أرشيف

بعد 18 سنة من اختطافها .. سماح تعود إلى عش أسرتها في عدن

بحياة مكتظة برائحة المواجع عاشت سماح محمد منصور ما يقرب من عشرين  عاماً قابضة على الأنين ذائبة في فيافي الضياع لم تعرف لنفسها أصلا أو فصلا وليس في ذاكرتها عن طفولتها شيء سوى تيه متخثر على أعتابها الضامئة.. تلك الطفولة التي لم تعد تتذكر منها سوى أنها كانت ذات ظهيرة تائهة في شوارع المنصورة محافظة عدن، منفوشة الشعر حافية القدمين واذا بامرأة تقف بجوارها تغدق عليها حناناً وحلوى وطلبت منها السير معها فانقادت دون مقاومة وركبت سيارة أخذت تمرق نحو تعز وتباعد المسافات والأزمنة بين سماح وأسرتها وحين وصلت سماح برفقة المرأة إلى تعز لم تكن تعلم أنها قد أصبحت في مغيب الشمس عن اسرتها وسألت ببراءة الطفولة أريد أسير البيت فردت عليها المرأة إن جميع أهلها قد ماتوا وسوف تكون من اللحظة هي أمها فتقبلت الطفلة ذات الثمان السنوات الأمر الواقع..وفي دجى تلك العجوز وزقازق الجحملية بتعز أخذت سماح تحرق سنواتها وأغصان طفولتها ولم تتذكر سماح من تلك الأيام إلاّ منزلاً وامرأة وحيدة تسكنه عاشت معها ما يقرب من خمس سنوات حتى أصابها المرض وأقعدها على الفراش وفي لحظات الاحتضار دعت سماح وقبلتها في مقدمة رأسها قبلة الوداع وقالت لها يا بنتي لست أمك ولك أهل في عدن ولم تزد على ذلك وفاضت روحها إلى بارئها تاركة طفلة تقلب أوراق وحشتها، وتفتش دفاتر ماضيها المجهول ومر شهران على رحيل هذه المدعوة أمها ولم تجد من يؤنس وحشتها ولم يلح لها بالأفق شفق من أمل فقررت الرحيل وسلخت أحلامها من أطرافها.. وفي صباح غبش ركبت بيجوت أوصلها إلى صنعاء والشمس تسكن كبد السماءلتبدأ رحلة جديدة من تاريخها فسارت وطرقت أبواب المسماة شركات طالبة وظيفة، وجميعهم كان يرد بل(لا يوجد) وواصلت السير في الطرق والشوارع وكلما هدها طول المسير بحثت عن زوايا ظل لالتقاط أنفاس تعينها على مواصلة الرحلة من جديد ..

ودعت شمس الأصيل صنعاء ولم يبق من أثارها إلاّ شفق أحمر يلوح من ناحية عصر وهنا كان التعب قد نال من سماح وذبح أنفاسها فصارت تتوكأ على الحيطان بجسد طافح بالانهاك والتهالك، وبنفس نازفة بالوهن دلفت بقدميها بوابة أحدى الشركات في منطقة الحصبة، ولم تجد سوى حارسها فخاطبته يا عم عندكم وظيفة فردّ عليها يا ابنتي الآن الوقت متأخر  ودوام الشركة في النهار فطلبت منه أن يدلها على فندق لتأوي إليه فنظر الحارس عبده صغير جندبي إلى تلك البراءة الواقفة أمامه فتاة في الثالثة عشرة من عمرها صائغة للشاربين، فلم يهن عليه أن تقع فريسة لذئب عاوٍ أو أسد مفترس، فقال لها يا بنتي أنت طفلة ولن تقبلك الفنادق، وقد تقعين بيد شخص لا يرحم فتعالي نامي في منزلي.. وغداً يكون خير..) وهو جميل ما زالت تتذكره سماح إلى اليوم ولم يخن جندبي الأمانة وحفظها ما استطاع وبحث عمن يمكن أن يحفظ هذه الطفولة الشاردة فتحدث مع ابن عمه حمود الجندبي الذي تردد في قبول عرض الزواج خوفاً من رفضها كونه أكبر منها لكن الأمور سارت على خير ووافقت الطفلة واحتاج الأمر إلى أسبوع لتوثيقه في المحاكم بعد توفير ضمانات لذلك واستقرت سماح في منطقة الرحبة بأمانة العاصمة وتركت أحزانها في غرفة مغلقة وتتابعت السنون وسماح تحاول جمع اشتاتها وترقص في الأفراح مذبوحة من الألم وهي تشاهد النساء في المناسبات يتبادلن الزيارات مع أهلهن وهي مجهولة في مجتمع لا قيمة للمجهول وبينما هي تحاول أن تطوي صفحات عمرها المبعثر بدأ أطفالها يكبرون ويسألونها عن أخوالهم ليعيدوها إلى نقطة الصفر..

وعادت سماح إلى  أشواقها الماضية وحاولت أن تنهض من أطلالها وتسترجع الصورة القديمة لعلها تجد في أثارها شيئا يعيد لها قراءة حكايتها من جديد وحدّقت بالآفاق نحو الجنوب وبالصدفة ساق اليها القدر امرأة من المحويت فقالت لها يا بنتي أنت معك أهل ولكن لا تعرفينهم وعليك ببرنامج مرسال الأحبة.. هذه العبارة نفضت عن سماح آثار حزن غابر وأعادت إلى ذاكرتها رواية الأمس البعيد .

ودقت أجراس الماضي السحيق في قلب سماح فاتصلت على رقم البرنامج وذهبت إلى هناك وهناك فقط سالت دموعها لأول مرة منذُ زمن لم تتذكره فلم تعد الأفراح ولا الأتراح تبكيها من هول تتابع الصدمات عليها لكنها هناك بكت وبكاؤها لم يكن على نفسها وانما على الدموع التي تنساب على خدود الأحبة بفرحة اللقاء بعد أن باعدت بينهم ظروف الجغرافيا والتاريخ سنين طويلة  ولم تمر سوى يومين من نشر رقمها على شاشة البرنامج حتى رن جرس هاتفها … برقم هاتف من بعيد من ثغر اليمن الباسم من شواطي عدن من أحياء المنصورة.. ألو سماح .. نعم سماح .. أني أختك يا سماح ولم تستطع الكلمات مواصلة الحديث فقد اختلط نحيب الفرح بلواعج الفراق فالتقط الهاتف شخص آخر حتى وصل الدور إلى الأم التي أجهشت بالبكاء والنشيج وهي تسمع صوتاً غاب عنها تسعة عشر عاماً ولم يجد الطرفان من تعابير سوى غداً نتغدى مع بعض في عدن.. لكن الأسرة المكلومة والمتيمة بفراق ابنتها لم تنم ليلة 12 / 2 / 2010م، ولم تستطع الانتظار حتى الصباح فخرج أدهم وذكريات شقيقا سماح الساعة الثانية بعد منتصف الليل يسابقون الريح في أفراحهم نحو صنعاء كي يرافقون سماح في رحلتها من صنعاء إلى عدن..

سماح هي أيضاً لم تنم وتلفونها لم يتوقف من الرنين مرتين وثلاث وعشر من كل واحد من أخوانها وفي الصباح الباكر لم تشرق الشمس إلاّ وسماح في باب اليمن تنتظر ماضيها وتستقبل أشواقها وفي حين كان الانتظار صعباً في باب اليمن كانت المستقلة تتابع دموع الأفراح في عدن وصنعاء ووصل الأخوان ولكنهما لم يصلا إلى باب اليمن .. بل وصلا إلى عصر،.. ورافقت المستقلة سماح من باب اليمن إلى عصر لترصد لحظات لقاء من نوع خاص لقاء لم يكن أحد من طرفيه يظنه سيأتي يوماً بعد هذه المدة الطويلة وخلال المسافة الممتدة من باب اليمن وإلى عصر كان هاتف سماح لا يتوقف وكان أخوانها وأخواتها يخشون أن يكون ذلك حلماً أو طيفاً من خيال.. وفي منطقة عصر لم يجد أدهم وشقيقته وذكريات من تعبير سوى الدموع وعناق طويل.. حكى أدهم أنه هام الأرض سنوات بحثاً عن أخته ومنها أربع سنوات فقط قضاها في مدينة الحديدة بعد أن أبلغهم أحد  الأشخاص أنه شاهد سماح في الحديدة فحزم حقائبه وغادر عدن إلى الحديدة وحاول الحصول على عمل يعينه على البقاء في الحديدة كان يهيم في شوارعها ليلاً ونهاراً لعله يراها هنا أو يسمع عنها همساً هناك حتى فقد الجميع الأمل في امكانية عودة سماح… الأم قالت أنها واجهت مصيبتها بالدموع والدعاء والأب رحل إلى عالمه الآخر بعد أن أقعدته أحزان اختفاء سماح..

زر الذهاب إلى الأعلى