تحليلات

الهروب الكبير لـ “القاعدة” في اليمن

الهروب الكبير لمسلحي “أنصار الشريعة” الذراع اليمنية لتنظيم “القاعدة” من معاقلهم الرئيسة في محافظة أبين ثم من مدينة عزان بمحافظة شبوة أشاع مظاهر ارتياح واسعة، إلا أن عمليات الانسحاب المريب للمسلحين أثارت نقاشاً واسعاً وانقساماً في رؤية السياسيين والمحللين بين من اعتبروا ذلك هزيمة كبيرة للتنظيم أنهت إلى الأبد مشروعه في تأليف الإمارات الإسلامية في اليمن وبين من رآه مؤشراً على أن خطر “القاعدة” لا يزال قائماً، وخصوصاً مع إقرار التنظيم بأن مسلحيه انتقلوا من مرحلة المواجهات المباشرة إلى حرب العصابات ونقل المعركة إلى المحافظات من طريق نشر جماعات صغيرة وشن هجمات مباغته .


 

يؤكد قادة عسكريون أن عملية “السيوف الذهبية” وقبلها عملية “الحسم” التي شنها الجيش على معاقل “القاعدة” في محافظة أبين ثم في مطاردة فلولهم في محافظة شبوة لأكثر من شهر حققت أهدافها في تدمير أكثر معاقل التنظيم الأصولي وترسانته الحربية التي أشاعت قلقاً عالمياً بعدما انتقلت من معسكرات الجيش إلى أيدي مسلحيه، بل إن الرئيس هادي أكد أن انتصارات الجيش ألقت بمشروع التنظيم في تشكيل الإمارات الإسلامية في مزبلة التاريخ .


 

في مقابل ذلك، رأى سياسيون أن مرحلة جديدة في الحرب على “القاعدة” بدأت بمجرد بدء عمليات الانسحاب الجماعي لمسلحي التنظيم من معاقلهم الرئيسة في محافظة أبين بدءاً من مدينة زنجبار ثم مدينة جعار وأخيراً مدينة شقرة الساحلية قبل أن يتحصنوا في آخر معاقلهم بمدينة عزان في محافظة شبوة المجاورة، ويعتمدون تكتيك الانسحاب الجماعي نفسه .


 

 ويشير هؤلاء إلى أن التقديرات كانت تتحدث عن ثلاثة آلاف مسلح من التنظيم الأصولي على الأقل، وبينهم عرب وأجانب فروا من جبهات القتال في مدينة زنجبار وتحصن بعضهم في مدينة جعار ثم في مدينة شقرة الساحلية التي كان الجيش يستعد لاقتحامها بقوة ضاربة مدعومة بسلاح الجو والقوات البحرية وتفاجأ أنه يدخلها من دون مواجهات بعدما انسحب أكثر المسلحين منها باستثناء بعض الجيوب .


 

ويضاف إلى ذلك 300 صومالي كانت صنعاء قالت: إنهم من مسلحي جماعة الشباب المجاهدين المرتبطة ب”القاعدة” وتسللوا إلى اليمن لمساندة التنظيم، ونشرت في وقت سابق أومر إلى قواتها الأمنية بالمحافظات بتعقبهم وتضييق الخناق عليهم في جبهات القتال بعدما قتلت قوت الجيش عدداً منهم في معاركها مع المسلحين في محافظة أبين وألقت القبض على آخرين .


 

ويلفت هؤلاء إلى أن جماعة أنصار الشريعة كانت شديدة الوضوح في تعاطيها مع الحملة التي شنها الجيش مدعوماً بالإسناد الجوي الأمريكي، إذ أعلنت صراحة أنها قررت سحب مسلحيها من جبهات القتال ونشرهم على شكل جماعات صغيرة في إطار مرحلة حرب العصابات لشن هجمات مباغتة ونقل المعركة إلى المدن بما في ذلك الاغتيالات التي ظهرت للعلن في سلسلة الهجمات الانتحارية التي استهدفت قادة الجيش في أبين وبينهم وزير الدفاع اللواء محمد ناصر أحمد ثم عملية اغتيال قائد المنطقة العسكرية الجنوبية اللواء سالم قطن الذي يوصف بأنه قائد الحرب الأول على “القاعدة” بعدما دفع التنظيم بانتحاري لاغتياله بالقرب من منزله في محافظة عدن .


 

لكن كيف ولماذا انسحبت “القاعدة” من أبين وشبوة؟


 

أسباب متداخلة


 

في البحث عن أسباب فرار أو انسحاب مسلحي “القاعد”ة من محافظة أبين يواجه البعض صعوبات في حصرها بالمعطى العسكري دون السياسي، فعندما فرض مسلحو التنظيم الأصولي سيطرة كاملة على معظم مدن محافظة أبين منذ العام الماضي متحدين الإرادة المحلية والدولية، لم يكن للحسم العسكري أي حضور، رغم خوض الجيش حروباً كبيرة وطويلة مع هؤلاء لم تسفر عن أي نتائج إيجابية .


 

وبرأي هؤلاء فإن القوة العسكرية التي أرغمت مسلحي التنظيم على الفرار في معارك الجيش الأخيرة بعدما تهاوت أكثر دفاعاتهم في محيط مدن زنجبار وجعار وشقرة ومناطق الشريط الساحلي لمحافظة أبين لم تكن سوى انعكاس للإرادة السياسية التي برزت إلى الواجهة بعد الإطاحة بالرئيس السابق وانتخاب الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي وضع الحرب على “القاعدة” في مقدمة أولوياته السياسية بعد تسلمه منصبه رئيساً منتخباً لليمن خلفاً لعلي صالح . من الناحية العسكرية يرى هؤلاء أن قادة التنظيم أدركوا بعد المعارك التي خاضوها مع الجيش اليمني في ضواحي المدن الرئيسة الخاضعة لسيطرتهم (زنجبار، جعار) صعوبة التورط في حرب مباشرة مع جيش نظامي لديه من الإرادة والعزم والقيادة الموحدة ما يؤهله لاستعادة كرامته في الهزائم التي تكبدها العام الماضي، وخصوصاً بعدما أدت المعارك التمهيدية التي أدارها في ضواحي هذه المدن إلى تكبده خسائر باهظة وغير متوقعة .


 

الفارق في الأداء العسكري بين المعارك التي خاضها الجيش اليمني في العام الماضي وسجل فيها أكبر انتكاساته وبين معاركه الأخيرة التي تهاوت معها أكثر تحصينات ودفاعات التنظيم وترسانته العسكرية لم يكن بحسب هؤلاء سوى انعكاس للإرادة السياسية في دحر هذا التهديد انعكست على كفاءة العمليات الحربية بعدما دفعت صنعاء بتشكيلاتها القتالية لموجهة مسلحي التنظيم بالتوازي بالقوة المحلية عبر اللجان الشعبية التي تشكلت في أكثر المناطق ولعبت دوراً مهماً في حسم المعارك لصالح الجيش .


 

يضاف إلى ذلك العامل الخارجي الذي تجلى في مشاركة الخبراء الأمريكيين في التخطيط وإدارة العمليات الحربية والتدريب، وأكثر من ذلك الدور المباشر للقوات الأمريكية في سلسلة الضربات التي نفذتها القطع البحرية من خليج عدن والغارات اليومية للمقاتلات اليمنية والطائرات الأمريكية من دون طيار .


 

ويقول عسكريون إن الغارات الجوية نجحت إلى حد كبير في تدمير معظم الترسانة الحربية التي كانت بحوزة مسلحي التنظيم، كما دمرت العديد من مستودعاته وآلياته الثقيلة التي استولى عليها من معسكرات الجيش وظل لشهور يراهن عليها في الصمود وفرض السيطرة على مدن جديدة .


 

اختراق داخلي


 

ويضاف إلى ذلك الجهد المخابراتي الذي أسهم إلى حد كبير في إحباط هجمات للتنظيم في داخل اليمن وخارجها كما ساعد إلى حد كبير في اصطياد قيادات التنظيم عبر الغارات على أهداف متحركة وثابتة أفقدت التنظيم صوابه قبل أن يكتشف أنه مخترق أمنياً ويلجأ إلى تنفيذ سلسلة إعدامات جماعية طاولت العديد من ناشطيه وغيرهم .


 

ويرى الكاتب والمحلل السياسي نصر طه مصطفى أن الإجابة على هذا السؤال يمكن استشرافها من خلال استقراء منطقي لمسار الأحداث والمتغيرات خلال الشهور الثمانية عشرة الأخيرة، فاليمن كان على موعد مع ثورة تغيير جذري غير مسبوقة خرج خلالها ملايين اليمنيين في معظم المحافظات بوسائل سلمية تطالب برحيل رأس النظام السابق ومراكز نفوذه في الحكم، وكان ذلك حقاً خالصاً لهم تأخروا كثيراً في التعبير عنه رغم استمرار تردي الأوضاع بصورة متسارعة منذ عام 2007م، وبلاشك فإن التأثيرات الإيجابية للثورة الشعبية السلمية امتدت إلى الجيش تماماً كما امتدت لمرافق أخرى أمنية ومدنية، وتجلى كل ذلك واضحاً في تأييد عدد من قادة الجيش والأمن المؤثرين والمعتبرين علناً للثورة في شهر مارس/ آذار من العام الماضي فيما رأى عدد آخر غير قليل منهم في حينه عدم إعلان تأييدهم لها لعدة أسباب منها عدم دفع صالح وعائلته للانتحار العسكري وردود الفعل من خلال إشعال مواجهة شاملة غير محسوبة، وبمجرد توقيع الرئيس السابق المبادرة الخليجية بدأت مظاهر التعبير عن الاستياء من القيادات العسكرية والأمنية القريبة منه تبرز بوضوح ولم تنته إلا بالتغييرات التي طالتها على يد الرئيس المنتخب .


 

يضاف إلى ذلك بحسب مصطفى التغيير الذي تم في رأس السلطة يوم 21 فبراير/ شباط الماضي عبر الانتخابات الرئاسية المبكرة ومجيء أول رئيس يمني من الجنوب في عهد الوحدة مؤهلاً تأهيلاً أكاديمياً عسكرياً راقياً وتوافر الإرادة السياسية لدى الرئيس هادي لمواجهة “القاعدة” والتي أدى توفرها إلى تيسير أمور كثيرة أخرى إذ استتبعها تغييرات ضرورية في قيادة المنطقة الجنوبية ما كان يمكن للمعركة أن تبدأ وأن تحقق النصر إذا لم تحدث .


 

ويلاحظ مصطفى أن المعركة الكبيرة التي قادها مؤخراً الرئيس هادي نجحت في حصر “القاعدة” بمساحة جغرافية محدودة جداً ما سيسهل التعامل معها في قادم الأيام بعمل عسكري أمني استخباري فعال مع استمرار النجاح أيضاً في التحرر التدريجي الذي حدث في معظم تلك القوات والأجهزة من قبضة من كانوا يستثمرون الحرب على “القاعدة” لتحقيق فوائد كبيرة .


 

وإلى هذا يرى عبدالله عبدالكريم الناشط ضمن اللجان الشعبية في محافظة أبين أن انتصارات “القاعدة” في أبين على قوات الجيش وسيطرتها على معسكرات بعتادها الحربي الثقيل وشنها هجمات مميتة وضربات موجعة أوقعت مئات القتلى والجرحى من قوات الجيش لم تكن سوى نتاج للصراع الحاصل في مراكز القوى بين النظام السابق الذي أطاحت به ثورة شعبية والنظام الجديد الذي تصدر المشهد السياسي بعد التوقيع على المبادرة الخليجية وتنظيم الانتخابات الرئاسية المبكرة .


 

ويرى عبد الكريم أن الخطوات التي باشرها الرئيس عبد ربه منصور هادي والحكومة الانتقالية في تفكيك مراكز القوة والشروع في خطوات جزئية لهيكلة الجيش أعاد الأمور إلى نصابها جزئياً، فحقق الجيش اليمني في شهر ما عجز عن تحقيقه في أكثر من سنة من معارك الكر والفر التي أرهقت الدولة والجيش المنقسم على نفسه .


 

تغيير أيديولوجي


 

وفقاً للبيانات التي أصدرها قادة التنظيم التي أعلنوا فيها قرارات “مجلس شوى أنصار الشريعة” بالانسحاب من المدن وتجنب خوض مواجهات مع الجيش المقتحم، تحدث هؤلاء عن أن الدافع الأكبر كان تجنيب هذه المدن الخراب الذي تعرضت له مدينة زنجبار وأدى إلى نزوح أكثر سكانها المدنيين .


 

لكن المبررات التي ساقها التنظيم في بياناته بعد الانسحاب لم تكن مقنعة لكثيرين كونها كانت أشبه بخطاب سياسي موجه إلى أنصاره الذين تفككوا وانطوى على رسالة بأنه لا يزال باقياً وأن عليهم العودة إلى تكنيك التنظيم الدولي ل”القاعدة” الذي يعتمد تجنب المواجهات المباشرة مع الجيوش النظامية وتأليف خلايا مستقلة صغيرة عنقودية لشن هجمات انتحارية، خصوصاً بعدما أدى هذا الأسلوب إلى نتائج كارثية في تدمير مدن كاملة وتشريد عشرات الآلاف إلى جانب فقدان التنظيم التعاطف الشعبي الذي يعده من أكبر عوامل بقائه . ويلاحظ محللون سياسيون أن تحولاً كبيراً طرأ في أيديولوجيا الذراع اليمنية للقاعدة (أنصار الشريعة) لم يكن بعيداً عن حال الاضطراب الذي ساد اليمن خلال عام الثورة 2011 عندما شرعوا بعد نقاشات كبيرة مع القيادة الدولية للتنظيم في إعلان إمارات إسلامية في بعض مدن محافظتي أبين وشبوة بعد إخراجها من حظيرة الدولة وبناء مليشيا عسكرية للسيطرة مستفيدين من الدعم اللوجستي والمخابراتي من أطراف في النظام السابق شجعتهم على المضي بهذه المغامرة، رغم التحفظات والتحذيرات التي أعلنها قادة كبار في التنظيم الدولي بما في ذلك زعيم التنظيم الأصولي أسامة بن لادن قبل مقتله في باكستان . هذه القضية كانت محور نقاشات لدى قيادات التنظيم المركزية بزعامة أسامة بن لادن الذي سبق وأن نصح قادة أنصار الشريعة في أبين بعدم التورط في خوض مواجهات مع حكومات وجيوش نظاميه غير أن التنظيم الذي حظي بدعم كبير لوجستي ومخابراتي ومالي وجد في ذلك فرصة للتجربة فأعلن ثلاث إمارات إسلامية وشن هجمات على معسكرات الجيش واستطاع في أشهر قليلة استقطاب المئات من الشباب المقاتلين بعد أن حاز على ترسانة سلاح كبيرة للغاية . وإذ يرى البعض أن “أنصار الشريعة” جازفت كثيراً في قرارها بالانتقال من استراتيجية التخفي إلى تكتيك المواجهة المباشرة إلا أنهم يعيدون ذلك إلى الضمانات التي أتاحتها لهم أطراف نافذة ومراكز قوى ناهيك عن تحمسهم لاستغلال مشكلات انقسام الجيش والاضطرابات التي أنتجتها الثورة على النظام السابق التي كانت سبباً مباشراً في تنفيذ مشروع الإمارات الإسلامية، وهو ما دعا كثير من قادة التنظيم الدولي إلى الانخراط في هذا المشروع بما في ذلك بعض رموز القيادة المركزية لتنظيم “قاعدة الجهاد في جزيرة العرب” والتي شاركت في المشروع بحذر من طريق تزويد جماعة أنصار الشريعة بكل التكتيكات المعروفة عن التنظيم في الخطاب الديني المؤثر وحملات الاستقطاب والدعاية ومعسكرات التدريب، وكذلك الخبرات المتخصصة في شن الهجمات الانتحارية والتفجيرات . رغم كل هذا الدعم وغيره إلا أن مشروع التنظيم لم يصمد كثيراً وانهار كلياً مع أول اختبار بعدما أظهر نفسه كقوة تهدد ليس أمن اليمن وحسب بل أمن المنطقة والعالم، وخصوصاً بعدما أظهر للعالم أنه صار قوة تضاهي الجيوش النظامية بما تملكه من ترسانة سلاح بما في ذلك الدبابات ومنصات الصواريخ والمدفعية والأسلحة المتوسطة وحتى كاسحات الألغام .


 

وبعد اقتحام الجيش اليمني لمعاقله في أبين بدءاً من زنجبار ومروا بجعار وشقرة تهاوت تحصيناته ودفاعاته الواحد تلو الآخر، ولا سيما بعدما ركزت الضربات الجوية الأمريكية واليمنية على تدمير أكثر آلياته العسكرية التي سيطر عليها من معسكرات الجيش .



المصدر: الخليج – ابوبكر عبدالله

زر الذهاب إلى الأعلى