أرشيف

صديقنا بن علي.. حكاية الجنرال المنبوذ !

كان يخنق كل شيء، ويخنقه جيداً. وزين العابدين بن علي هو جنرال قبل أي شيء آخر، مخادع وغدار ومتآمر بارع.
 
وعند الحديث عن أكثر الأنظمة العربية المرشحة للسقوط أولاً، لم يكن نظام بن علي ليخطر أبداً على بال الهواة الشغوفين بالتخمين. لقد تمكن اليأس حتى من أشد خصومه عناداً وعزماً.
 
لم يمتلك أحد منهم ترف التوقع بنهاية وشيكة للطاغية. خذوا مثلاً ما كتبه، سنة 2001، توفيق بن بريك، وهو صحفي تعرض للتعذيب والسجن بسبب انتقاده لنظام بن علي.
 
ففي “مذكرات الواشي”، نقرأ فقرة تستحق نقلها حرفياً: “بن علي هنا (في السلطة) وسيبقى هنا، لأن الأمر متعلق بسلامته. لقد ذهب بعيدا، ولم يعد يستطيع التراجع، محكوم عليه أن يبقى رئيساً مدى الحياة. بن علي هنا وسيبقى هنا لأن أمامه طريقاً ممهدة، معارضة سخيفة مجزأة إلى مجموعات صغيرة لا جيش لها، ولا مشروع، زعماؤها هم شركاء سابقون، ومثقفون من نوعية غير جيدة”. ومساء الجمعة الماضية، بدا للعالم كم كانت هشاشة بن علي بالغة، وكم كانت غير ظاهرة للعيان.

محمد العلائي

[email protected]


على غرار نهايته، كانت بدايات “القائد” مرتبطة، نسبياً، بالحظ والقدر والنقلات الخاطفة. ففي غضون 4 سنوات فقط، تدرج زين العابدين بن علي من وزير معاون، فوزير للداخلية، ثم وزير للدولة، وأخيرا صار رئيسا للوزراء، قبل أن يقدم على الخطوة الأخيرة الحاسمة المتمثلة في عزل بورقيبة، بطل الاستقلال، بذريعة “الخرف”

. في 2 نوفمبر 1987، أصدر الديكتاتور المريض، الحبيب بورقيبة، قرارا بتعيين الجنرال بن علي رئيسا للوزراء. لم تمض أكثر من 4 أيام حتى بدأت تراود بورقيبة شكوك جدية حيال رئيس حكومته الجديد. ولسوف يفضي الزعيم المتهالك لابنة أخيه سعيدة ساسي، المرأة التي نذرت نفسها لرعاية الأسد العجوز، والتي كان يطلق عليها التونسيون اسم “الضبعة”، يفضى إليها بما ينوي القيام به: إقالة بن علي وتعيين محمد الصياح رئيسا للوزراء. إلى جانب “الضبعة”، كان وزير الإعلام حاضرا في تلك اللحظة ليقرأ الصحف لرئيس الدولة.
 
لا أحد يعلم من أفشى السر للجنرال الطامح، بن علي، الذي اعتاد الاستماع لتوبيخ قاسٍ من مؤسس تونس الحديثة بورقيبة: “أنت لا تعرف من ذلك شيئا، أنت لست سوى رجل ثكنات”. تقول بعض الروايات التاريخية أن بن علي كان أحد المقربين من “الضبعة”.

لم يستغرق بن علي أكثر من ليلة ليعزل بورقيبة. أحضر 7 أطباء وأمرهم بتوقيع تقرير طبي عن أن الوضع الصحي والعقلي “لفخامة الرئيس بورقيبة” لم تعد تسمح له بالاستمرار في حكم البلاد. قطعت الاتصالات عن قصر قرطاج، واستيقظ بورقيبة في الصباح للاستماع إلى نشرة أخبار السادسة.

فوجئ العجوز بالإعلان عن خطاب هام سيتم بثه على الأثير. يقال إنه التفت إلى ابنة أخيه قائلا بهدوء جم: “إن صديقك هو الذي قام بالانقلاب”. بوصول زين العابدين إلى الحكم، أسدلت تونس الستار على ثلاثة عقود من حكم “المجاهد الأكبر”، وهو اللقب الذي كان يرغب الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة أن يطلقه على نفسه لا سيما أثناء احتساءه عصير البرتقال في نهار رمضان.فور استلامه مقاليد الحكم، أعطى بن علي إشارات انفتاح منقطعة النظير. أطلق وعوداً براقة ورأى فيه التونسيون مخلصاً عظيماً.

ولد زين العابدين بن علي في حمام سوسه عام 1936. لم يكمل “البكالوربا”، وهي مرحلة دراسية توازي الثانوية العامة في اليمن، لكنه كان ضمن 80 محظوظا التحقوا بدورة عسكرية من ستة أشهر في فرنسا، وفيما بعد التحق بالمدرسة العسكرية العليا للاستخبارات والأمن في بلتيمور في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة 20 شهراً. أخذ زين يطرح نفسه في أكثر من صورة، تنويعات تقتضيها المرحلة. فإذ شرع بملاطفة المعارضة، وإطلاق الإسلاميين من السجون، أشرف على صياغة “ميثاق وطني” توافقت عليه معظم الأطياف السياسية.
 
كان يعد بديمقراطية تحدث قطيعة جذرية مع نظام بورقيبة. هتف التونسيون باسمه. بعد شهر أطلق سراح راشد الغنوشي الذي صرح للصحافة فور خروجه من السجن: “أثق بالله وببن علي”. راح بن علي يبدأ مداخلاته بالبسملة. وقال ذات مرة: “يتوجب على الدولة وحدها السهر على الإسلام وتألقه”. لكن مستشارين للنظام في تلك الفترة قالوا للصحفيين: “إننا لا نعترف بذوي اللحى إلا لكي نكافحهم بشكل أفضل”. لاحقا، سوف يقوم الجنرال بإنشاء نظام بوليسي لا يقيم وزنا لأي شيء.

ونقطة الارتكاز الأساسية ستكون: الاستفادة القصوى من مخاوف الغرب، ومجتمع الليبراليين واليساريين المحليين والعلمانيين، من خطر الإسلاميين. حدثت الانعطافة الحادة بعيد اضطرابات الجزائر التي أعقبت فوز الإسلاميين في الانتخابات مطلع التسعينيات. التقى بن علي بشكل تكتيكي مع اليساريين على أرضية مشتركة: مكافحة الإسلاميين. وبعد بضع سنوات ذاق اليساريون مصيرا مشابها وإن أقل قسوة. والأرضية نفسها سوف تجمعه مع المعارضة العلمانية.
 
بهذه الطريقة يعبر خميس الشماري عن القلق الذي كان ينتاب الأوساط التقدمية في تونس من الأصولية الإسلامية: “خوفا من الأصولية، كنا لنبتلع الأفاعي”. باختصار، لقد تكشفت الوعود “البنعلية” عن سراب خداع، منذ العام 1989 حينما أجريت الانتخابات تحت تأثير الآمال التي بعثها العهد الجديد في نفوس التونسيين. كانت مهزلة انتخابية بامتياز. تحرك حزب الرئيس في الولايات يحذر ويعد ويهدد. ومع ذلك أحرزت قوى المعارضة نتائج جيدة وفقا للنتائج الرسمية، 18% من مجموع الأصوات.

وفي نفس يوم الانتخابات التشريعية، تم انتخاب الرئيس ابن علي بنسبة 99.20%! يعلق مؤلفا كتاب “صديقنا بن علي” على النتيجة هكذا: إذن يوجد في تونس 0.80% من الجاحدين! طعنت حركة النهضة الإسلامية في نتائج الانتخابات. واستدعي راشد الغنوشي إلى وزارة الداخلية: “بيانك غير مسؤول، وقد غضب الرئيس جدا، ولن يتحمل غلطة ثانية”. لم يكن بن علي يمتلك عقيدة سياسية ما.
 
ومنذ عام 1987 “أظهر بن علي بكل تأكيد حس مناورة لا يمكن إنكاره: الغريزة، الحيلة، الرياء، التصنع، كانت كلها أوراق اللعب التي استخدمها للاحتفاظ بالسلطة. لكنه عجز عن تحديد برنامج سياسي”، يقول مؤلفا كتاب “صديقنا بن علي”. كان زين العابدين بن علي عبقري البراغماتية الفجة بلا منازع. لقد جعل كل الأفكار والعقائد طوع إرادته، فهو اشتراكي وليبرالي، علماني متشدد لكنه إسلامي إذا لزم الأمر، يزور مكة ويرتاد المطاعم الرخيصة لليهود التونسيين في باريس. حتى أن سيرة حياته تحكي كيف أن الجنرال الجذاب افتتح عهده، في الرئاسة، برحلة عمرة تعلق خلالها بأستار الكعبة، وشاهده التونسيون وهو يذرف دموع الناسك. وزين العابدين جزار. لمع نجمه من خلال ضربه بيد من حديد حركة احتجاجية عام 1978 قتل فيها 100 شخص وعشرات الجرحى، كان بن علي حينها قد تعين للتو قائدا للأمن الوطني ويعتبر اليوم الذي أطلق فيه النار على المحتجين بداية صعود الرجل.

وفي 1984، تولى قمع ما سميت بانتفاضة الخبز. لكن، ويا للمفارقة!، انطفأ نجمه من خلال إخفاق أجهزته البائس في إخماد حركة احتجاجية جبارة، تلك الحركة الجامحة التي أطلقت شرارتها الأولى اليد الناعمة لشرطية أرادت معاقبة محمد البوعزيزي، وهو جامعي كان قد فشل في الحصول على وظيفة، لأنه رفض إزالة طاولة لبيع الفواكه والخضار.

لقد صفعته الشرطية فأحس بكرامته مجروحة، الأمر الذي دفعه للانتحار حرقا. لقد كان لهذه الحادثة مفعول الزلزال في ولاية سيدي بوزيد بأسرها، فخرجت في انتفاضة شعبية غاضبة لا تلوي على شيء.

وليست اليد الناعمة للشرطية هي اليد الوحيدة التي قوضت نظام بن علي، فهناك يد أخرى، إنما ناعمة أكثر وتخريبية أكثر وطويلة، ولم تكن هذه اليد سوى يد عشيقة الجنرال وزوجته، “الحلاقة” ليلى الطرابلسي، حاكمة قرطاج الجميلة إنما الجشعة جدا والعدوانية جدا والمتسلطة. سجل بن علي في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان أسود فاحم مثل شعر الجنرال، وعابث عبثا يضعه في مستوى ديكتاتوريات اشتهرت في التاريخ المعاصر، مثل صدام حسين وسلوبودان مليسوفيتش وكاسترو وتشاوشيسكو.
 
إعدامات موت تحت التعذيب، اعتداءات جنسية، حجز حريات، تلفيق تهم، ادوات تعذيب مبتكرة، واشتهرت منها: الفلقة، والأربوكة (صفع القفا براحة اليد)، والحمام (تعليق الضحية من قدميه مع ربط اليدين خلف الظهر، وتغطس عدة مرات في إناء مليء بالماء الوسخ)، والمشنقة الفلسطينية، وغيرها الكثير.
 
كان يحكم تونس بما يزيد على 130000 شرطي وعشرات الألوف من الخلايا الحزبية، و”لجان الأحياء” ومختلف بنى التنظيم الحزبي (أكثر من 7000 منظمة حكومية). قضى زين العابدين على الحريات قضاء مبرما. أخرس النقاش العام، وقام بتعطيل المجتمع المدني والصحافة. لقد أحكم سيطرته على شعب يقارب العشرة ملايين نسمة وأحاله إلى سجن هائل.
 
زاره المستشار الألماني الأسبق فيلي براندت للتوسط لصديق تونسي ينوي تأسيس حزب، لكن ديمقراطية بن علي التي تتيح له التنصت على المكالمات، أجابت على الوسيط هكذا: “لقد نعتني بالكلب في مكالمة مع صديقه، لن أتركه أبدا يعود للسياسة”، رد الجنرال.

وبمقدور زين العابدين الظهور بمظهر ديمقراطي إذا أراد. وهو عسكري تلزمه ساعتين فقط لكي يبدل زيه العسكري إلى مدني. سأله رئيس الوزراء في أول أهم ترقية يحصل عليها بن علي: كم تحتاج من الوقت لتبديل زيك العسكري إلى مدني. بعد ساعتين عاد وقد ارتدى بدلة فاخرة ليتم إعلانه قائدا للأمن الوطني. إنه، فوق هذا وذاك، المثال الحقيقي “للضحالة المفجعة لسوقي آتٍ من إحدى المديريات الفرعية”، بتعبير جيل بيرو في مقدمته لكتاب “صديقنا الجنرال زين العابدين بن علي، وجه المعجزة التونسية الحقيقي”، الكتاب المليء بالحقائق والإثارة والتشويق الذي ألفه الصحفيان الفرنسيان نيكولا بو وجان بيير توكوا.

وفي مقارنته بين الملك الراحل الحسن الثاني، ملك المغرب، وبين زين العابدين بن علي، يقول جيل بيرو: “كان للحسن رأس، وليس لزين العابدين بن علي سوى يدين”. في إشارة إلى تميز الملك بالذكاء بينما لا يتميز زين العابدين سوى “بردود فعله المتعجلة التي يكتسبها المرء في الثكنات”. وزين العابدين علماني لا يهادن. وهو أخذ على عاتقة اجتثاث “مجانين الله” من تونس، حتى أن زوجته ليلى الطرابلسي قالت ذات يوم إن صوت الأذان يزعجها. وهو صديق الصحافة. ولقد أتلف يوما جميع نسخ مجلة “لو نوفيل افريك آزي” لأنها نشرت له صورة تظهر شعر رأسه “وقد وخطه الشيب”. ذلك أن الجنرال السبعيني لا يمكن له إلا أن يكون ذا شعر أسود داكن على الدوام ومتناسق. وزين العابدين، الآن، ملك شريد بلا بلاط ولا حرس رئاسي، كأي ملك مخلوع (كان يسميه التونسيون “ملك البوب” بعدما أقام حفلا كبير لملك البوب الحقيقي مايكل جاكسون عام 1997).

في نهاية المطاف، وجد نفسه غير مرحب به من أصدقائه الغربيين. هل فكر يوما في هذا المآل الدرامي والحزين؟ لا أحد يعرف.

إلا أن كتاب “صديقنا الجنرال بن علي” يسرد نكتة كان يرويها التونسيون المكبوتون. تقول النكتة: وجد بن علي يوما قمقما وفركه فخرج المارد وقال له: “شكرا لأنك حررتني من القمقم، ماذا تريد لقاء ذلك؟”، فيجيبه بن علي: “أريد طريقا كبيرة من الرخام تمتد من تونس إلى بيونس آيرس حيث يعيش صديقي الرئيس كارلوس منعم (رئيس الأرجنتين الأسبق)، وحيث أحب أن أقضي فترة التقاعد”. فأجابه الجني: “من الصعب جداً تحقيق هذا المطلب، اطلب مني شيئا آخر”. فيقترح عندئذ بن علي: “هل تستطيع تهدئة المحيطين بي الساخطين بشكل متزايد والذين يخلقون لي المتاعب؟”. فيطلب الجني آسفا من الرئيس التونسي أن يجد فكرة أخرى أكثر سهولة. فيقول بن علي: “يجب على الصحفيين الأجانب أن يكتبوا عن أن تونس بلاد للديمقراطية”. صمتٌ طويل، ثم يهمس الجني: “هذا مستحيل فعلاً، في نهاية الأمر أظن أننا سنبني الطريق الطويلة إلى الأرجنتين، بكم مسرب تريدها؟”.
 
يبدو أن المارد شق الطريق بالفعل، لكن ليس إلى بيونس آيرس، ولم يكن طريقاً رخامياً. 

 

نقلا عن صحيفة المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى