودع في احد المعتقلات، حيث خضع لشتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي.. وللأمانة أقول أنه لم يهتز، ولم يرتجف، لم يخنع، لم يسلم، لم يقبل بسياسة الأمر الواقع، وقف وتحدى، لم يكترث بالتهديدات الرخيصة.

ويصف العزعزي واحدا من أهم فصول هذه العملية السرية بالقول: (لأول مرة أسافر إلى محافظة تعز وأنا آمن.. أما مسألة (تشريفي) بالنقل جواً، لم يكن الهدف من ذلك إظهار أهميتي وذلك.. لا أدعية.. وطبيعة عملي الإداري البسيط ليس بخافٍ على أحد.. ولكن الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو محاولة إضفاء طابع (الخطورة).. على (التهمة).. التي من الممكن أن توجه لي).

المهم في الحالتين أُطلق سراحه، دون أن يعلم ماهي تهمته حتى الآن.. عدا تلك التهمة.. التي عادةً ما توجه لكل الوطنيين اليمنيين: (أنت مُخرّب)!.

أساليب التعذيب.. ووسائله

في هذا المعتقل تحديداً.. حيث اتساع الزنازن لا يتجاوز متراً.. وحيث مئات المعتقلين والمُختفين.. حيث لا قانون ولا عدل ولا شرع، حيث الزبالة في كل شيء.. وحيث الزبالة كل شيء.

في أول أيام الاعتقال في سجن حدة جاء منادياً باسمي، سرت خلفه.. ثم نزع العصابات من عيني وفي نهاية الرواق الطويل.. استوقفني أمام باب غرفة تحقيق، ودفعني إليها بالقوة وحين توّسط الغرفة، استدار نحوي، وصفعني في الوجه بعنف، ومن شدة رخاوة يده طار الشرر من عينيّ، لحظتئِذٍ انتابتني مشاعر ممزوجة بالمهانة والقهر.. وكان هذا أول درس قاس واجهته في بداية هذا (الرعب).. والحقيقة إن هذه الحالة التي انتابتني ليست من ألم الصفعة.. ولكن.. من صاحبها الذي كان يتقصع في مشيته أمامي مثل النساء.

تحذيرات سلطان عُمر

وهنا تحديداً تذكرت تلك التحذيرات التي أسرّ لي بها همساً زعيم المناضلين الوطنيين الأستاذ/ سلطان أحمد عُمر -رئيس الجبهة الوطنية الديمقراطية، عقب توقيعه قرار التكليف بالعمل الصحفي ضمن هيئة تحرير (الأمل) في العاصمة صنعاء.

فقد نحا بي جانباً وقال: (من الآن.. ينبغي أن تعرف.. أنك معرض للاعتقال، والتعذيب وربما الموت والخيار متروك لك بالقبول أو الرفض.. وأضاف: (مُش بعدين تقول يا أماه إلحقيني))!.

مفاجأة.. الحزب

 الشيوعي اليمني

في غرفة التحقيق الثانية.. كان هناك في الانتظار أكثر من أربعة محققين.. وفي اللحظة التي تواجهنا وجهاً لوجه.. ونظرت في ملامحهم.. كانت بالنسبة لهم لحظة مباغتة، لم يضعوها في الحُسبان.. وقد لمست ذلك من حركة رؤوسهم التي استدارت نحو زاوية رأسية واحدة.. باتجاه سقف الغرفة.. وكأن آلة وُجهت رؤوسهم نحو الأعلى.

 كانت الغرفة خالية.. إلا من طاولة طويلة جداً.. وكرسي وحيد.. قعدت على الكرسي حسب الأوامر.. ثم وُضع أمامي.. قوائم مكتوبة بخط اليد، مدوّن فيها مئات الأسماء، وقرين كل اسم الصفة.. كان أن لمحت القائمة التي يراجعها المُحقق التي كان عنوانها الرئيسي.. هكذا (أسماء أعضاء منظمات الحزب الشيوعي في اليمن).. تعجبت من تلك التسمية التي لم يسبق وأن سمعت عنها، إلاّ في تلك اللحظة.. وتساءلت: أليس هذا الحزب في ليننجراد.. والله لا أعلم أنه قد انتقل إلى صنعاء، وعندما سألني المُحقق عن اسمي.. وأجبته عن سؤاله، بحث في القائمة.. فكان اسمي يحتل الرقم (4) تقريباً فأشار عليه بعلامة صح.. فقلت في نفسي: (والله مبروك يا عمنا.. أنت عضو بارز في (الحزب الشيوعي) ولا لك عِلم)!!.

وللمرة الثانية.. سحبوا تلك القوائم.. ووضعوا مكانها.. طوب بياض ودرزنين أقلام.. وبلهجة آمرة قال المُحقق: (أكتب.. كل ما تعرفه).. والحقيقة أنني لا أعرف هذا الـ(كل ما أعرفه).. لكن مع كل ذلك سجلت انطباعات ناقد للسياسات الخاطئة في الجنوب.

بعد أن اطلع المُحقق على ما كتبته، سألني: هذا كل ما تعرفه؟.. قلت: نعم.. فمسك الأوراق.. ومزقها ورمى بها في وجهي.. ثم أشار إلى الجلاد الواقف بجانبه، فأخذني إلى زنزانة السلخ، وما وجدته هناك أعجز عن وصفه بدقة.. لكن من الذاكرة سأحاول قدر الإمكان.

في زنزانة.. المسالخ البشرية!

في زنزانة (المسالخ البشرية).. وتحت آلة التعذيب.. على هيئة وضع الشاة المجهزة للسلخ.. كان الجلاد يحاول استنطاقي وانتزاع المعلومات كُرهاً.. بينما كان مساعده يحمل هراوة غليظة.. يهوي بها على ظهري.. مع كل سؤال يطرحه الجلاد.

وتستمر العملية حتى يصاب المعتقل بالغيبوبة وفقدان الحواس، والاتزان.. ويظل يهذي بعدها بعبارات.. وكلمات غير ذات معنى.. إلى أن يشعر الجلاد أن التعذيب بلغ مرحلة الخطر.. هنا فقط.. تُرخى الحبال الموثوق بها المعتقل.. ويهوي البدن، مرتطماً بشدة في الأرض.. كانت هذه العملية تستمر يومياً، في ساعات الغبش الأولى.. دون انقطاع، لمدة خمس ساعات.

ولا ينفذ منها المعتقل، إلاّ بعد إصابته بحالة شلل نصفي، وكسور ورضوض في جميع أجزاء الجسم تظل آثارها وآلامها وأوجاعها تصاحبه مدى الحياة!.. وهذا كان حالي!.

ففي أعقاب إحدى الأيام الدامية.. وعند الساعة الثالثة فجراً.. وأثناء ما كنت في الزنزانة الواقعة تحت الأرض، ومغطى بالبطانية.. أصارع آلام التعذيب، والجوع والرعب.. صحوت على صوت الجلاد.. وهو واقف فوق راسي ينهرني بعنف: جم.. جم.. الفندم يريدك.. وتبعها بالركلات.. والضربات المُتتالية بالهراوة.. نهضت مُسرعاً، أجُر أقدامي جراً.. وعيناي معصوبتان، بالكاد أرى بصيصا.

وأمام إحدى غرف التحقيق، دفعني إليها بعنف بالغ قائلاً: أدخل، الفندم ينتظرك.. حين وقفت أمام الفندم.. كنت في حالة يُرثى لها من آثار التعذيب، والهزال الجسدي الذي أصابني بسبب امتناعي عن الطعام.

قال المحقق بنبرة تهكمية: (مالك هكذا.. قد شكلك مثل الجيفة).

رديت عليه مباشرة والألم يعتصرني.. لا حيلة لي في ذلك يا فندم.. لست أنا السبب في ما أنا فيه.. ولكن رداءة الخدمات في هذا الفندق.. فأصدر ضحكة خفيفة.. لا أدري هل هي سخرية من الإجابة.. أم استحسان لها!.. ثم أمرني بالقعود.. وبدأ يتحدث معي بأسلوب ناعم، وسألني بلهجة مهذبة: هل تعرف القيادات الحزبية الكبيرة في صنعاء؟..

– قلت: نعم حق المعرفة..

من هم؟..

يافندم هم سعيد الجناحي، ومحمد الشيباني.. فشعرت انه امتعض من الإجابة فقال: هؤلاء قيادات معروفة.. ولكن أسالك عن القيادات غير المعروفة..

الحقيقة أنا لا أعرف سوى المعروفين واقسم على ذلك: ثم أمر العسكري بإعادتي إلى الزنزانة.

حبيت.. حبيت!

من الزنزانة المجاورة.. كان يصدح، صدى صوت جماعي، كله شجن وعذوبة.. و رِقة يردد مقاطع أغنية للفنان الكبير (أيوب طارش): حبيت.. حبيت.. ماشي حلمت  تراءيت.. وقد علمت في ما بعد.. بأن ذلك الصوت.. كان يرده مجموعة من طلاب الجامعة، تم اقتيادهم في نفس تلك (الحملة المشهورة) من حرم الجامعة.. وتحت نفس التهمة..(مخربون)!.

عميل لـ(استخبارات أمن الدولة)!

وأحد أدلة التعذيب، كذلك أن الجلاد حاول الاستعانة بأسلوب آخر لنزع المعلومات.. أسلوب التيئيس والهزيمة المعنوية.. والسخرية.. وفكرة هذه الطريقة.. تأتي في اللحظات الأخيرة وتحديداً عندما يجد الجلاد نفسه أمام الفشل والعجز عن إخضاع المعتقل للاعتراف.. وانتزاع المعلومات.. وفي تلك المبارزة العقلية بين الجلاد والمعتقل.. قال الجلاد موجهاً حديثه لمساعده: ما رأيك نقرأ له كتاب (ماركس) ربما ينزل عليه الإلهام ويتكلم.. فأجابه مباشرة: هذا الكتاب قد حفظه عن ظهر قلب!.

كنت استمع لهذه المحادثة (المسخرة) وجسدي يتدلى في الهواء.. أنصرف الجلاد.. وعاد بعد ثوانٍ معدودة حاملاً تنكة فارغة.. ظل يطبل بها أمام رأسي ويردد الاثنان معاً:

حوشي بالحوش.. ومحمد صامد..

وكان الجلاد يقصد أن حزب الوحدة الشعبية بقيادته وقواعده معتقلون في الزنازن.. وأن المحققين ليسوا بحاجة لأي اعترافات أو معلومات جديدة، فالجعبة كلها معهم!.

ولقد كانت واحدة من أبرع الحيِّل المخابراتية في هذا المجال.. وفي عالم المخابرات لا يجوز إطلاق الأحكام.. بدون قصص محبوكة، لا مانع من أن تساندها اتهامات.. وهذا ما حدث، فقد وُجهت لي تُهمة العمل لصالح جهاز (أمن الدولة) في عدن.

قال المُحقق: أن هذه التهمة أكدها أحد المُعتقلين، وذكره بالاسم.. وهنا زاد ذهولي، فلأول مرة أعرف أن هذا الزميل مُعتقلً.

كان من السهل عليّ أن أنفي ذلك الاتهام الخطير، وعندما طلبت تأكيد التُهمة بالدلائل أو إحضار الشخص الذي اتهمني.. للمواجهة.. صمتوا نهائياً.. ولم أعد أسمع مثل تلك التهمة تتردد أبداً. 

 [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى