أرشيف

الموروث الشعبي: كيف يجيء الماضي في الحاضر، ولا يختطف المستقبل

لا يوجد شعب بلا تراث شعبي، لأنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش بلا تفاصيل يومية تحتاج للكثير من التفسير الفني الذي يضفي على تلك التفاصيل القيمة الروحية والمعنوية، ولكن..  لا شيء يبقى على حاله، ولا شيء يمكنه الثبات سوى مبدأ الثبات نفسه، وإلا لكان العالم صورة واحدة لا معنى لها، ولا قيمة لاستمرارها.. حتى الهوية التي يتشدقون بها وبثباتها وقدرتها على تحدي الزمن لا معنى لها إن لم تتغير أو تولد من جديد، أو تتلاشى لتصبح ذكرى بعيدة وجميلة، ففي ذلك معى أجمل لها.

وإذا ما قيمة الحفاظ على الموروث والاتكاء على بقايا الماضي واحتراف التغني به؟ ما قيمة ذلك والإنسان نفسه كائن مبدع وقادر على إنتاج الجديد والأفضل دوما؟ ولم ينبغي أن يظل القديم موجودا برغم التحديث والتطور المستمرين.؟

لكن التراث والمعرفة الإنسانية يشكلان معظم الوجدان والذاكرة الجمعية للناس، ومنها يستشف الباحث والدارس أحوال المجتمع، وخبرته وتحولاته وظروفه الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وبهذا المنحى تزعم أروى عبده عثمان أن لحظة الصدق المكثفة والمختزلة بالحكمة البليغة، تبدو جلية في  النصوص الشعبية الفطرية، التي قلما نجدها في نصوص رسمية, وبهكذا تبرر نضالها للحفاظ على كم هائل من تراث يكاد أن يندثر تحت وطأة الحداثة بكل قيمها وتمظهراتها.

ورغم أنها تذهب مع فرنسوا هارتوج إلى أن التغير: "وحده له معنى، وأن الثبات لا معنى له"؛ إلا أنها تتفق أيضا مع لراحل رشدي صالح من أنه وتحت وطأة التسارع الخرافي الذي لم تستوعبه عقولنا ستجد الشعوب نفسها أمام أمرين لا ثالث لهما "إما أن تناضل للمحافظة على قيمها التقليدية أو تذعن وتقبل قيماً أجنبية".

أسفت الباحثة في التراث الشعبي أروى عبده عثمان مساء الثلاثاء الماضي على قاعة مؤسسة العفيف كثيرا لأن القوى الدينية المتطرفة تمكنت من الوصول إلى مناطق ريفية جبلية بعيدة لنشر ثقافتها المعادية للموروث الشعبي، ولم يكن لها من هم سوى نهي الناس عن الرقصات والغناء والبهجة التي تذهب عنهم عناء بؤسهم ووطأة معاناتهم، ونسيت أن تحدثهم عن همومهم وحاجاتهم إلى طرق وكهرباء ومياه نظيفة، وحيثما ذهبت تتقصى بقايا الموروث الشعبي من غناء ورقص وأزياء وحكايات كانت تجد أفكارا تحرض الناس ضدها وضد ما تناضل من أجله، وومثلما وجدت قرى أعالي هضبة تعز تجتر تحريم البهجة، وجدت أيضا مناطق في أقاصي صعدة حرم أهلها أنفسهم متعة الرقص بسبب تلك الأفكار التي احتكرت تفسير العالم لصالح قيمها الضيقة.

تساءلت أروى بحزن وغضب معا: ما الذي يضر رجل الدين إذا اغترف قليلا من الثقافة الشعبية؟ وماذا سيصيبه من أذى إذا استمع إلى أغنية.؟

كان لأروى ورقة عمل ذيلتها بملاحظة صغيرة قالت فيها أنها وأثناء إعدادها لجأت إلى  الجهات الرسمية كوزارة الثقافة أو مؤسسة التربية والثقافة والعلوم اليونسكو باليمن للحصول على أبسط الوثائق أو المراجع، لكني لم تجد شيئا ، لأن تلك الجهات لا تمتلك أبسط قواعد الأرشفة.

اتفقت الورقة مع الراحل رشدي صالح في أن هناك تيار التوليد الذي يأتي تلقائياً، فتتلاءم المأثورات الشعبية مع ظروف الحياة المتغيرة بأن تغيِّر في ترتيب عناصرها، وتتولد صيغ جديدة، أو تشتق منها صيغ جديدة أو يسقط منها، ما لا يلائم الاستعمال في ظل الحياة الجدية.

وبهذا الرأي لا يمكن إهمال التراث الضائع والمضيع، أو استثناء تلك النظرة الاستعلائية التي تنتقص إبداعات الشعوب وجعلتها تنطوي على نفسها، ومن ثم تفقد حيويتها.

كان عليها أيضا أن تنبه إلى التشوه الذي تأتي به العقول التي تنبش هنا وهناك بطريقة انتقائية ونفعية سافرة، لتأخذ من الموروث ما يهم مصالحها الضيقة، أو الإتجار به إعلاميا وخارجياً، وسياحياً على غرار ما يحدث للفنون الشعبية من اجتزاء، ومسخ، وعبث.. الخ.  وهي العوامل التي تؤدي بالمروروث إلى التقوقع  والاضمحلال، والتآكل، ومن ثم إلى النسيان.

فاليمن -بحسب الباحثة- "كغيرها من البلدان المعروفة بالتعدد والتنوع في الشكل التراثي، أو في شكل التراث الواحد ليس في نطاق الحدود والفواصل الجغرافية بين محافظات الجمهورية،  بل إن هذا التنوع يمتد أحياناً إلى الوحدات الجغرافية الأصغر، كالقرى والقرى الأخرى المجاورة ، حتى على مستوى اللهجات الشعبية مثلاً. وعلى قدر ما نعكس هذا التعدد والتنوع في التضاريس والتقسيمات الجغرافية التي تتمتع بها اليمن ، كالسهول الساحلية السهلية ، والمرتفعات  الجبلية، والمناطق الصحرواية، والهضاب الوسطى فقد أثرى المأثورات الشعبية الروحية والمادية، وتجلت علاماته في العشرات من الرقصات الشعبية، وآلاف الحكايات، والمعتقدات في المعارف الشعبية، والتقاليد لمتنوعة التي غالباً ما نجدها داخل الإطار الجغرافي الواحد وغير المعزول عن تأثير عامل الهجرة إلى العالم الخارجي، وخصوصاً أفريقيا، ودول آسيا اشد التنوع والتعدد والغنى على مفردات تراثنا الشفاهي والمادي".

هذا الثراء يعاني من سلطة الإهمال الرسمي السافر والشعبي لهذه الكنوز التي أضحت تهددها بالاندثار، ومن ثم النسيان، حتى أن اليمن تفقد في كل ساعة  كنزاً من هذه الكنوز وبعضاً مما هو مستمر، فإنه عرضة للعبث، والسرقة، والتشوه من قبل قراصنة التراث، والفنون الشعبية هي أكثر مسخاً وتشوهاً.

ركزت الورقة على وجهات النظر التعامل مع المأثورات، ودور التاريخ، وبعض المفاهيم العالمية الكاسحة لكل تفاصيل الحياة، فثمة التراث الكلاني الأصولي الذي يؤمن بالتراث بما هو نص أزلي ثابت ومطلق تضيع فيه الفواصل، وتنطمس الفروقات بين الإيمان والتراث، الدين والتراث، إن لم يكن الإثنين هما واحد. فيغدو تراثنا مفارق الزمان والمكان، وصالحاً برمته لكليهما، أي أنه جامع مانع شامل، بمعنى أنه كل شيء.

يشبه ذلك إعادة إنتاج الماضي في الحاضر، وهنا لا يصبح الماضي مسؤولا عن وجوده في الحاضر كما أثبت ذلك المفكر الشهيد مهدي عامل، بل إن الحاضر وعناصره مسؤولان عن وجود الماضي فيهما، وبحسب أروى عثمان يصبح الماضي المطلق والحاضر مهددين بالغياب، ويتم اختطاف المستقبل معهما، وهكذا فـ"الإنكسارات والهزائم الفكرية والسياسية المتعاقبة في التاريخ المعاصر لأمتنا العربية مقطوعة الصلة عن تلك النظرة المتعصبة والعصابية للماضي التراثي وهي نظرة ماضوية تعزل التراث عن التاريخ والحياة".

ثمة نظرتان معنيتان بإقصاء الموروث الشعبي تصدران عن تيارين مختلفين في الظاهر، لكن الباحثة رصدت تماثلهما في الباطن، فالأول يقصي المأثورات الشعبية باعتبارها ضد العلم والحداثة، فيما الثاني يقصيها باعتبارها، ضد الدين الإسلامي ونصوص الشريعة.

 ويتحد التياران بأنهما يعتبرانها "مجرد خرافات، وهروب من العلم  والمعرفة، وأداة ماضوية (رجعية)، وثقافة بدائية متخلفة، وحفرية من حفريات الإنسان البدائي الأول، ومرد كل هذه النظرة الانتقاصية التي ترى أن هذا المأثور ينتمي لثقافة الرعاع، والبدائيين" و"ثمة من يرجع سبب الانتكاسات والهزائم إلى الانغماس في التراث الشعبي، وجعله في التأثير على الشأن العام .ويعتقد هؤلاء انه كلما كثرت هزائم الأمة ، كلما استحث ذلك دعاة التراث إلى المسارعة في الاهتمام بالتراث والاحتماء بأسيجته"! 

تصل الباحثة بعد ذلك إلى أن "كلا من الرأيين العلماني، والديني يرجعان إلى ثنائيتين متضادتين قاصمتين، إما  نكون مع العلم لوحده الصرف بمعزل عن أمور محيطنا ودنيانا وثقافتنا فنتقدم  ونشتري الدنيا . وإما أن نرجع إلى  منابع الدين، فنشتري الآخرة".

لكنها لا تجد استحالة في الخروج من هذا الذي تسميه مطبا فلا مانع من توازي كل من التراث والعلم، ولا يوجد ثمة ما يضير دولة العلم أو العلماء من الاستماع إلى أغنية فلكلورية أو الاستمتاع برقصة فلكلورية يمكن أن تنتقص من جاهزية العلم.

وتؤكد في هذا الشأن مقولة بروب من أن "ولادة الفلكلور كانت من الطقس الديني".

تستخلص الورقة الموسومة بـ "المأثورات الشعبية بين المؤسسات: حكومية ومجتمع مدني"، "أن المأثورات غائبة ومغيبة من قبل المؤسسات الحكومية، بالرغم من موافقتها على بنود ووثائق اليونسكو، لكنها تظل وثائق تفتقر إلى التفعيل، ولا تحظى بأي قدر من الالتفات إلا إذا كان الأمر يتصل باستثمار سياسة النفعي والآني.

أما منظمات المجتمع المدني التي يتم التعويل عليها للنهوض بالاهتمام بالمأثورات الشعبية، فإنها مازالت في بداية الطريق، وتحتاج قبل أي شيء الى تحصيل المعرفة والعلم، والرقمنة في توثيق التراث الشعبي، ولأنه لا يوجد في اليمن معاهد تهتم بمجال كهذا ، فإن المطلوب من المنظمات الدولية بما فيها اليونسكو، والإليسكو أن تساعد على تأهيل وتدريب الكثير من المهتمين، وخصوصاً العاملين في منظمات المجتمع المدني إلى المراكز العالمية للتراث.

وبهذا فأن على الدولة بموجب الاتفاقيات الدولية الاهتمام بالتراث، وتوثيقه من جمع وتدوين بالمناهج الحديثة، وفتح مركز التراث الشعبي، مزود بفريق عمل متكامل، على غرار مراكز التراث في العالم، مهمته التوثيق، ورقمنة الذاكرة، وإصدار مجلة متخصصة بهذا الشأن، وتدريب الكوادر المؤهلة وابتعاثهم للخارج لنيل الدورات التدريبية، وليتبوأوا قيادة المراكز والوحدات التراثية، وإعادة الاعتبار لمعاهد الفنون التي أغلقت تحت ذرائع عدة ، من ضمنها الاعتماد المالي ، وفتحها من جديد لممارسة عملها، وتقديم الدعم الكامل من أجهزة، والمال الكافي لمنظمات المجتمع المدني المهتمة بالتراث الشعبي، وإقرار مادة دراسية خاصة بالتراث الشعبي في المدارس ، أو تكون بالإضافة إلى مادة التربية الوطنية.

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى