أرشيف

مناسبات البكائيات والحماس وغياب العمل د. علي محمد فخرو 

 في كل عام تحتفل التجمعات القومية العربية بذكرى الوحدة المصرية السورية. بعضها يركٍّز على جعل الذكرى مناسبة بكاء وحسرة على ما فات، تماماً مثل مناسبات التاريخ بضياع فردوس الأندلس أو لواء الاسكندرون أوعربستان، وتماماً مثل مناسبة كارثة ضياع فلسطين التي ما زلنا نعيش مآسيها إلى يومنا هذا. بعضها الآخر يركٌّز على استنهاض الهمم والوعي العروبي الوحدوي.

ما بين مناسبات ذكرى الوحدة المصرية ـ السورية لا يرى الإنسان في الواقع ما يشير إلى أن البكاء قد غيًّر هذا الواقع أو أن الاستنهاض استطاع بناء قوى لتغيير المستقبل. ويتساءل الإنسان عن سبب الاستمرار في الدوران في هذه الحلقة المفرغة دون أن يكسر أحد هذه الحلقة. في اعتقادي أن هناك أسباباً تحتاج إلى إمعان النظر فيها.

أولاً ـ من المضحك المثير للشفقة أن يتكلم خطباء تلك المنابر عن الوحدة وهم في فكرهم السياسي وتصرفاتهم اليومية غير وحدويٍّين. فما معنى أن تمرُّ السنون والعقود دون أن تتوحًّد الحركات والأحزاب المتماثلة في إسمها وفي أهدافها وفي أنظمتها؟ أو أن تكوٍّن جميع الأحزاب والمؤسسات القومية جبهة واحدة أو تيُّاراً واسعاً، وبتحالفات متنوٍّعة مع مختلف مؤسسات المجتمع المدني المؤمنة بالوحدة؟ فاذا كان الدًّاعون لوحدة الأقطارالعربية لا يخطون خطوات وحدوية عملية فمن يا ترى سيؤمن بصدق شعاراتهم وإيديولوجيًّتهم الوحدوية؟ ولنكن صريحين أكثر، إذ ماهي الفروق بين أحزاب البعث والأحزاب الناصرية والحركات القومية العربية والأحزاب القطرية المؤمنة بالعروبة حتى لا تعمل معاً وبتناغم تام من أجل أن لا تبقى قضية مقدًّسة، مثل قضية وحدة هذه الأمة، في عجزها الحالي أمام الهجمة الامريكية ـ الأوروبية ـ الصهيونية التي لاتكتفي بمنع قيام أي نوع من الوحدة، بل تحاول تجزئة وتقسيم كل قطر؟

ثانياً ـ متى سنرى برنامجاً نضالياً سياسياً تفصيلياً، يعتمد العلم والأبحاث الميدانية، لأولويات الخطوات التي يجب التركيز عليها والنضال اليومي من أجل تحققها حتى نهيٍّئ وننضج المتطلبات التي تسبق أي وحدة؟ إن التاريخ يعلمنا بأن الكيانات الوحدوية لم تقم بالصُّدف وإنًّما من خلال خلق ظروف تسبقها. فالتوجٌّه نحو أيٍّ وحدة في عصرنا أصبح علماً إجتماعياً له أسسه النظرية وأساليبه العملية المبنيُّة على تجارب البشر والمجتمعات عبر القرون.

ثالثاً ـ حتى على المستوى الإقليمي، فان التوجٌّه نحو التوحيد الجزئي لأقطار ذلك الإقليم يحظى بنضال يومي مستمر تراكمي. وكمثال، فان الإتحاد المغاربي يتعثُّر منذ سنوات ومع ذلك فاننا لم نسمع عن ضغط شعبي على حكومات ذلك الأقليم للتوقٌّف عن العبث بمستقبل شعوب ذلك الإقليم، بل وممارسة العكس من خلال التوسٌّع في حدًّة وأشكال الصٍّراعات بين أقطار المغرب حتى لا تضعف قبضة الأنظمة السياسية على رقبة البلاد والعباد. وكمثال آخر فاننا لم نسمع قط عن قيام مظاهرة شعبية، عفوية أو منظًّمة، في أقطار مجلس التعاون الخليجي، من أجل الدًّفع نحو المزيد من الخطوات الوحدوية، ومن أجل منع الواضعين لألف عقبة من أجل تأخير الوحدة، من ممارسة ما هو معاكس لتطلٌّعات شعوب تلك الأقطار.

رابعاً ـ إذا كانت الوحدة السياسية تتعثر بسبب اختلاط الأوراق الامبريالية بالأهداف الصهيونية وبالانتهازيات النفعية المحليًّة فلم لا يلتفت الوحدويون إلى الحقل الاقتصادي ويفعلون فيه مالا يستطيعون فعله في حقل السياسة؟ هل يعقل مثلاً أن تبقى التجارة البينيُّّّة بين الدول العربية تراوح حول ثمانية في المائة عبر ستٍّين سنة وتكتفي القوى الوحدوية باصدار النصائح في الجرائد والمناشير والمهرجانات الدورية؟ وينطبق الأمر على حقول العمالة والثقافة والتربية والصحٌّة والبيئة والمواصلات البريُّة والجوية والأبحاث وغيرها، التي تبقى في وضع مفجع بالرغم من وجود الجامعة العربية منذ ثلثي القرن.

دعنا نكون واضحين: إذا كانت قوى المجتمعات العربية ستبقى ساكنة ومتفرٍّقة ومتصارعة فيما بينها حول الإيديولوجيات الفرعية وحول من سيكون في القيادة، فاننا سنبقى نحتفل بذكرى الوحدة المصرية ـ السورية عقوداً طويلة دون أن تزيد تلك الاحتفالات عن البكائيات أو الحماس الطفولي المؤقُّت. وفي المقابل يصعد الانفصاليون وأعداء أي نوع من الوحدة ويرسٍّخون واقع تجزئة الأمة، تماماً مثل ما أراد الغرب عبر القرون وما تريده الصهيونية في الحاضر والمستقبل. يا ويل أمة تستهين بمصير وجودها.

زر الذهاب إلى الأعلى