أرشيف

العنف كسياق ثقافي اجتماعي يبرر نفسه

يحمل الفكر والممارسة اليوميان في المجتمع اليمني كل ملامح ودلالات العنف، ليس المادي فحسب، بل واللفظي والفكري أيضاً وبوسائل وأساليب لا تعني أكثر من الاستعلاء والاستقواء واحتقار الآخر مهما كان قريبا، ومن نفس الثقافة أو الانتماء، لأن كثرة الانتماءات تصنع فوارق في الوعي الفردي والجمعي، فالانتماء للقبيلة قد ينقضه الانتماء للمذهب الديني أو لعائلة أو ما شابه يجعل من الآخر منقوصا وغير مؤهل للاحترام، وينتج عن ذلك ثقافة الاستعلاء التي تبرر العنف واستحلال دم ومال بل وعرض الآخر بأية وسيلة عند أول خلاف يكشف عن نفسه.

أذهلتني حادثة صغيرة جدا قبل أيام في شارع حدة، فبينما كانت فتاتان ناضجتان تمران أمام العيون المذهولة بجمالهما وملبسهما الذي لم يكن غريبا سوى في أنه حمل تنويعات لونية على اللباس التقليدي والمعروف لليمنيات؛ خرجت ثلاث طفلات من سيارة كانت متوقفة بانتظار سائقها لملاحقة الفتاتين ومعاكستهما بنفس الطريقة التي يمارس بها (البلاطجة) من الرجال معاكساتهم الوقحة، واندفعت الطفلات الثلاث لمسافة كبيرة خلف الفتاتين لإلقاء الكثير من الألفاظ الوقحة والمستهزأة والمحتقرة لهما، وبرغم أن الفتاتين بدتا كمن تعودتا على تلك الألفاظ لعدم اكتراثهما بكل الرجال الذين همسوا أو صرخوا بكلماتهم أمامهن؛ إلا أنهما اندهشتا كثيرا أمام تصرف الطفلات الثلاث، وأسرعن في الهروب منهن قدر الإمكان.

وجد تصرف الطفلات الثلاث استحسانا كبيرا لدى من كانوا في الشارع ساعتها من الرجال، بل ومن والدهما الذي جاء في نفس اللحظة ولاحظ فعلهن فابتسم وقال لهن أمام الجميع: " اسلمين يا بناتي.. أدبتنهن هذولا …… من حق …..". وما خلف النقاط عبارات بذيئة من طالت أخلاق الفتاتين وأخلاق مدينة يمنية كبيرة وعريقة، وقد خرجت تلك الكلمات من فم الرجل بكل احتقار وازدراء.

يبرز العنف كوسيلة تتكأ على الأفضلية والاستقواء بالأصالة والنقاوة في الأصل والانتماء،  للانتصار للمصالح الذاتية والجمعية عبر استحضار الأطر العقائدية  والمرجعية المحفزة الفاعلة المحدد لطبيعة العلاقات السائدة في المجتمع.

ويتخذ العنف لنفسه مهمة الانتصار للذات والقيم الفكرية والثقافية والعقائدية، وأيضا للتقليل من شأن الآخر، وإعلامه بدونيته وعدم قدرته على الندية، أو استحقاق الحضور، وهو قبل كل ذلك يستمد شرعيته من جنون الفكر والإحساس بامتلاك الحقيقة، أي أنه يستند في شرعيته على اللاشرعية.

يؤكد الفيلسوف ريمون آرون أن العنف هو الفعل الذي يتدخل بشكل خطير في حياة الآخر ليسلبه حريته ويحرمه من التفكير والتدبير، أو يحوله الآخر إلى مستغل -بفتح الغين- ينفذ رغبات من يمارس العنف ضده أو يحقق له مصالحه فقط، ومن هذا المعنى فالعنف ليس حركة عنيفة أو اعتداء مادي فحسب، بل هو كل الممارسات والتصرفات التي تنتقص من الآخر وتحوله إلى منفذ للأوامر أو مستقبل للتوجيهات، ومحققا لمصالح القائم بممارسة العنف.

يبرر الرجال عنفهم ضد النساء بضعف دينهن ونقص عقولهن استنادا إلى مرجعيات دينية، ويعتقدون أن المرأة وجدت لتحقيق متعتهم وخدمتهم لا أكثر، وبالتلي فإن خروجها عن هذه الصورة يجعلهن عرضة لكل الممارسات العنيفة التي تبدأ بالنظرات المثيرة للقلق والارتباك، وليس انتهاء بالاختطاف والاغتصاب، وعندما يمارس الرجل عنفه اللفظي أو المادي ضد المرأة فإنه يحملها مسؤولية ذلك فقط ليظهر نفسه بمظهر البريء الذي دافع عن حقه في أن لا يرى امرأة على غير الشاكلة التي يريدها.

إن هذا المثال وغيره يعني مباشرة أن العنف ينتج عن الفكر والاعتقاد وليس عن الانفعال اللحظي أو العابر، فالانفعال نفسه يأتي نتيجة لرسوخ مجموعة من القيم والمعتقدات التي لا تقبل النقاش أو المراجعة، وينتج عن مناقشتها أو معارضتها إنتاج فعل ينتقص منها ويحيلها إلى شيء مستباح وعرضة للاستخدام.

إن القيم والمعتقدات والأفكار والهوية هي مجموع السياق المجتمعي الذي يحافظ على عموم وحدة المجتمع، وهذا السياق هو التعبير عن الذات في العلاقات الاجتماعية والثقافية المؤكدة الوعي والمتواترة في جملة الممارسات التي تمنح حق استخدام القوة ضد الآخر الذي عليه أن يتحمل مسؤولية تهميشه وإقصائه وانتهاك حقوقه لأنه وجد في المكان المغاير الذي يتعارض مع موقع الآخر تماما، ولذلك كانت المرأة عرضة للانتهاك والإيذاء داخل البيت وخارجه، وكان الطفل عرضة للاعتداءات الأبوية لفظية وجسدية، ومثل ذلك كثيرون.

لم تشكل الاعتداءات التي طالت الصحفيين والإعلاميين اليمنيين يوم الخميس الماضي مفاجأة لأحد، لأن الجميع يعرف سلفا أن الصحفيين عرضة للانتهاكت من كافة فئات المجتمع، فهم (بياعين كلام، ومزايدين، وقليلن أدب، وفضوليين، وانتهازيين، ومرتزقة، ومفتعلي مشاكل)، وإلى آخر تلك المفردات التي تنال الصحفي يوميا لأنه يمارس مهنة دخيلة على الثقافة التقليدية اليمنية أولا، ولاعتبارات أخرى تتعلق برغبة الأقوياء والفاسدين في بقاء أفعالهم -الفاسدة خصوصا- بعيدة عن النقد والتشهير ما قد يجره ذلك عليهم في المستقبل من إجراءات بسبب تلك الأفعال.

خرج الجنود صباح الخميس الأخير من نوفمبر-ومثل ذلك في جميع الفعاليات السلمية في كل المحافظات- معبأين بتعليمات تقضي أن المشاركين في التجمعات السلمية مجرد غوغاء يهدفون إلى التخريب، ويجب عدم السماح لهم بذلك، وترك مساحة معقولة لفعل كل ما يقدرون عليه حتى إذا تجاوزوها وبدأوا حتى بمجرد الكلام الذي يتجاوز السقف المحدد له، وجب عندئذ إسكاتهم.

صحيح أن معظم الجنود كانوا ينفذون أوامر قادتهم بغير رغبة في ذلك، لكنهم في قرارة أنفسهم يعرفون أيضا أن الفعل الاحتجاجي مرفوض، وأنه ينبغي الرضوخ لمشيئة الحاكم الذي يحمي البلد من كل الشرور بشكل أو بآخر. ليس في هذا انتقاص للجنود، بل على العكس من ذلك، فالذي يستحق الانتقاص هو الثقافة التي يتلقاها الجنود عادة دون تنقية أو تمحيص، وهو ما يسهل استخدامهم ضد الآخر الذي هو أقرب لهم، وقد كان الإعلاميون أكثر عرضة للأذى من غيرهم لأنهم -وحسب تلك الثقافة- يسيئون لصورة البلد،وينقلون للرأي العام الداخلي والخارجي صورة سيئة عنه، وعن فوضى مفتعلة، أو يشيرون بأفعالهم إلى أن البلد ليس في خير، وأنه يستحق جلب الآخر ليقوم باستغلاله واحتلاله.

سيتطور الأمر أكثر وأكثر، فالصحفي سيصبح سببا لما يحل به كونه يبحث عن (البعاسس)، ولذا يستحق أن تقع عليه المطرقة حتى وإن كانت ظالمة، لأنه ليس مجبرا على الدفاع عن الآخرين، ومن الأفضل له الانتباه لنفسه ولمستقبله، و(يشقى على بطنه أحسن له من هذا  الهدار)، وبالمثل سيصبح على الناس عدم الاحتجاج أو الخروج في مسيرات حتى ولو كانت سلمية لأنها لا تعطي نتيجة، ولا تغير شيئاً..أي أن حرية الرأي والتعبير السلمي سيتخذ منحى الازدراء والاستضعاف والاستهزاء على الدوام.

يحتاج هذا الوضع الخطير حركة نضالية جديدة تستهدف خلق منظمة ثقافية ضد العنف لدى كافة الشرائح المجتمعية والمهنية، وتمكين ثقافة التسامح وحقوق الإنسان العالمية من الفعل الأصيل والحقيقي في عقول العامة، وترسيخ مبادئ النضال السلمي بفاعلية ومهنية، والتعريف بالأدوار الحقيقية للإعلام والصحافة والمجتمع المدني والأحزاب والتنظيمات السياسية.وبالتالي نقض كل مكونات ثقافة العنف والاستعلاء والازدراء، ومن ذلك نقض سلطة ومعنى القبيلة ومبرر وجودها.

 

 

[email protected]

 

زر الذهاب إلى الأعلى