أرشيف

الفتيح.. شجن يستوقف البلابل على أبواب الرحيل

المستقلة خاص ليمنات

محمد عبد الباري الفتيح.. تجسيد لشجن الأرض، يطل من شرفة العشق المفتوحة بذاته ليسكب شعره شدواً عابقاً بنكهة البن وطعم الجهيش.

فهو باختصار شاعر ينسج من صبابة وجدانه عراقة الأصل والانتماء، ويصنع من مشاقره مسابح ومواسم يزرع أٌحوال ربيعها في تليم الحياة زنابقاً من وفاء الأسوام وحنين الشواجب.

صفوان القباطي [email protected]

ليس في شعر الفتيح،  وبالأخص الغنائي منه،  من مدخل يقودنا إلى دروب الحديث عنه أكثر من حرصه المتكرر والمقصود على أن تكون شخصية المخاطب في القصيدة من فصيلة "الطيور" لتكون وسيطاً لحمل الرسائل ونقل الأشواق، ليبلغها سلامه وأشواقه، وليقول لها أن ترص زهور الفل عقداً فوق جيدها، فهو على وشك العودة ولطمأنتها أعلم الـ "طير" بموعد الرجوع بقوله :

يا طير يا جازع.. أنا بكرة راجع

إلى المرادع .. أهجل بحولي

أبوس "ترابه" واشوف ما بُه

واعيد شبابه.. أنا وخلي

وعلى غرار هذا كله نراه يطلب من "الطير" بطريقة غير مباشرة أن يعود إلى عشه، فهو هنا يكلفه بمهمة عكسية فقط وعلى غير المعتاد، حيث وأن "الطير" هو المكلف بشكل دائم لإيصال رسائل المرأة الريفية إلى الرجل في المدينة والتي لا تنسى في أحايين كثيرة أن تطلب منه أن يأتيها بالجواب.

لذلك لا يبدو غريباً عندما لا يريده أن يسافر بل يدعوه ويلح عليه أن لا يفكر بالسفر ولو مجرد تفكير حيث يتجلى ذلك في قصيدة مطلعها:

الليل يا بلبل دنا.. غلس واسمر عندنا

غني غرد بيننا.. قبل ما تنوي الرحيل

فهو يرمز بالبلبل للإنسان وحميمية الارتباط بالأرض كونها مصدر عزته وعنوان كرامته، والأم التي يلجأ إلى أحضانها إذا جار الزمن واشتدت الشدائد، وهذا ما يلخصه الشاعر الفتيح في المقطع الأخير من القصيدة حيث والخطاب موجه للبلبل :

أنت في أرضك كريم .. في الشقاء أو في النعيم

والمهاجر كاليتيم .. مهجله لا الليل دنا

إنه يحذره من عاقبة ترك الأرض وينصحه بترك الطمع في الغربة التي لن يجني منها أكثر من مرارة الذل ونار الحرمان، متمثلاً وصية الحكيم اليماني علي بن زايد "عز القبيلي بلاده ولو تجرع وباها".

وبالأسلوب ذاته يقعد الفتيح على درب أشجانه ليبتهل مسترسلاً بالدعاء ..

يا رب حتى الطيور قد ملت الأوكار 

ما عاد بقى إلا مناجي دمعه كالأنهار

إذا زرع للرياح جهيشه والأثمار

ليله طويل وأنيسه الكوكب السيار

وفي هذا الابتهال نجده يستشعر الكثير من الأسى والحزن والشعور بالوحدة، وهو ذات الإحساس الذي ينتاب كل من تركه أحبته ضحية الهجر والسياب..

لا أينه اشتسافر واعندليب..

تذر شبابك ورونقه

تحيوه بكمن فلا جديب

ووكرك الوحشة تسحقه

ويحمله أمانة من يعز عليه فراقه ويخبره أنه لا يطيق الفراق:

يستحلفك غصنك الرطيب..

 أمانتك لا تفارقه

"لا تغترب" دمعي السكيب

شلعب بخدي وشحرقه

بعدها يقف مصلوباً بغصة لا يستطيع أن يتمالك معها حواسه، فهو فجأة يفقد استشعاره بمخاطبة الرمز "العندليب" ليفصح.

لا أين لا أين يا رجال..  ردوا فكل الربا عتاب

من بعدكم قد عادت جبال

 وبعدكم سافرت شعاب

روابي البن والجمال..

 إلى زنود تكتسي الخراب

تناجي السحب والنبال..

ريقه يحف والبتول غاب

ويواصل قوله..

الغائبين ذوبتنا نار غربتهم

نهجل نغني لهم، نحلم بعودتهم

ما يوم هب النسيم إلا وقريتهم

 تقول : ويلي أنا من طول غيبتهم

< ختاماً: لابد أن نذكر من أوصل إلى مسامعنا هذا الشجن الممزوج برائحة التراب العابق بشذى الأزاب من مشاقر الأركان الفنان عبد الباسط عبسي الذي وجدنا نبرات صوته وتقسيمات ألحانه مجسداً لتلك الروائع..

زر الذهاب إلى الأعلى