لا رئاسة مدى الحياة.. فقط 49 عاماً!
لا حاجة للتمويه، فالحكاية شديدة الوضوح. الرئيس صالح لا يريد البقاء مدى الحياة، ولا يفكر بتوريث السلطة لنجله. إنه يرى الحديث عن مثل هذه الأمور وقاحة وبذاءة “لا تجوز” . الرئيس فقط يريد ان يحكم لفترتين رئاسيتين، مدة كل فترة 7 او 5 سنوات، بدءاً من نهاية العام 2013. اي انه يفكر بحس ديموقراطي ووطني ودستوري، ونزولاً عند مقتضيات المصلحة العامة، ان يترك السلطة في العام 2027 ان شاء الله ! ولو استخدمنا اصابعنا في العد فسوف ندرك ببساطة، وبهدوء متناه، ان الرئيس – الذي وصفه رئيس تحرير صحيفة الجمهورية بأنه “أعظم ديموقراطي في العالم الثالث” وتحدث عنه رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر ووصفه بـ “الرجل الذي تجري الديموقراطية في عروقه كما يجري الماء في العود الأخضر” – يفكر في ان يحكم اليمن لمدة 49 عاماً ميلادياً فقط لا غير، وليس الى الابد، كما يزعم الامامي ابو كرافتة وشلته الافندية. دعونا نتذكر تلك الجملة الشعرية البديعة، التي لطالما احتفى بها الكاتب الكبير خورخي بورخيس “سأحبك الى الابد ويوم” . حتى الابد يبدو متعيناً وملموساً، اذ اننا لا يمكن ان نسمي ثلث قرن في الحكم بسوى الابدية المحضة، كأن الرئيس صالح يقول لليمن : سأحبك حتى الأبد وفترتين.
مروان الغفوري [email protected]
صحيح ان عمره الرئاسي حتى الان تجاوز ضعفي فترة حكم الامام احمد، وتفوق على فترة حكم الامام يحيى بثلاثة اعوام، الا انه اصبح يفكر بصورة مختلفة واكثر فروسية : ماذا لو تجاوزت فترة حكمي الجمهوري “يقول لنفسه” فترة الحكم الامامي الحديث منذ نهاية الحرب العالمية الاولى، 1918 وحتى ثورة 1962 ؟ ربما بدأ الامر انتصاراً للجمهورية على مستوى الثبات والمقدرة والرضا الشعبي، وكان كافياً لادخال مزيد من الاسى الى قلوب الاماميين الموتى الذين يبغضهم الرئيس صالح لأسباب غير مفهومة سياسياً. ان هذا هو ما سيحدث بالفعل، او ما يريد له ان يحدث بكل ضراوة واستماتة . وعند ان يحدث ذلك فسيكون الرئيس صالح ثالث اطول معمر في الحكم في تاريخ كوكب الارض : العزيز في مصر، المستنصر بالله الفاطمي، علي عبدالله صالح “49 عاماً في الحكم “. يجوز ان نتذكر امراً غاية في الاهمية : لقد ارتبط طول بقاء العزيز في الحكم بمجاعة رهيبة رأى القرأن الكريم انه من الاهمية بمكان الاشارة اليها في سورة يوسف للعبرة والتذكرة . اما المستنصر بالله، الذي حكم لستين عاماً، فقد ادخل مصر في مجاعة تاريخية وصفت بالشدة المستنصرية بلغت حد ان تعرض المرأة كل حليها مقابل قرص من الخبز فلا تجد، كما يذكر الجبرتي في تاريخه . يفسر التاريخ كثيراً من كآباته واضطراباته بكونها حتمية ناشئة عن طول بقاء الحاكم في السلطة، وما يفرزه هذا الخلود من طبقات طفيلية ،نفعية آلية تعمل على تخريب جسد الوطن من قصد ودون قصد . فضلاً عن فقدان الحاكم، مع الزمن، قدرته على المبادرة والاستجابة السريعة للمتغيرات والرؤية الاستشرافية المعمقة . لان تحولات الزمن ونتائجها الاجتماعية والسياسية، تغدو اكثر كثافة من قدرة”عقل واحد”على اللحاق بها وتفكيكها واحتوائها . اسألوا التاريخ والطب السلوكي، لو سمحتم، وانظروا كيف يسلك العالم الاول في هذا المضمار
.
لا مانع من استخدام شعار”بالروح بالدم نفديك يا يمن” لاجل تنشيط حماس المؤسسة العسكرية في مؤتمر القادة، وتسويق فكرة “نصف قرن في الحكم” باعتبارها مجرد “فترتين” من سبع سنوات لكل فترة، هكذا بمنتهى الامتهان والبساطة، وبأقل قدر من التضليل . وبحيث يبدو بقاء الرئيس في الحكم نصف قرن من الزمن كما لو كان فداء وتضحية لاجل اليمن ! وصولاً الى الدفاع عن هذه الفكرة بحسبانها شكلاً سماوياً لما يسميه “السلم الاجتماعي” انها تضحية تدخل السرور والغنيمة لصاحبها، وليس فيها اي قدر من الألم، لذا فأغلب الظن ان هذا النوع من التضحية والفداء لا يمكن عدة من الامور النافعة للجماعة البشرية، كذلك، طبقاً لفلسفة غالبية الاديان السماوية والارضية، من المستبعد ان يشعر الإله بالامتنان لقاء افعال ليست مرتبطة بالألم، بل على العكس من ذلك، فنحن بصدد رجل يريد ان يبيع لذته للبشر والإله بوصفها “تضحية عالية القيمة” تقتضي جزاءً موفوراً من اللذة والمتعة ليس اقل شأنا من التضحية ذاتها . رجل يريد ان يحصل على المكافأة الإلهية، التي ستكرس مزيداً من اللذة في الغالب، مقابل انغماسه في النعيم لنصف قرن . انها مبادلة مستفزة، فضلاً عن ابطانها لدرجة ما من السخرية.
مرة اخرى : حاصل جمع عهد الامامين يحيى واحمد بلغ 46 عاماً تقريباً . الرئيس صالح، حتى هذه الساعة، يشعر بان الامامه هزمته، فهو لم يحكم اليمن سوى 33 عاماً . هاه، يصر الان على فترتين جديدتين، اما 10 اعوام، او 14 عاماً، على ان تدخل في حسابه الرئاسي من بعد العام 2013 ، اي في تلك السنة التي سيكون فيها قد حكم اليمن لـ 35 عاماً . لا قيمة لفكرة تغيير المادة 112 ، حيث افترض التعديل المؤتمري المقترح الغاء النص على فترتين رئاسيتين . اذ تكفي الرئيس صالح الان فترتان اضافيتان ليتجاوز عمره الثمانين عاماً . واذا تذكرنا جيداً انه وصل الى السلطة عندما كان عمره لا يتجاوز 35 عاماً، اي مقتبل العمر، فان فترتين جديدتين ستعنيان انه قد حكم اليمن طيلة حياته، دعونا لا ننسى ان نضع هذه الحقيقة التاريخية بجوار مقولات غير ذات صلة : الديموقراطية اليمنية، سيادة المؤسسات، الشرعية الدستورية، الجمهورية، سلطة الشعب، دستور دولة الوحدة .. وهلم جراً، وبراً.
النص الدستوري واضح، ولا لبس فيه : على الرئيس الذي يحكم اليمن في الوقت الراهن مغادرة كرسي الرئاسة قبل سبتمبر 2013. هذا ما يقوله الدستور اليمني، الذي ازهقت بسببه آلاف الارواح، وليس باسندوة وياسين . وبالنسبة لبقية المواد المقترح تعديلها فيمكن الخوض فيها ضمن توافق عام دون الحاجة لخلطها بالمادة 112. فمن غير المفهوم الاقتراب من مادة فترة الرئاسة، واعادة استئناف الفترتين الرئاسيتين “من أول وجديد”، وكآن السابقتين كانتا مجرد “فترتين وديتين ” على ان ندخل في الجد فور انقضائهما مباشرة!
اذا كنا بصدد الحديث عن الحكم المحلي وقانون الانتخابات واصلاحات السلطة التشريعية، وهي قضايا متعلقة بالمستقبل اليمني، فلماذا يزج بمستقبل الرئيس في اتون المستقبل اليمني؟ لماذا تصبح ذات الرجل تجلياً للدولة اليمنية وتمرئياً ابديا لمكوناتها وطقوسها؟ في يوم ما سيموت الرئيس صالح – مثل خلق الله كلهم – وسيلتقي باولئك الآلاف الذين قتلوا في معارك حماية الدستور والشرعية، وسوف يسألونه بكل تأكيد : اذا كان الدستور بهذه الهشاشة والخفة، بحيث يمكن تغييره وتعديله وتفكيكه وتركيبه مع كل انتخابات، وتماشياً مع نكت البركاني، فلماذا قتلنا اذن؟ وعن اي قداسة كنا ندافع اذا كانت بكارة الدستور اهون من ختان فتاة افريقية، من غير المؤكد ان الرئيس سيسمع، ساعتئذ، ان قتلى حماية الدستور يشعرون بأن حياتهم ازهقت في سبيل امور لها معنى جليل، سوى “سبيل التاج” مع الاعتذار للسيد المنفلوطي.
بمعنى آخر، من غير لف ولا عجن : لا يزال الرئيس يطلق الرصاص في جهات اليمن الاربع . انه للتو خرج من الحرب السادسة في صعدة . كل هذه الحروب كانت تحت ذريعة حراسة “الشرعية الدستورية” وحماية الوثيقة الوطنية المجمع عليها “الدستور اليمني “. بيد انه وبعد ان اتم الرئيس كل هذه الحروب، واستراح قليلاً، قرر ان يتدخل هو ويفعل بالدستور اموراً لطالما قال ان مهمته الحيلولة دون حدوثها، الى الآن جرت في اليمن ثلاثة انتخابات برلمانية، منذ الوحدة لكن الدستور عدل اربع مرات . لا يحدث في اي مكان في العالم – كما لا يمكن ان يحدث – ان يجري تغيير الدستور على هذا النحو المسرف والمتكرر، وبلغة القانون فان الدستور يكون قد تعرض لانتهاك شديد حين تتجاوز مرات اقتحامه وتفكيكه ثلاث مرات في اقل من عقدين . ما الذي يجري بحق الإله؟ فمنذ عام 1990 وحتى العام 1999 عدل اربع مرات، بمعدل مرة كل عامين تقريباً . وفي كل مرة كانت الترتيبات الرئاسية هي التي تحضر بجلاء في موضوع التعديلات مع بعض التمويهات الشكلانية عديمة الجدوى، بدليل ان كل التعديلات التي قيل انها تهدف الى تفعيل المصلحة العامة اثبتت انها ليست كذلك، وان المصلحة الوطنية لا تزال خارج السياقات . لا معنى لتغييرات على مستوى الدستور اذا كانت هذه التغييرات ذاتها ستحتاج الى تغييرات في خلال اقل من خمسة اعوام . يبدو الامر وكأن مقترحي التعديلات لم يكونوا فقط فاقدي القدرة على الابصار بعيد المدى ساعتئذ، بل لقد كانوا ايضاً، وفيما يبدو، يعملون بحس الجالية المقيمة في بلد اجنبي، وهو توصيف نسب الى القيادي المعارض محمد قحطان قبل اربعة اعوام . سيكون من المناسب هذه الجالية عمل الترتيبات اللازمة قصيرة المدى، للحصول على اكبر قدر من الغنيمة والامن، وعندما تسوء الاحوال في المدينة فان افراد هذه الجالية – دعونا لا نقول “العصابة” يعرفون جيداً تلك السراديب التي تؤدي الى مرابط الهيليوكابتر. لكن ربما ان الاحوال لم تبلغ تلك الدرجة من السوء لتلملم هذه الجالية مؤونتها ومكتسباتها – التي يجري وصفها بالوطنية وتدخل في السرداب. السرداب هنا غير النفق المظلم، الذي وصفه الشيخ الاحمر. فهم سيدخلون في الأول بينما سندخل نحن كمواطنين في الثاني. كما لم تتحسن الاحوال لدرجة تدفع معها بعض المتهورين لإغلاق السرداب والى الابد . هذا الامر اتاح لافراد الجالية فرصة العودة إلى الدستور لأكثر من مرة وتخريبه بداعي الحفاظ عليه، وتفتيت الدولة بذريعة صيانة التراب الوطني . لقد حشدوا كل ذلك القدر المهول من البارود وجالوا به في صعدة والجنوب لكي يدافعوا عن الدستور . لكن الضحايا اكتشفوا بعد موتهم ان حرس الارادة الدستورية لم يكونوا يريدون من الدستور غير أمر واحد : ان يقول لهم “نعم” في كل الاوقات، وبلهجة بلدية لا يطرأ اليها الارتباك والوجل.
دعونا نتذكر تلك العبارة التي وردت في تعليق لشركة باراماونت، للانتاج السينمائي، حول عزمها انتاج رواية “زبيبة والملك ” لصدام حسين على شكل فيلم سينمائي، لقد تحدثت الشركة عن صدام حسين بوصفه الرجل الذي عرض حياته للخطر، لكي يصبح ديكتاتوراً للعراق، ثم استمر في خنق ذلك البلد “بكل حنان” انهم يفعلون الامر ذاته في كل بلد عربي، يخنقون البلد بمنتهى الحنان، ويربتون على كتفيه بكل قسوة ودموية. سيقول أحد الأميين، إذ يمتلك النظام وفرة غزيرة منهم، ان اليمن غير العراق. لقد قالوا ايضاً : اليمن غير تونس، يمكن اضافة : اليمن غير عُمان، وهي غير انغولا وبروكينافاسو، يصح ذلك حين نتحدث عن قضايا بيئية، وشؤون ذات علاقة بالطقس وتوزيع التضاريس . ان تونس ايضاً غير اليمن، ومن الجيد تذكر ان اليمن ايضاً غير الجمهورية العربية اليمنية . لكن التشابه بين نظام اليمن ونظام صدام حسين، وكذلك نظام بن علي، يكمن في مستويات اكثر عمقاً وتعقيداً من قدرة منظري المدائح السلطانية على ادراكها . دعونا نورد هذه العبارة الحديثة من صحيفة “هاندلس بلات “الالمانية “ان المشكلة تكمن في انظمة الحكم العربية . ومع ان الازمات السياسية والاجتماعية تبدو متفاوتة من بلد عربي لآخر . الا ان لها المسببات نفسها : غياب العدالة الاجتماعية والديموقراطية والاستقرار . فضلاً عن جشع النفوذ والسياسة العمياء للنخب الحاكمة” . ما هذا؟ يقول لنا الخواجات ان اليمن تبدو شديدة الشبه بتونس، اذن رغم كل العك والهبل الذي يقال في هذا الشأن . لكن فيما يبدو، لا يزال ينقص اليمن ذلك الثالوث التونسي الساحر لكي يتشابه النظامات على نحو عربي متين : سرداب طويل، مدرج هيليوكابتر، وطائرة مدنية مختبئة في جزيرة مالطا، او كمران، لا فرق .
نقلا عن صحيفة المصدر