يمنات
يُحاول الرئيس هادي تنحية سلفه من رئاسة المؤتمر الشعبي العام؛ غير أنه لم يتمكن، طوال الفترة الماضية، من تعزيز حضوره كقائد جديد لهذا الحزب. بدأ الرجل مسيرته بتهميش الحزب الذي ينتمي إليه، وهو الأمر الذي جعله يفتتح حكمه بحالة من الارتياب مع ما يُفترض أنه أداته السياسية. نشأت حالة الارتياب هذه بسبب علاقة الرئيس باللواء علي محسن. وعندما عكست هذه العلاقة نفسها على شكل انحياز واضح وكامل؛ تحول الارتياب إلى حالة من فقدان الثقة بين “هادي” وقيادات حزبه. لم يضع الرجل مسافة بينه وبين خصوم الحزب الذي ينتمي إليه، وفي أوقات كثيرة ظهر كما لو أنه يُلبي مصالح حلفائه على حساب مصالح حزبه.
خلال الفترة الماضية، تعزز الشعور لدى قيادات المؤتمر بأن الرئيس هادي يُمارس التهميش المتعمد لها، ولحزبها، ويخدم، بقراراته وسياساته، مصالح وتوجهات خصومها: علي محسن، وتجمع الإصلاح. وقد أدى هذا إلى دفع المؤتمر، قيادة وكتلة حزبية، نحو الاصطفاف خلف الرئيس السابق، الذي استفاد من سياسات خلفه، فتمسك بالحزب وبموقعه فيه، وهو الموقع الذي مازال يرفض مغادرته.
غادر علي عبد الله صالح كرسي رئاسة الجمهورية؛ إلا أنه مازال يُطل على الحياة السياسية ويلعب دوراً فيها عبر المؤتمر الشعبي العام، الذي يتولى موقع الرئيس فيه. عند التوقيع على المبادرة الخليجية، اكتفى خصومه بإخراجه من رئاسة الدولة، دون أن ينتبهوا إلى خطورة بقائه في رئاسة حزبه. في البداية، ظل “صالح” في الهامش كرئيس أُجبر على التنحي؛ غير أنه تمكن، بمرور الوقت، من العودة إلى واجهة الأحداث. وخلال الأسابيع الماضية، قاد الرجل المعارضة الرئيسية لتوجهات الرئيس هادي، وحلفائه، بشأن التقرير النهائي حول القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار. وقد تمكن من إجبار “هادي” على إجراء تعديلات جوهرية في مسودة الوثيقة النهائية بشأن هذه القضية.
انتبه “هادي” إلى أهمية حزبه، الذي أمعن، طيلة الفترة الماضية، في تهميشه، وعدم الاكتراث به. ويبدو “صالح” كما لو أنه يريد الذهاب إلى أبعد مدى في استغلال موقعه في هذا الحزب، الذي منحه موطئ قدم يطل منه على الحياة السياسية والعامة في البلاد.
فشل الرئيس هادي في السيطرة على الحزب، الذي يشغل موقعي الأمين العام والنائب الأول فيه. كان بإمكانه إجبار “صالح” على مغادرة موقع الرجل الأول في الحزب عبر احتواء الحزب، وإشراكه في العملية السياسية؛ غير أنه لم يفعل ذلك فبقي الحزب رهينة في يد الرئيس السابق الذي يرفض مغادرة المشهد السياسي.
الأرجح أن “هادي” لم يتعامل بجدية مع حزبه، جراء خطأ في التقدير بشأن حاجته إلى أداة سياسية. وبسبب تعزيزه من حالة انعدام الثقة بينه وبين حزبه؛ أصبح الرجل اليوم رئيساً بحلفاء عسكريين وتقليديين؛ ولكن دون أداة سياسية. لعل الرجل لم يكن ينظر إلى ما هو أبعد من الفترة الانتقالية الحالية، التي فرضته على الجميع رئيساً توافقياً، ولم تجعله بحاجة حزب يصعد عبره إلى كرسي الحكم. لعله لم يدرك حاجة الرئيس، أي رئيس، لأداة سياسية، لهذا أعطى أهمية أكبر لحلفائه العسكريين والسياسيين الآخرين، على حساب حزبه، الذي عامله، طيلة الفترة الماضية، بتطنيش ولا اكتراث. هو ركز فقط على بناء أداته العسكرية والاجتماعية في الجنوب، عبر تمكين رجاله المحسوبين على أبين، و”الزمرة” بشكل خاص.
مع مرور الوقت، تأكد ل “هادي” أهمية حزب المؤتمر، وحاجته الماسة إليه. بيد أن “صالح” كان قد استغل الأخطاء، ولعب عليها. يحضر الرئيس السابق كأحد أهم الأطراف المستفيدة من دفع اليمن نحو التدمير. من مصلحته أن تسير الأوضاع إلى أسوأ ما كانت عليه عندما كان هو ممسكاً بمقاليد السلطة والحكم في البلاد. هو يريد أن يترحم عليه الناس، ليس بما حققه من إنجازات ومكاسب وطنية، بل بأخطاء وفساد من تولوا مقاليد الحكم من بعده. وفي البلدان المتخلفة يُحاسب الناس المسؤولين عبر مقارنتهم بمن هم أسوأ!
المشكلة أن أخطاء الرئيس هادي وحكومة الوفاق قاتلة، ولا تتوقف عند حد. وهذه هي الأخطاء التي عملت، وستعمل، على إعادة بعث “صالح” من حالة الموت السياسي التي كان فيها.
الأرجح لديّ أن “هادي” لن يتمكن من إجبار “صالح” على مغادرة موقع الرجل الأول في المؤتمر. والحقيقة أنه لن يكون بإمكان “هادي” السيطرة على حزب المؤتمر إلا عبر طريق واحد ووحيد: بناء دولة حديثة وقوية. نقل اليمنيين إلى زمن جديد أمر سيُمكن “هادي” من التحول إلى “بطل” وطني، وعندها سيطرد “صالح” من قيادة المؤتمر عبر المؤتمريين أنفسهم، وليس عبر ضغوط من السفراء.
سبق لي أن قلت، في مقال سابق، إن “صالح” سيستخدم حزب المؤتمر لمواجهة “هادي” والضغط عليه عبر تقديم مرشح آخر للانتخابات الرئاسية القادمة. ضمن سيناريو هذه المواجهة المتوقعة؛ أشرت، في ذلك المقال، إلى أن “صالح” قد يتنازل عن الانتخابات الرئاسية؛ إلا أنه سيتحكم بالانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو من سيتولى تحديد قائمة هذا الحزب لخوض هذه الانتخابات. وبالنظر إلى الأداء الهزيل والفاشل لأحزاب اللقاء المشترك، سيحصد المؤتمر أغلب المقاعد والأصوات في الانتخابات البرلمانية القادمة. هذا يعني أن “صالح” سيعود مرة أخرى إلى التحكم في الحياة السياسية والعامة في البلاد.
دفعت سياسة الرئيس هادي إلى إعادة صياغة التحالفات في البلاد؛ إذ أدى ضعف حزب المؤتمر إلى التحاق كثير من كوادره، في مناطق شمال الشمال القبلية، بجماعة الحوثي. وقد دفع تغول الإصلاح وتيار علي محسن في الحياة العامة بكثير من المؤتمريين في المناطق القبلية إلى الالتحاق بالحوثيين باعتبارهم الجماعة الأقدر على مواجهة المتنمرين الجدد في صنعاء.
وإذا ما حدث الانهيار الكبير في البلاد؛ ستتعزز العلاقة السرية غير المعلنة اليوم بين الحوثيين والقيادة الحالية للمؤتمر ممثلة ب “صالح”، إلى حالة من التحالف. بيد أن السيطرة في النهاية ستكون لصاحب الحضور الحاسم في جبهات المواجهة والقتال.
…
قلت، في مقال سابق، إن “هادي رئيس عاجز يتغذى من الأزمة”؛ إلا أن الأمر يتجاوز هذا التوصيف السطحي للأزمة. أتذكر الآن أني سمعت أن الرجل قال، لدى لقائه، الأسبوع الماضي، بعدد من رجال القبائل، إنه “رئيس بلا دولة”. قال ذلك في معرض تبريره الغياب الحاصل للدولة في أبسط مقوماتها، بما في ذلك الانقطاع الطويل للكهرباء جراء تفجير مسلحين لأحد أبراج نقل الخدمة في مأرب. وفقاً لهذا؛ فالرئيس هادي يريد منا دولة كي يديرها (!)، مع أننا انتخبناه كي يعمل على تحقيق طموحنا الوطني في إقامة دولة وطنية.
إذا ما عدنا إلى ما قبل الأسبوع الماضي؛ سنجد أن خطابات الرجل ظلت تدور حول ثيمة رئيسية: خطورة الوضع الذي جاء فيه. نتذكر جميعاً حديثه المتكرر عن متارس الحرب في صنعاء، انقطاع الكهرباء والخدمات الأساسية عن العاصمة وبقية المحافظات. الأرجح أنه يتذكر هذا الحديث المتكرر الذي غرق فيه طيلة عامه الأول في الحكم؛ إلا أنه يُحاول اليوم تناسيه لأن واقع الحال أصبح اليوم أسوأ من زمن حرب المليشيات في العاصمة. ما الذي يمكن أن يقوله “هادي” عن انقطاع الكهرباء والخدمات وقد أصبحت تنقطع بشكل أكبر من ما كانت عليه؟! لعله وجد ممراً للهرب في القول إنه “رئيس بلا دولة”؛ غير أن هذا إقرار غير شجاع بالفشل. الرجل الأول مهمته، أياً كان وفي أي بلاد، بناء دولة، ويُقاس نجاحه أو فشله في اقترابه أو ابتعاده من تحقيق هذا الهدف. والحقيقة أني لم أسمع قط رئيساً طلب من شعبه تحقيق وبناء دولة كي يتمكن من حكمها. ما يحدث هو العكس: الشعوب تُراهن على قادتها ورؤسائها في بناء الدول والأوطان، عبر توظيف الإرادة والمجهود الوطني العام.
هو يُحاول تبرير فشله، أو الهروب منه، عبر التنصل من مهمته الرئيسية: بناء الدولة. لو أنه أعلن عجزه، وأشار إلى الأسباب، لكان أفضل له ولنا؛ بيد أنه يطلب دولة جاهزة كي يحكمها، وكأنه حصل على موقع الرئيس كبدل نهاية خدمة! لا أظنه يفتقد ميزة الإحساس بحركة التطورات وخطورتها. كذلك لا أظنه في وضع عاجز يسمح له بالقول إنه “رئيس بلا دولة”، أو يُبرر الوضع القائم عبر الإحالة إلى أنه “ثلث رئيس”.
أبدى الصحفي المعروف محمد حسنين هيكل أسفه لحالة الهوان التي ظهر بها الرئيس المصري محمد حسني مبارك عند ظهوره أمام المحكمة في قفص الاتهام. تعليقاً على ذلك؛ قال هيكل إنه “حتى الهوان له كبرياء”. إذا ما أمكنني استعارة هذا التوصيف وإسقاطه على حالة الرئيس هادي؛ سأقول إنه “حتى العجز له كبرياء”.
…
إذا ما استمرت اليمن في وضعها الراهن فسيكون المآل مأساوياً. تراجع الحضور الأمني، في حالته الشكلية، سيدفع بسيكولوجيا النهب والفيد إلى التعبير عن نفسها بشكل أكثر وضوحاً، بما يجعلها حالة رئيسية ناظمة للحياة العامة في البلاد، التي تتعرض لعملية فساد غير مسبوقة من قبل حكومة الوفاق، وبقية المسؤولين الحكوميين، في ظل عجز مالي يُهدد باستنزاف الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة.
في ظل انعدام الكفاءة، والإدارة الجيدة؛ تلجأ الحكومة شهرياً لمواجهة العجز عبر تغطيته سحباً من الاحتياطي النقدي. وعندما ستنتهي المليارات الخمسة ونصف المليار دولار (في يوليو الماضي سحبت الحكومة 62 مليون دولار من احتياطينا النقدي في البنك المركزي، الذي بلغ خمسة مليارات و628 مليون دولار) ستعجز الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها، بما في ذلك دفع رواتب الموظفين. عندها سنكون أمام الحلقة الأخيرة في الانهيار الكامل للدولة في اليمن.
مازالت الحكومة، حتى اليوم، تدفع رواتب الموظفين؛ إلا أن رجال الأمن لا يقومون بواجبهم كما يجب! هذه إحدى بوادر المضي نحو الانهيار الكامل. يُمكن مشاهدة علامات أكثر دلالة لهذا المضي الحثيث نحو سقوط الدولة الهشة في اتجاه مسلحي شمال الشمال إلى القوة لانتزاع ما يريدون من الموظفين الحكومين: محاولة مسلحين، مؤخراً في العاصمة، اختطاف مدير مالية البعثات في وزارة التعليم العالي، وإجباره على توقيع قرار بابتعاث أحد خريجي جامعة الإيمان للدراسة في روسيا، اختطاف مسلحين قبليين مدرسين في مأرب بسبب رسوب طالب، للعام الرابع على التوالي، في الثانوية العامة، اعتداء مسلحين على موظفة حكومية في وزارة الصحة لمحاولة تمرير مصالح شخصية… ضمن هذا السياق المنفلت؛ تحدث أشياء مشابهة أخرى دون أن تتخذ الحكومة أي إجراءات لضبط من يُمارسونها، كما لم تقم بأي محاولة لملاحقة المعتدين على أنبوب النفط، وشبكة نقل الكهرباء في مأرب.
هناك قصص لأشخاص اتجهوا إلى جماعة الحوثي معلنين تأييدهم لها طلباً لوقوفها معهم في استرجاع حقوق نُهبت منهم. وبعد نهب متعلقات حكومية، خضعت السلطات الرسمية في تعويض عدد من هؤلاء، فيما كانت تتجاهل مطالبهم في ملاحقة المجرمين الذين اعتدوا عليهم! هذا يعني أن الدولة تتخلى عن وظيفتها الرئيسية في حفظ الأمن، وتطبيق النظام والقانون، وهو الأمر الذي يدفع نحو تشجيع نزوع قطاع قبلي واسع للخروج على القانون، واعتماد القوة لتأمين مصالحهم اليومية، أو ممارسة الفوضى والتخريب.
وخلال الفترة الماضية، تم رصد قيام مسلحين قبليين بتقطعات في عدد من المحافظات، بما في ذلك العاصمة صنعاء. الأسبوع الماضي، نصب مسلحون قبليون نقطة تفتيش في منطقة “صرف”، الواقعة على أطراف العاصمة، وبدؤوا إيقاف السيارات. كان الزميل أمين الصفاء، سكرتير تحرير “الشارع”، أحد الذين شهدوا المهزلة، وكانوا ضحية لها: أوقفه هؤلاء المسلحون، وأبدى أحدهم نقمته وغضبه من “المبنطلين” (مرتديي البناطل)، الذين قال إنهم “أكلوا الدولة”! كان أمين الصفاء يرتدي بنطلوناً، وبجواره طفلته، وكان المسلح مسكوناً بذلك التوتر، الذي عادة ما يُسيطر على قاطع الطريق الباحث عما ينهبه. بعد حالة من الشد، سمح المسلح الغاضب للزميل أمين بالمرور، وأخبره أنه لولا طفلته المرافقة له لكان نهب سيارته!
وضمن تعبير منطقة القوة عن نفسه، ستتسع عمليات تفجير شبكة الكهرباء، وأنبوب نقل النفط الخام، بشكل سيصعب معه إعادة إصلاح هذه المصالح الحيوية. وفي هوامش الانهيار الكبير، ستتضاعف المخاطر مهددة حياة الموظفين الحكوميين المدنيين، ما يعني إذعان الحياة العامة، بشكل كامل، لمنطق ومزاج المسلحين القبليين.
ستؤدي هيمنة منطق الرصاص على الحياة العامة إلى انهيار الدولة بشكل كامل، وتحول عدد من الجماعات والتكوينات القبلية إلى تكوين عصابات مليشياوية. وفي ظل هذا المناخ، ستزدهر المشاريع المسلحة. ستتشكل جماعات مسلحة في الجنوب، والوسط، والشمال، وكل المحافظات. ستزدهر جماعات العنف، وستتاح الفرصة أمام تنظيم القاعدة لإعلان إمارات إسلامية في محافظات، فيما ستتمكن جماعة الحوثي من إكمال سيطرتها على الجغرافيا الزيدية، ودخول العاصمة صنعاء. سيندفع الشمال إلى حرب مذهبية بين الحوثيين من جهة، و”القاعدة” والسلفيين والإصلاحيين من جهة ثانية.
– صحيفة “الشارع” الثلاثاء 8/10/2013