أرشيف

اليمن.. المعالجات القاصرة تضاعف الأزمة رياض الأحمدي

بعد قيام الثورة اليمنية في ستينيات القرن الماضي قال كاتب النشيد الوطني اليمني عبدالله عبدالوهاب نعمان إن التاريخ أطل من شرفة الدنيا ابتهاجاً بما صنعه اليمنيون ودوّى دعاءه لهم بالنصر والتوفيق.. وشرف التاريخ كما يقول نعمان في 'أرضي وعِرضي'..

كان هذا هو اليمن الذي أراده رواد الثورة والجمهورية، أما اليوم فقد استطاع نظام الرئيس صالح بسياساته ومعالجاته القاصرة أن ينال من شرف التاريخ ويعيده إلى الوراء، ولو لم تكن حسابات هذا النظام خاطئة ومعالجاته قاصرة لما نبتت أزمة، ولو لم يغب المشروع الوطني لما حضرت المشاريع الفئوية والعنصرية، ولما عادت إلى أذهان اليمنيين اليوم مصطلحات ستينات القرن الماضي المتمثلة في 'الإمامة' و'الجنوب العربي'.. وفي ظل هذه السياسات ليس بعيداً أن يواصل اليمن عده التنازلي ليصل إلى الخمسينيات وما قبلها ونتحدث حينها عن 'بريطانيا' أيضاً، لنظفر بلعنة التاريخ بدلاً عن دعائه!

يراهن النظام اليمني في تعامله مع الأزمة في المحافظات الجنوبية والشرقية على أخطاء خصومه.. باعتبار أن ما تدعو إليه زعامات الحراك الجنوبي اليوم هو الانحطاط والجحيم، وباعتبار أن السواد الأعظم من الناس لن يكون إلا مع الوحدة، وأن 'الخطاب الانفصالي غيمة لا تمطر'.. الخ.

لكن الحقيقة التي يتهرب منها هذا النظام، هي أن الوحدة لا تتأتى عبر الدهاء السياسي والمراهنة على مآسي الماضي وأخطاء الآخرين.. لأنها في الأصل أعلى قيمة وطنية وحضارية وإنسانية قبل أن تكون سياسية.

وليس من الحكمة ولا من مصلحة الوطن القول إن من يطالبون اليوم بالانفصال هم مجاميع 'مأزومة' فقدت مصالحها بسبب الوحدة، وإن كان في ذلك القول جزء من الصواب، إلا أن الواقع يقول غير ذلك، والجزء الأكبر ممن فقدوا مصالحهم فقدوها بسبب سياسات النظام وليس بسبب الوحدة.. والمطلوب الآن هو تعميد الوحدة بالحب والعدل والصدق والعمل الشريف والنظيف وتضميد الجراح، وليس تعميدها بالدماء والتعويل على الخارج واستدعاء الخبرة السياسية و'الحزاوي' واصطياد أخطاء الانفصاليين والتذكير بالمآسي.. والأمر الواقع ينبئ بأن هناك أموراً غير طبيعية أدت إلى خروج كم هائل من المواطنين في الجنوب مطالبين بالانفصال.. والجنوب هو أول من سعى إلى الوحدة، وأقسم في النشيد الوطني قبل أن يقسم الشمال أنها 'عهدٌ عالقٌ في كل ذمة'، ولم يدّخر شيئاً في سبيل إعادة تحقيقها، ولما كانت الوحدة، لم يجدها.

الوحدة هي الأصل وهي الحل، والانفصال ليس حلاً ولن يكون، والنظام الذي أصاب الوحدة بجروح لم يفلح إلى الآن في معالجة أخطائه، وكلما صب بعضاً من زيته كلما زادت الأزمة اشتعالاً.. ربما لأنه لا يعرف بالضبط موطن الخلل؛ وربما لأنه سيفقد بعض مصالحه إن هو شرع فعلاً في الحلول المناسبة، لأن مجموع سياساته وتركيبته الحالية هي الجزء الأكبر من الخلل.

بدأت معالجات نظام صنعاء القاصرة لآثار التشطير من خلال إقصائه للشريك الجنوبي في الوحدة ومصادرة مؤسساته وإضعافه شعبياً وتحويله إلى منتقم، ومن ثم تصعيد قوى جنوبية أخرى ذات ثقافة مغايرة للثقافة التي أنتجت الوحدة، ونتج عن ذلك ولادة هذا الحشد الثائر الذي يطالب بالانفصال ويؤصل لدعوته الانفصالية دينياً وحضارياً وتاريخياً وإنسانياً دون أية مبالاة بالمنطق والواقع والعقل والحق.

ومنذ اندلاع الاحتجاجات في الجنوب بداية العام2007 والتي بدأت بالمطالبة بإعادة المتقاعدين وتوظيف العاطلين.. شرعت الحكومة بحلول ترقيعية أدت إلى تصاعد الاحتجاجات واتساع رقعتها، لأن المحتجين اكتشفوا أن القانون الذي تربوا عليه قديماً لا ينفع مع هذه السلطة، وأن 'الصميل' وحده كفيلٌ باستخراج حقوقهم، وانضمت إليهم جـحافل أخرى من المظلومين وبدأوا برفع شعارات مناطقية وتشطيرية لإخافة النظام قدر الإمكان، لكنهم وجدوا أذاناً صاغية لشعاراتهم في عوام الشعب، فأقنعوا أنفسهم تدريجياً وبصعوبة بالغة بأن ما يقولونه حق، وأصبحت لديهم إجابات جاهزة لكل من يخالفهم الرأي لا تمت إلى الحقيقة بصلة.

وصعد من ذلك انضمام من لهم تصفيات حقيقة مع الوحدة إلى صفوفهم.. إلى أن أصبح المطلب الأول الذي نسمعه من أفواه زعامات الحراك اليوم هو أنهم يريدون العودة إلى وضع ما قبل90، ويناقضون أنفسهم بالقول إنهم شعب آخر ليسوا يمنيين وإنما من 'الجنوب العربي' وهي التسمية التي رحلت مع آخر جندي بريطاني عام1967م .. وما كانت دعواتهم لتجد صداها في أوساط العامة فتتكاثر، لولا أن هناك خللاً يجب إصلاحه.. لكن المعني الأول بالنظر في هذا الخلل والذي هو النظام كما ذكرنا.. لم يعد دولة، بل أصبح طرفاً داخل الأزمة، وقد أدت معظم معالجاته السابقة إلى نتائج عكسية.

واليوم وبعد أن اتضح للجميع أن القضية بحاجة إلى حلول جذرية لا ترقيعية، أصبحت هناك خشية جدية من الحلول الكبيرة التآمرية والتي يروج لها الوحدويون والانفصاليون معاً بوعي وبلاوعي.. ومثال عليها، ما نسمعه منذ أشهر من توجهات رسمية مدعومة من المعارضة السياسية وبتنسيق مع أصحاب الحراك والحوثي وعبر وساطات ومبادرات إقليمية ودولية تدفع بالأمور إلى الفيدرالية، كحل جذري للأزمة المشتعلة في الجنوب وغيرها.. وهو حلٌ بالفعل؛ لكنه ليس حلاً من أجل الوحدة إنما حلٌ يسهل عملية حدوث الانفصال.

ومثل هذا الحل ينطلق بالنسبة للأبرياء من مبدأ خاطئ وهو أن الوحدة الاندماجية فشلت.. والصحيح الذي يجمع عليه العقلاء هو أن إدارة اليمن الموحد فشلت، والأزمة التي يعانيها اليمنيون اليوم ليست في الوحدة أو الاندماج إنما في الانفصال والفساد وغياب القانون وأساسيات الحياة الحضارية. والمعالجات التي لا تتناسب مع أصل الأزمة لن تولد إلا المزيد من الأزمات، والفيدرالية في ظل سلطة مركزية ضعيفة وهشة وفساد وفقر ودعوات انفصالية ليست إلا انفصالاً تدريجياً مؤدباً يصبح معه تحول اليمن إلى 'صومال' قدراً محتوماً (لا قدر الله).

الشعب اليمني شعب واحد التاريخ والدين والنسب واللون والأرض والجرح والحُلم، والتقسيم على شكل 'شمال' و'جنوب' ليس صحيحاً حتى من الناحية الجغرافية وبمقياس الطول والعرض.. وللخروج من أزمة اليوم بمسمياتها الآنية، لابد من التفكير بجذورها، بغض النظر عن الفساد والظلم ومستجدات اللحظة.. من أين نبت الانفصال كمطلب؟.. ولماذا لا ترتبط مفردة الانفصال بمسمى الشمال؟ أو لماذا ترتبط مفردة الانفصال بمسمى الجنوب؟ من الإجابات البديهية لذلك أن من كثير من الجنوبيين يشعرون بـ'الضم والإلحاق' وليس الوحدة، فهم سلموا العاصمة ومنصب الرئيس، بينما الوضع في الشمال بعد الوحدة لم يختلف كثيراً عن وضع ما قبلها، الرئيس هو الرئيس، والعاصمة هي العاصمة! وعلينا التفكير بجذور الأزمة من هذا المنطلق.

وبما أننا نبحث عن الحــلول الـجذرية، لماذا لا نفكر بالعاصمة باعتبارها مركز إدارة الدولة؟ وباعتقادي، أننا سوف ننسى التسميات الخاطئة، ولن يكون بإمكان أحد في الجنوب أن يتحدث عن انفصال إذا شعر الجميع أن القضية دولة حضارية ووحدة يمنية لا علاقة لها بمصطلح الشمال ولا الجنوب، وهذا لن يحدث إلا عندما يكون مركز إدارة الدولة بيئة آمنة للجميع يحكمها القانون والدستور، ويكون بإمكان أي جنوبي أن يكون هو الرئيس القادم.. وهو ما لا يحلم به في الوضع الحالي المواطن في الشمال أيضاً.

ويعود ذلك إلى كون البيئة القبلية التي عششت فيها ثقافة الحكم الإمامي لقرون والتي تتحكم بالعاصمة صنعاء هي من يفرض الأمر الواقع وليس الدستور والقانون.. وقد ساعدت في ذلك الإجراءات التي قام بها نظام الرئيس صالح طوال فترة حكمه تمهيداً للتوريث.. بالإضافة إلى أن الموقع الجغرافي لصنعاء لا يحمي الوحدة، وقد ارتبط كونها عاصمة بيمن مشطّر لا موحّد في أغلب فترات التاريخ، وحالياً لا تنطبق عليها مواصفات العاصمة الحضارية، والوضع المهدد بالأسوأ لا يسمح بالانتظار لحين تأهيلها… وأي حلول لا تراعي العاصمة وإدارة الدولة، ستكون قنابل مؤجلة لا أكثر، ولو طالب الحراك بنقل العاصمة تدريجياً إلى الجنوب بالتزامن مع حوار وطني وإصلاحات سياسية واقتصادية هائلة، لانضم إليه أحرار الشمال أيضاً، ويكون بذلك أخرج اليمن كله إلى طريق.

 القدس

' كاتب وصحافي يمني

زر الذهاب إلى الأعلى