أرشيف

من يقود البلد نحو الانفصال..الحراك الجنوبي أم السلطة ؟!

منذ أن بدأت القضية الجنوبية تظهر على السطح وتعبر عن نفسها في حراك شعبي جماهيري ذات طابع سلمي، تكشف للرأي العام المحلي والدولي بكل وضوح عن حقيقة أزمة وطنية مستفحلة أنتجتها حرب 1994م وتراكمت مجمل عواملها وأسبابها وتبعاتها ومظاهرها في ظل صمت وتجاهل سياسي رسمي حتمته توازنات ومصالح القوى المنتصرة والنافذة سياسياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً والتي وجدت نفسها في مارثون فيد ونهب لكل ثروات ومقدرات دولة ووطن وشعب، تعرض في 94م لأكبر عملية استباحة وسرقة منظمة في تاريخه منذ القرن السابع قبل الميلاد وعملية النهب والتفيد التي صاحبت دخول الجيوش السبئية بقيادة كرب ال وتر لهذا الجزء من الوطن بعد هزيمة الدولة الأوسانية.

التحذيرات المبكرة من مخاطر استمرار نهج الحرب التدميري للوحدة الوطنية واليمنية، وكذلك المطالبة بمعالجة آثار الحرب جميعها قوبلت بالرفض لتناقضها مع مصالح لصوص الثروة والوحدة والوطن، وتم التصدي لها بخطاب سياسي إعلامي رسمي وحزبي يكرس بصورة رئيسية الدوافع والأهداف الإستراتيجية الحقيقية للحرب، ويروج لثقافة وقناعات الضم والإلحاق وإلغاء الآخر، وتعرض أصحاب هذه الرؤى والقناعات والمواقف الوطنية المبكرة للمطاردة والاعتقال والضرب ومختلف أشكال التهديد والتعذيب النفسي والتجويع والحرمان من حقوقهم الإنسانية والحياتية، واتهموا بالخيانة والعمالة والتآمر على الوطن والثورة، وتحولت الانفصالية منذ فترة مبكرة من نهاية الحرب إلى سلاح لتصفية إبقاء المحافظات الجنوبية الشرقية من مختلف مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وعصا غليظة لزجر كل من يحاول مجرد التفكير والحديث عن هذا الوضع غير السوي.

لقد أجهض النظام كل دعوات الإصلاح، ورفض الاستماع لصوت العقل، وانساق في نهج الحرب والتعاطي مع واقع وحدوي جديد، تخلق تحت جنازير الدبابات وأقدام العسكر، حول فيه الفاتحون الجنوب إلى إقطاعية خاصة ..

الحسابات والأساليب والوسائل المعتادة سابقاً في فرض الهيمنة وإخضاع الجماهير من خلال إغراقها في بحر المأساة والفقر المدقع وصرفها إلى اللهث وراء تأمين لقمة العيش، وإذلالهم وامتهان كرامتهم وإسكات أي صوت معارض يرتفع..

هذه الحسابات والوسائل التي أثبتت فاعليتها في بعض المناطق وواقع تاريخي معين لم تعد مجدية مع أبناء المحافظات الشرقية في الظرف الراهن، لاختلاف الواقع وسماته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والإرث الحضاري والتاريخي ودرجة الوعي الشعبي الذي تجاوز إدراكه واقع المعاناة والمآسي الذاتية التي ألمت به بعد حرب 1994م نحو فهم أعمق وأشمل لجذور الإشكالية الوطنية وحجمها وأبعادها وآثارها السلبية التي لامست ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، واستثارت في الوقت ذاته غرائزهم الإنسانية الطبيعية في الحرية والحياة الكريمة والدفاع عن كيانهم ووجودهم وحقوقهم وتاريخهم وإرثهم الثقافي الاجتماعي، وتحولت لديهم القناعات والمواقف والسلوكيات الفردية المتمردة على هذا الواقع المأساوي إلى ثقافة شعبية وسلوك عام، عبرت عن نفسها في انفجار الغضب الشعبي والخروج إلى الشارع في مسيرات واعتصامات متواصلة لم تتوقف منذ حوالي ثلاثين شهراً رغم أساليب الحظر والقمع الوحشي والتضحيات التي تقدمها هذه الجماهير..

الحراك الشعبي الجنوبي السلمي وإن كانت بدايته قد مثلت صوت مسموع لآهات الألم والمعاناة التي كانت مكبوتة في صدور مئات الآلاف من المواطنين، وأرادوا إسماعها الرأي العام المحلي والدولي .. هذا النداء الوطني النابع من عمق المأساة مثل تعبيراً حقيقياً عن أزمة وطنية مستفحلة عنوانها الرئيس "القضية الجنوبية" ، وتشكل تهديداً جدياً لوحدة الوطن ومستقبله.

صحوة النظام جاءت متأخرة جداً وتحت تأثير الشعور بالخطر على المصالح والمكاسب الذاتية التي جنوها على حساب السكان وسلب حقوقهم وممتلكاتهم وثرواتهم الخاصة والوطنية، وحين بدأـ المطالب ترتفع باستعادة هذه الحقوق استجابة لقضية الحراك الذي كان شكل من أشكال الدفاع عن المصالح الخاصة ولم يكن بوازع وطني أو بدافع الشعور بالمسئولية عن حماية الوحدة ومستقبل الوطن لأن أهميتها بالنسبة لهم هي بقدر ما تمنحهم من سلطات وقوة نفوذ وسطوة وما يجنوه من مكاسب وامتيازات مادية وثروة.

مثل هذه القناعات والحسابات يمكن استشفافها من طرق وأساليب التعامل مع آثار الحرب والحراك الجنوبي، والتي لازالت ترفض التعاطي المسئول مع كل ما تطرحه معطيات الواقع من حقائق ومتغيرات ينبغي معالجتها برؤية وطنية وحقيقية ناضجة، وما يطرح اليوم من معالجات واقعية قابلة للتنفيذ تكون في الغد غير مقبولة وتجاوزتها الحقائق والمتغيرات في الوعي الشعبي والثابتة على الأرض محلياً وإقليمياً ودولياً.

لقد تعامل النظام مع الحراك بوسائل القمع التقليدية في محاولة للقضاء عليه، متجاهلين في الوقت ذاته تجذر الوعي والقناعات الوطنية بالتغيير في الوجدان الشعبي وتحوله إلى قوة فعل يستحيل قهرها نظراً لمشروعيتها وارتباطها بمصير هذه الجماهير وحياتها في الحاضر والمستقبل، ويمكن اختزال وسائل النظام في التعامل مع القضية الجنوبية ضمن عدة أبعاد متكاملة في الوسائل والأهداف، تقوم على قاعدة عدم الاعتراف بالقضية الجنوبية وعدم الاستجابة للمطالب المشروعة، وعدم الاعتراف بالأزمة والرهان على وسائل القمع لتطبيع الأوضاع وإسكات الشارع باعتماد الأساليب التالية :

اعتماد الإرهاب الفكري بشتى وسائله وأشكاله والتضليل الفكري والسياسي كحلقة مركزية لا بد منها لهزيمة جماهير الحراك ومحاصرته ضمن أضيق دائرة مناطقية جهوية، وتقديمه إلى الرأي العام باعتباره خيانة وتآمر على الوطن والثوابت الوطنية والوحدة اليمنية، وحركة رجعية انفصالية مدعومة من أعداء الوطن في الداخل والخارج، ومثل هذه الاتهامات الخطيرة وغير الواقعية تهدف في الأساس إلى تعبئة الشعب وأفراد المؤسسات الأمنية والدفاعية واستنفارها وحشدها ضد قطاع واسع من السكان باعتبار الحرب ضد الحراك واجب وطني وديني مقدس لحماية الوحدة، ويومياً نسمع الخطابات السياسية ونقرأ الصحف ونسمع الإعلام الرسمي وهو يقدم خطاب سياسي تهديدي مبني على التحريض الجهوي أو المناطقي يقسم المجتمع إلى وحدويين وانفصاليين، ويسعى إلى حرف الجماهير عن الفهم الصحيح لطبيعة هذه القضية وجذورها وأسبابها، وبالتالي توجيه فعلهم في الاتجاه الخاطئ ليتخذ كل شيء مجرى آخر، بعيداً عن جوهر المشكلة ووسائل معالجتها.

وكثر الاستخدام المفرط لوسائل القمع الرسمية العسكرية والأمنية والاستخباراتية، والتوظيف الكبير للمال لشراء الذمم وإسكات الأصوات ومحاولة احتواء الحراك أو تفجيره من داخله. هذا الحزام الأمني والمالي فشل في احتواء الحراك وساهم في تمدده إلى الكثير من المناطق وإيصال صوته إلى الرأي العام الخارجي، وحتم على قيادة هذا الحراك تطوير أشكال وأساليب عملهم النضالي وتأطيره ضمن بناء فكري وتنظيمي شمل كل المديريات والمحافظات الجنوبية والشرقية وتعدد هيئاته العملية والقيادية، والارتقاء التدريجي لسقف المطالب حتى وصلت عند البعض حد المطالبة بالانفصال وتقرير المصير وهو ما يعاب.

إلى جانب العمل على اختزال القضايا الوطنية الكبيرة في إطار ضيق من القضايا الشخصية والمطالب الحقوقية ومحاولة تجزئة الحراك على هذا الأساس من خلال معالجات شكلية آنية مباشرة، جميعها ذات طابع مادي أو مالي أو مناصب وهمية مثل المستشارين العسكريين الذين لا يستشارون على الحراك.

زر الذهاب إلى الأعلى