أرشيف

 بهرة عدن احتفائية خاصة وحكايات متناقضة

الطائفة الإسماعيلية في اليمن تعد مذهباً له أقلية من الأتباع في اليمن على الرغم من قدم تواجده فكرياً منذ عدة قرون وقد أعتنقه الكثير من اليمنيين يوماً ما في الماضي عقب نشدانهم الحكم الوطني والإستقلال عن الاضطهاد والظلم بأسم الدين من قبل خلفاء الدولة العباسية أبان ضعفها فتتابعت دويلات اليمن من الزيادية في زبيد وحتى الطاهرية في رداع ولم تكن بمعزل عن الإملاءات الخارجية خصوصاً الفاطميين في مصر وظل قرارهم نافذاً سواءاً على الإسماعيليين أو الحاتميين والصليحيين، ومع زوال الفاطميين ومجيء الأيوبيين أنحسر هذا الفكر وتناقص أتباعه وقل مريدوه وعانوا نوعاً من الإقصاء إن لم يكن القمع ويطلق عليهم اليوم مسمى (البهرة)  ويشتغل بعضهم وخصوصاً الساكنين في مدينة عدن بجلب البهارات (التوابل) والاتجار به كحكر عليهم إلى وقت غير بعيد، مستفيدين من تنقلهم بين اليمن والهند وغيرها من دول شرق آسيا حيث لهم هناك وجود أكبر، نتيجة للمناخ الصحي نسبياً كما هو في لبنان ومصر والمغرب العربي.. بالرغم من عدم إختلافهم في تأدية الفروض والشعائر الدينية صلوات، صيام، زكاة.. ألخ.. لكن لهم بعض الطقوس الاحتفالية والمناسبات الخاصة.

وقد وجد البهرة في عدن متنفساً لسلوك ناسها المفعمين بروح التعايش والمسالمة والقبول بالآخر واحترام إنسانيته ويبدو ذلك في ثقافة التسامح لديهم وتقديسهم (للوطن الإنسان) على قاعدة الوطن للجميع.

مطلع العشر الأواخر من شوال المنصرم كان هناك زيارات ووفود أستمرت ثلاثة أيام قابلنا بعدها عددا من أبناء هذه الطائفة فكان البعض منهم متحفظ والآخر يبدي مرونةً حذره وسواه متوجس وغيره مذعور وهذا متكتم.. لم يبدوا إستعداداً لتسهيل عملنا المهني الصرف.. هناك في سوق البهرة- متعارف عليه- ويتفرع من شارع الطويل بكريتر يمارسون تجارتهم كغيرهم مررنا بصاحب محلات (المفضل) للكهربائيات ومعدات الورش والبحارة والسفن وكان أكثر هؤلاء وضوحاً وتبسماً وكذلك حديثا رغم تقدمه بالسن فقال: (ماذا تريدون نبيع لكم مما لدينا في المتجر)، (هل لديكم زبائن وعملاء يشترون منا) (نحن لا شغل لنا سوى التجارة لنأكل لقمة حلال ولا نعرف شيئاً عن السياسة أو غيرها) (من الصباح لم يلج باب المتجر حتى زبون واحد)..

بالقرب من سوق البهرة في الشارع المجاور المتفرع الطويل أيضاً يوجد مسجد علي بهاي منقوش عليه حديثاً تم تجديده عام 2000م وكان بناؤه قبل 150 عاماً (للتأكيد على قدمه) ويتميز الدور الثاني منه بطراز معماري حديث حتى من حيث المواد التي شيد بها وفيه يقع المصلى ويتوافد إليه  المصلون جميعاً بما فيهم البهرة وفي الطابق الأسفل (الأول) دورة مياه ومغاسل ومن السهل تمييز بعض البهرة وخاصة المتقدمين في السن منهم، حيث يحافظون على إرتداء الزي التقليدي الخاص بهم وأبرزه قبعة دائرية الشكل أسطوانية ذات ارتفاع متوسط من حيث الحجم تزينها أشرطة بين الصفراء إلى الذهبية، دقيقة وقليلة ذات تطريز متقن، ويلبسون ثوباً قصيراً أشبه بالقميص إلا أنه فضفاض ولا يتجاوز الركب في انسداله بل يعلو عليها قليلاً ومشقوق في الجانبين حتى الحوض..

أحد الشبان تعاون معي في تعريفي بالمدرسة التابعة لهم والتي تقع هناك في الشارع المتفرع إلى الزعفران من أمام المتحف الحربي أي بعيداً عن المسجد والسوق التابع لأبناء هذه الطائفة.. والمدرسة تبدو كمنزل للوهلة الأولى وبقليل من التمعن يتبين تصميمها المغاير والغامض، فالباب كباب أي منزل خشبي بني اللون يعلوه عقد مكتوب عليه كلمتان أحدهما فوق الأخرى (يا حي) (يا قيوم) إنه دعاء.. أما الطابق العلوي فيتضح، من طوله دون تقسيم وعدد نوافذه المتساوية في الحجم والشكل، أنه قاعة للدروس وأسفل المبنى أبواب متجر الجوهرة للأقمشة.. وإلى جانبها تماماً محل للبراويز والزجاج والتحف مملوء بالعديد من الآيات القرآنية البديعة من حيث الخطوط العربية والزخرفة وكذا الأطر (البراويز) التي تصوبها وكان في المحل شخصان من البهرة أحدهما طاعن في السن وعليه الزي التقليدي الخاص بالطائفة والآخر شاب في مقتبل العمر.. وبعد إسهابي في إيضاح الهدف من زيارتي لهما والحديث معهما بغرض معرفة أحوالهم ومعرفة الحقائق حول كثير من الحكايات المتضاربة والخرافية حد التناقض إلا أن الشائب بدأ منزعجاً وصامتاً بينما الشاب بجانبه تجاوب نسبياً وقال لا خلاف بين الطوائف الإسلامية سوى في بعض القشور المتوارثة بفعل عصور العزلة.. وأضاف ذلك الشاب أن دستور الجمهورية اليمنية أكد حرية الإعتقاد حينها بدأ الرجل المسن متنرفزاً أكثر من اللازم ونظراته تتطاير شرراً فشعرت أنني أمام والد وولده وقد أشق بينهما فأنسحبت بهدوء..

أما آراء الآخرين حول هذه الطائفة متضاربة أيضاً فبين من يرى أنهم مضطهدون ومسالمون ويتعاملون بأمانة ودقة متناهية في التجارة.. وهناك من يرى أنهم منعزلون ومنطوون على أنفسهم وآخرون يرونهم غامضين حد الإلتباس بإنكفائهم ومن يتعامل معهم أيضاً..

وحول مدى اندماجهم الاجتماعي فيكاد لا يذكر إلاّ في جانب البيع والشراء، أما عملية الزواج والأنساب فهم محصورون فيما بينهم، وكثير من بناتهم يتم تزويجهن اما إلى أبناء الطائفة في عدن أو إلى أقاربهم في دبي وهي المدينة التي هاجر اليها أبناء الطائفة بحثاً عن حرية تجارية أكبر ولم يعد من يتواجد منهم في عدن غير 300 شخص.

ملامحهم رغم عدنيتها إلاّ أنهم مازالوا لهم سماتهم الخاصة ويجيد كبارهم لغةً أخرى أكتسبوها بالولادة خارج اليمن أو بالإحتكاك ومزاولة التجارة ذهاباً وإياباً.. لكن الإنطباع العام أنهم في عدن أفضل حالاً بكثير مقارنةً بإخوانهم في حراز أو عراس يريم، كونهم لم يعانوا إضطهاداً أو إرهاباً فكرياً من قبل المجتمع العدني ، ويقال أن عمر هذه الطائفة في عدن لا تتجاوز 100 عام.

زر الذهاب إلى الأعلى