أخبار وتقارير

ارشيف الذاكرة .. أنا بشر كاد يغلبني الشر يوما

يمنات

أحمد سيف حاشد

حرب ضروس هي تلك التي نعيشها اليوم، بل وقد باتت حروب باذخة ومتعددة، تهاجمنا من كل حدب وصوب، وتسحقنا كل يوم بتكرار ثقيل.. نهلك فيها ونجوع منذ ست سنوات طوال، وصمت العالم المتحضر يتواطأ مع الحرب لتطول أكبر فترة ممكنة، وضمير العالم مُلجوم بمال النفط، ومصالح الدول التي تعيش على الحروب والضحايا..

بتنا ضحايا محاصرين ومقموعين.. تتزاحم علينا أسباب الفناء من كل صوب واتجاه.. محارق ومهالك وأوبئة.. جوع ومجاعات ومخافة.. سجون ومعتقلات وزنازين.. جبايات لا سقف لها تزداد في العام مرتين.. وأسواق سوداء تزيد سعر الضعف ضعفين، وقد باتت تنتشر كالفطر وتنهشنا كالضباع..

احتلال يتمدد، ونفوذ يتم تقاسمه، وسلطات أمر واقع بالغلبة تفرض نفسها.. لا هم لها غير اخضاعنا إلى أجل غير مسمّى، وكل ما مرت الأيام غلظت سُلطة الإخضاع، وأوغلت في طغيانها، وأمعنت في إفقارنا، وحمت فسادها الذي تغوّل، وأسواقها السوداء التي بات لا يفوقها في الدمامة غير وجه السلطة نفسها، والتي تبذل كدها وكديدها لحماية نفسها منّا نحن الضحايا  والجياع..

وحيدون وفقراء نحن نحترق، ونار النفط تذكي ما خمد.. العالم حولنا يمارس حربه ضدنا لأننا فقراء ويسحقنا العوز.. ولأن عدونا يملك المال والنفط والعمالة التي لا تعترض.. كل المسوخ توالدت حتى صارت كالأحذية في المستنقعات الموحلة..

عذابنا لا ينتهي حتى تصير رفاتنا رمادنا.. كل يوم في الجحيم نشتوي.. حشودنا لا تنقطع ومواقده لا تنطفي.. نحن زيت نارها.. أبناءنا أفواجها.. وتستمر المحرقة.. تجارها يحتفوا بفنائنا.. يتفيدون نزيفنا.. يتخمون أرصدة.. أرصدة في أرصدة.. شعبنا يحتشر في مقتلة.. تلك الحروب ليست حربنا.. نخن المطايا والوقود والضحايا.. اوقفوا حربكم..

نحن كنّا ولازلنا ضحايا حروبكم.. ضحايا الخبُثاء الذين اشعلوها.. ضحايا داعموها.. حروبكم التي أطلتموها كل هذه السنين اللعينة.. أطماعكم باتت أثقل علينا من جهنم وجحيمها..  مشهد أكثر من مريع.. موت أكبر من المقابر.. خراب وفساد بلا حدود.. كراهية باتت من الكون أوسع..

احتلال وحشي وهمجي.. وعملاء أرخص من الملح.. وحوامل تتنافس كل منها لتكون أكثر ابتذالا وسفالة.. كائنات مستعدة أن تفعل بشعبنا كل شيء.. تتنافس على لعناته لتنال رضى أسيادها.. تافهون بلا حدود.. واقع مرعب خلّفوه لنا من هنا مرّوا، وهنا كانت يمن..

تم قطع أسباب عيشنا.. قطعوا أرزقنا.. سدوا كل أبواب العيش الكريم.. فتحوا أبواب الفساد على مصرعيها.. وجعلوا الارتزاق مفتوحا بلا أبواب.. فتحوا أبواب الجحيم كلها لنكون المحاطب والوقود.. ونكون فُرجة مترفيها.. ست سنوات من الفناء والسابعة قادمة.. من لم يمت بالحرب مات من الجوع والحزن والكمد.. افترست شعبنا هذه الحروب المُهلكة واللعينة..

هي الحرب التي قال عنها الفيلسوف الوجودي سارتر يشنها الأغنياء ليموت فيها الفقراء، وهي الحرب ذاتها التي قال عن مأساتها “سوفوكليس” أعظم ثلاثة كتاب التراجيديا الإغريق بأنها تنال من الخبيث بالصدفة، أما الطيب فدائما ما تنال منه..

نحن الطيبين الذين نالت الحرب منا مقتلا ومكين.. نلنا من الحرب وبالها ومآسيها العراض.. الحرب التي تنتهي كما قال جبران خليل جبران بتصافح القادة, وتبقى تلك المرأة تنتظر ولدها الشهيد..

قالها شاعرنا نزار “من رأى السم لا يشقى كمن شربا”.. ونحن نقولها لمن رأى فلما أو قرأ عن الحرب كتاب، ليس كمن عاش جحيمها ست سنوات طوال.. حروب في حروب، بها شعبنا أشتوى وأكتوى.. ودفع الغالي من دمه.. من أرضه ومقدراته ومستقبله.. نحن فقراء وجارنا يتورم مالا ونفطا وأكثر منهما حقارة..

الحرب رعب ومأس.. يتجرد فيها بعض البشر من كل القيم.. يصيرون أكثر وحشية من الضواري والوحوش الكاسرة.. قالها إبراهيم نصر الله: “إن الله لم يخلق وحْشاً أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحْشاً أسوأ من الحرب..” وكأنه يوصف من أعنيهم بإمعان..

كانوا يوما لنا أصدقاء بل أحبة وأعزاء.. وجدناهم في الحرب أكثر بشاعة منها.. مغرمين بالدم كعبدة الشيطان.. يذودون عن تجار السوق السوداء الذين يأكلوا بقايانا بشراهة الجراد.. يدافعون عن الفساد والإفساد كما يدافعون عن الله ورسوله.. ساديون يستمتعون في الدفاع عن الجرائم والانتهاكات في المعتقلات وخارجها.. يحاصرون ويقمعون من يبحثون عن حقوقهم.. يتربحون بالحرب على حساب شعب يموت حربا وجوعا..

***

في المرحلة الأولى من حياتي كنتُ حساسا كجهاز قياس شديد الحساسية.. انطوائي وخجول وشفاف.. مرهف الحس وجياش العواطف.. متمردا إلى الحد الذي أثور فيه على أبي.. عاطفي إلى الحد الذي أفكر فيه بالخلاص من الحياة.. شقيا أحيانا إلى حد الجنون.. صراع أنتهى أن أنتصر فيه الخير على الشر، والحياة على الموت، والإنسان على ما عداه..

ربما يوما عبرت فكرة فاسدة في خاطري، ولكن سرعان ما يقاومها نقيضها داخلي.. ربما أردت يوما أن تكون لدي خيزرانه أنال بها من هم دوني كما كان يفعل الأستاذ مع طلابه، ثم أتذكر ما مررت به، فأطردها ولا أسمح لها أن تعاودني..

في طفولتي اعتديت على بيوت الدبابير، ثم طاردتني ونالت لسعاتها مني، وتورم من لسعاتها وجهي وثخن عنقي وأطرافي، وسرى سمّها في جسدي النحيل، وكان بعضها يحتاج منّي إلى أيام لأتعافى وأبرأ من الحمّى التي تعتريني بسبب لسعاتها.. كنت يومها أنا المعتدي، وكانت هي تدافع عن حقها في الحياة.. حقها في أن تعيش وقد وجدت نفسها في حياة مُرغمة.. لم أفطن هذا الحال يومها.. وعندما كبرت وجدت تلك الحياة لا تروقني، وتؤلمني شرورها.. أبحث عن العدالة، والخير المحض، وعالم لم يأت بعد وربما لن يأتي..

***

حلمتُ أن أكون شهيدا.. تأثرت بقصة استشهاد سناء محيدلي.. كبرت ولم أنس قصتها، وأسميت ابنتي الأولى سناء تيمنا وأعجابا بهذه الفتاة اللبنانية التي نفذت عملية انتحارية ضد رتل من عربات الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان..

أعجبت وقرأت عن الثورة الكوبية، وعن الثوري جيفارا في مرحلة باكرة من حياتي.. أسميت ابني فيدل قبل أن يصير اسمه فادي عرفانا لفيدل كسترو ولكوبا قلعة الصمود، والصوت الذي كان ينحاز إلى قضايا العرب في المحافل الدولية إبان حرب أمريكا على العراق..

انتميت إلى اليسار وأسميت ابني الثاني يسار قبل أن يصير اسمه يسري.. في مرحلة من حياتي صار انحيازي للفقراء ولليسار في الاقتصاد، وربما في مرحلة أخرى ملت للبرله فيما يتعلق بحرية الفكر..

أما اليوم فأدعي أنني صرت صاحب رأي، وأنتمي للإنسان أولا، وأنزع للاستقلالية كثيرا، وأرفض أن أكون واحد في القطيع، ولا أحب القيود التي تريدني أن أعيش في جحورها، أو ماضيها البليد.. أقاوم الظلم والقهر والاستبداد تحت أي عنوان يجيء به، أو بأي مسمى كان.. صرت أعشق الحرية الى أبعد الحدود..

***

أن تكون في مرحلة من طفولتك أو كلّها مرهف الحس ورقيق المشاعر لا يعني أنك لم ترتكب في مرحلة ما حماقات وانفعالات وأفعال غير سوية، ربما يصل بعضها حد الجريمة.. عوامل شتّى ربما تدفعك في لحظة حرجه إلى فقدان صوابك، وعدم تقدير نتائج أفعالك، وربما تكون أنت والضحية معا ضحايا لواقعك..

أن تكون طفلا جيّاش العواطف لا يعني أنك ستكون حدثا سويا على وجه التمام، وأن حياتك المراهقة ستكون خالية من النتوءات الحادة أحيانا، وأنها لن تخرج عن المسلك السوي، وربما على نحو فظ.. حياة سيكتنفها كثير من التمرد، وربما الشقاوة والقساوة أيضا بوجه ما في مجتمع يمارس القسوة كفضيلة..

عشت قسوة الحياة في واقع أشد قساوة، وربما وجدت نفسي في لحظات ما وإن كانت عابرة مطبوعا بانفعال حاد، وارتكبت أو كدت أرتكب ما هو خارج سياقي ويتعارض مع طبيعتي وفطرتي، ولكن سرعان ما يعقبها الندم، أو الشعور بالذنب، والتمنّي أن لا أكون قد فعلت ما فعلته..

حياتي في جزء من طفولتي ومراهقتي ربما أتسمت فيها علاقتي مع والدي في بعضها بالقسوة، ولكن يمكنني القول أنه في العشر السنوات الأخيرة من حياة أبي قبل وفاته والذي توفى على الأرجح في الربع الأخير من نهاية العام 1997 كانت على خير ما يرام.. حب وود وإحساس كثيف كل منّا بالأخر..

مات أبي وهو راض عنّي إلى حد بعيد، وكنت راضيا عنه إلى ذلك الحد وأكثر.. تنازل هو عن قسوته وسلطته الأبوية الآمرة، وتنازلت أنا عن تمرداتي عليه.. وساد بيننا كثيرا من الحب والاحترام والتقدير..

فيما ظل تمردي ضد السلطة السياسية إلى يومنا هذا.. أعيش عناد لا يكل.. رفض ومراغمة ومقاومة مستمرة معها، ربما لأن السلطة المستبدة بأي لباس كانت غير أبي، ترفض التنازل عن سلطتها للناس، وتسعى بكدها وكديدها وعنفها إلى إخضاعهم لها، وتملكهم، وتملك حاضرهم ومستقبلهم أيضا..

لا أملك إلا أن أقول شكرا يا أبي، كنت لي مدرسة تعلمت ونهلت منها أن أقاوم السلطة التي تسعى لفرض سطوتها وسلطتها ورؤاها على الناس، وتريد أن تملكهم، وتتملك حاضرهم ومستقبلهم إلى الأبد.

وفي المقام نفسه أزعم أن الحياة والمآسي والمشاهد الكثيرة والقراءة لما هو إنساني علمتني مجملة أن أرفض ممارسة الظلم وقهر الناس، وأتجنب الطيش والانفعالات الحادة التي تؤدي بي إلى الندم والشعور بالذنب.. أحرص أن يكون ضميري هو دليلي ورقيبي، ضد الظلم تحت أي مسمى كان..

ضد انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته مهما كانت ادعاءات السلطة المنتهكة لحقوق الإنسان.. ضد الظلم والاستبداد بكل صُوره وأولها اللابسة لباس الدين والتي تلبس ظلمها واستبدادها لباس المقدّس.. منحاز لقضايا الفقراء الذي أجد نفسي منتميا لهم، ولكن دون أن ينال ذلك من مكان ومقام الإنسان وكرامته.. درست القانون والقضاء ودافعت عن حقوق وحريات الناس.. أعشق الحريات وأحلم أن يكون سقفها السماء، بل وأكثر من ذلك إن أمكن..

***

أعلم أن المجرم لم يُخلق مجرما، أو يُولد وهو يشتهي الإجرام، ولكن هناك عوامل شتى، وظروف متكاثرة وضاغطة تتظافر، ودروب زلقة تغلب المحاذير .. فبعض بني البشر ينفذ صبرهم في لحظة ضعف وأنانية، أو عجل و حمق و طيش..

بين السوية والإجرام الذي أعنيه خيط رفيع في لحظة ضيق وعمى لا نراه، فننزلق إلى ما لا يُحمد عقباه، وإن داهم الندم أي منّا؛ ردت الأقدار عليه: لقد أطلقت للجنون عنانة؛ فانزلقت شر منزلق، ووقعت في محذور جلل، و “لات ساعة مندم”.. هنا تكون سلطة العقاب ضرورية دون إفراط أو تسيس أو إخلال بالعدالة..

ربما تصير النسمات الندية في موقد الحدّاد كتلة من لهب .. ربما يصير رقيق الإحساس ورهيف المشاعر مجرم يتهدد من حوله بالخطر، ومن كان حساسا و جياش العواطف، ربما تجتاحه لوثة في عقلة، أو نوبة من جنون.. ربما من كان يرعى النمل ويطعمها ويحنو عليها، ومن كان يطلق سراح الفئران من المصيدة ويتعاطف معها ويتفهم حاجتها للحياة، يصير مرة واحدة، قاتل أبيه..

ربما من كان مقدّرا له أن يكون في مستقبل حياته قاضيا أو محاميا أو حقوقيا من الطراز الرفيع، يصير بسقطة في ليل، أو فلتة في نهار قاتل لإنسان .. ربما السوي في لحظة ضعف أو نوبة غضب، يصير مجرما..

***

أنا بشر كاد يغلبني الشر يوما.. كدت أكون يوما ضحية ظروفي، وطيشي الأول، و تعجّلي وحماقاتي، وربما أيضا انانيتي البغيضة، وانفعالاتي الشاردة التي فلت منّي عقالها وراغمت المحاذير.. كدت يوما أن أكون مجرما قاتل أبيه، وفي نفس الوقت ضحية هذا الواقع المحكوم بالأقدار والمجاهيل..

لازلت أذكر عندما ذهبت أبحث عن ماء النار في قطيع عدن، لأشتريه بمال قليل كنت أعوز إليه في حاجتي الأخرى.. و لكن قال لي البائع يومها أنه لا يبيع ماء النار إلا بترخيص..

ذهبت أبحث عن وسيلة أخرى، و أنا أغتلي وأثور .. أكظم غيضي الكبير، وأداري حممي في دواخلي إلى حين .. اشتريت سكينا و طويتها بورقة بيضاء، و وضعتها تحت الحزام.. أخفيتها بقميصي ومازري.. وذهبت أبحث عنه في المساجد المعتاد ارتيادها، و لكنني لم أجده، و كأن “الحافظ” يومها حماه أو أنحاز إليه.. أو كنت أنا محميا بملاك وحظ..

بحثت عنه في كل الأمكنة التي يرتادها، والمفترض أن أجده فيها، ولكن يومها لم أجد له أثرا أو لمح بصر، وكأن القدر كان قاصدا و متعمدا أن يحميني من نفسي و ينجيه..

كنت وأنا أبحث عنه أتخيل ما سأفعله.. كانت يدي اليمنى تتحفز كصقر يتحين الانقضاض .. كانت تقفز يدي منّي في الهواء لتفعل ما أتخيله وانتويه.. كنت وأنا أسير بعصبية شبيه ذلك المجنون الذي يُدعى “العولقية” المنعوت بها، وشهرة غلبت اسمه الذي تلاشى في مدارات الضياع..

كان يطلق يده بعصبية في الهواء، وكأنه يقصد غرز يده في بطن من يراه أمامه ونحن لا نراه ونتعجب.. كأنها عقدة تتنفس من محبسها الغائر والدفين..

عندما هدأ الدم في عروقي المشتعلة، وخمدت الحمم والنيران التي كانت تجتاحني وتأكلني وتضطرم في دواخلي الغاضبة، شعرت بالندم الكبير، فاتجهت إلى “صالح الهارش” في “الخساف”، و أهديته السكين، وشكرت الحظ والقدر الحليف؛ لأنه خذلني في نوبة من طيشي وجنوني .. كان عمري يومها ـ أغلب الظن ـ دون الـ 18 عام..

اليوم ومخيالي يستعيد ذاكرة طمرها الزمن وألقى عليها سدوله، أتخيل ذلك الموقف المرعب والمخيف، و أرى نفسي أنني كدت أن أكون أشبه بأولئك المجرمين الذين وقعوا فيما هو محذور و جلل، في لحظة ضعف وأنانية، أو طيش غضوب، أو رعونة.. أتذكر الحماقة التي كادت يوما تأخذني معها إلى السجن، وعار سيلاحقني دون أن ينتهي، وأقضي بعدها بقية عمري نادما وحزينا وحسيرا..

و بين اليوم و الأمس البعيد أختلف كل شيء .. صرت أرى مد اليد تخلفا فظا، و بذاءة اللسان أمرا لا يليق بإنسان..

***

يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى