أرشيف

ملك في قصر جمهوري

الآن صار ملك لكن في قصر جمهوري! لم يكن ينقص الرئيس علي عبدالله صالح الغارق في صلاحيات مطلقة منذ 32 عاماً سوى ان يتلبسه شعور الملك على خطى اقرانه السيئين في المنطقة العربية ممن احالوا دساتير بلدانهم الى كراسات مزوقة، يضمنونها مطامعهم وانانياتهم متى شاءوا. قبل اسبوع قدم نواب في المؤتمر الشعبي الحاكم مشروعاً الى البرلمان لتعديل عدد من مواد الدستور، ابرزها يقضي بالغاء تحديد الرئاسة بولايتين والحق بهذا التعديل تعديل اخرى تتصل بالحكم المحلي ومنح المرأة 44 مقعداً في البرلمان ونظام برلماني من غرفتين.
 
ولا تمثل التعديلات المقترحة قيمة كبيرة فقي تطوير النظام السياسي غير انها مجرد حامل للتعديل الذي سيبقى صالح رئيساً مدى الحياة. لقد اعتقاد ان يفعل ذلك، ففي التعديلات التي مررها في 2001 اضافت سنتين الى عمر الولاية الواحدة لتمنحه مزيداً من فرص ترسيخ حكمه، حرص على ان يمزجها بمواد براقة، دافع عنها احد رجالاته قائلاً انها جيدة للتنمية وحماية البيئة.
 
ويتكرر المشهد بعد تسع سنين لكن بطريقة اكثر فظاعة الى حد ان يقول المتقدمون بالتعديلات وهم يبررون طلب الغاء حصر رئاسة الدولة في ولايتين انه تعزيز للتجربة الديمقراطية ويتيح تداول السلطة سلمياً.

ليس معلوماً كيف ان منح مستبد حق الترشيح لرئاسة البلاد طيلة حياته من شأنه تطوير الديمقراطية اليمنية لمجرد ان مدة الولاية الواحد ستخفض الى خمس سنين بدلاً عن سبع.. غالباً ما يصدر حزب الرئيس تفسيرات غير مهذبة في مخاطبة العقل مثل هذا.

ولا تعني يالتعديلات المقدمة من المؤتمر في غايتها النهائية سوى تأييد رئيسه في الحكم وهي المعركة التي استنفر لخوضها لاهياً عن واجبات المرحلة الحرجة التي تهيمن على البلاد.

كان شيء ما يتدافع في سريرة الرئيس ويعكر راحته! انه يرى الاعوام تركض سريعة باتجاه الموعد الدستوري المقرر لنهاية حكمه اذ لم يتبق سوى ثلاث سنين حتى حلول 2013 لذلك عليه ان يفصح لمعارضية عن الشعور الذي يضايقه وقد فعل لكن باستعارات غاضبة اراد منها ابلاغ الجميع ان الرئيس قلق ويؤرقه خاطر مزعج لا يريد مغادرة الحكم. وتطلب ايصال هذه الرسالة الى المعارضة ان ينسف صالح الحوار الوطني الذي كان في بداية رسم مساره.
 
وحين لم تفلح هذه الخطوة بالرغم من تهورها في انتزاع موقف لين يسلم بهذا المشروع. مضى الحزب الحاكم في اقرار قانون الانتخابات وتشكيل لجنة انتخابية منفرداً قبل ان يلقى رئيسه سلسلة خطابات عدائية ضد احزاب المعارضة من مدينة عدن حيث يقضي فصل الشتاء منذ مطلع نوفمبر الماضي. في عدن وجاراتها من المحافظات الجنوبية، يمارس الرئيس هوايته المزعجة في اصدار الاعاجيب والمضحكات امام المايكروفون قبل ان تتحول الى عناوين تتصدر اخبار الصحف ومحطات التلفزة الحكومية التي عليها ان تعيد بثها مراراً.
 
تشبه تلك الاعاجيب فقط تبرير المؤتمر الحاكم لرفع القيد الزمني عن الولايات الرئاسية بأنه تطوير للتجربة الديمقراطية.
 
امس الاثنين مثلاً خلص الرئيس الى ان معظم قادة الاشتراكي صاروا اعضاء في التجمع اليمني للاصلاح ويقودون تياراً متطرفاً داخله. واصل صالح في حضرموت تقمص دور الوالي الناصح لمواطنيه العاقين في اللقاء المشترك ليشتركوا في الانتخابات النيابية التي يحضر لها حالياً. قال صالح اكرر هذه الدعوة من حضرموت لاخواننا في اللقاء المشترك وبالذات اخواننا في التجمع اليمني للاصلاح كحزب (ثاني) بعد المؤتمر اما بعض الاحزاب كالناصري لديهم مقعدان او ثلاثة لا يشكلون مشكلة اما الاشتراكي فقد انتهى في 13 يناير وفي حرب صيف عام 94م فمعظم قياداته اندمجت وبعض اعضائه في التجمع اليمني للاصلاح يقودودن (تيار متطرف) في التجمع اليمني للاصلاح. واضاف: لا يمكن ان نقبل بأي تعديلات او حوار خارج نطاق مؤسسات الدولة على الاطلاق فهذه مؤسسات شرعية ودستورية مستفتى عليها من قبل الشعب ومؤسسات منتخبة من قبل الشعب ولا نقبل بحوار طرشان خارج مؤسسات الدولة الرسمية الشرعية (….) لا يمكن لحوار المائتين او الالف ان يعطل السلاطات التشريعية والرسمية ابداً. لا يكف الرئيس عن التلهي باسلوب المراوغة الساذجة والتحاذق السياسي اللذين يظهرانه بهلواناً ذا الاعيب مملة على عكس ما يرجوه من ذلك لتصوير نفسه سياسياً خارق القدرات.
 
تتجسد المراوغة المتهافتة بجلاء في ايقافه الحوار مع المعارضة حين كان الطرفان قد شرعا في التوافق ثم الخروج الى المنصات المحاطة بانصاره ليلتمس منها الاشتراك في الانتخابات والعودة الى الحوار.. حين تتجاوز المراوغة المكشوفة مداها الممكن تنقلب الى تهريج فاضح.

والحوار الذي يقدح فيه الان هو الذي منح البرلمان عمراً اضافياً وينتظر منه ان يقر تعديلات يسمح له بالترشح لرئاسة البلاد طيلة حياته المتبقية. يتجلى تناقض اخر في رد المؤتمر على طلب المتحدث باسم الخارجية الاميريكة بالتمهل في عرض التعديلات الدستورية على البرلمان قائلاً ان ارادة الشعوب لا تقرر بالرغبات الخارجية وان الطلب يفتقد الى الحصافة. واضاف ان الطلب الاميريكي مساس بالسيادة الوطنية وتدخل في الشأن الداخلي ليخلص الى القول انه كان على نواب الشعب ان يلبوا رغبات شعبهم ويتحملوا مسؤوليتهم الوطنية تجاه قضايا شعبهم المصيرية. يأتي هذا الرد في الوقت الذي يواصل موقع ويكيليكس نشر البرقيات السرية التي تفضح كم هي السيادة الوطنية هينة عند النظام الذي قال زعيمه لقائد القيادة المركزية الاميركية في الشرق الاوسط ديفيد بترايوس ان على قواته مواصلة الضربات داخل الاراضي اليمنية “وسنقول انها قنابلنا لا قنابلكم”. تعتري نوبة التناقضات هذه الحكام الدكتاتوريين حين يملاء الاستبداد عقولهم تماماً فيدخلون مرحلة داء العظمة التي تخدعهم ليصدروا سلسلة متناقضات وتصرفات طفولية: كان الدكتاتور الاوغندي الشهير عيدي امين صاحب الوجه الدميم والجثة الضخمة ينظر الى المرأة فيقول انه اوسم زعيم في العالم.

ويمكن تفسير هذه الحالة بطريقة اخرى فحين ينتهي الحكام المستبدون في الدول المتخلفة من تحقيق طموحاتهم الصغيرة كالارصدة المصرفية واساطيل السيارات المدرعة والإغداق على عشائرهم بالمال والمناصب، يستهويهم تجريب المشاعر الملكية كحالة تطور بوصفها دكتاتورية مطلقة تتيح للحاكم الجمهوري الاستمرار في حكمه دون منراجعة التقويم الذي يذكره بسنين تتقافز بسرعة لتنذره باقتراب موعد رحيلة عن الكرسي.
 
وفقاً لتصنيف مجلة فورين بوليسي الاميركية لأسواء السيئين المخصص هذه المرة لاكثر الحكام استبداداً في العام عام 2010 التي ضمت اربعة رؤساء عرب هم عمر البشير ومعمر القذافي وبشار الاسد وحسني مبارك وهؤلاء الاربعة لم يقدم احد منهم بعد على ما يستعد الرئيس اليمني لفعله. ربما ان شأنه المتواضع وانعدام تأثيره انقذاه من ان يرد في القائمة التي ضمت 23 رئيساً في العالم بالرغم من تماهية مع مواصفات بعضهم التي اقتضت ادراجهم في القائمة السيئة. فالمجلة تصفهم بـ “التماسيح الليبراليين (..) الذين يجعلون الشعب يدفع ثمن الخسائر الاقتصادية في حين يحولون المكاسب خفية الى حساباتهم في البنوك السويسرية وهم كذلك الثوريون الذين يخونون المثل العليا والمبادئ التي جاءت بهم الى السلطة وتشبههم بـ قطاع الطرق الذين يسرقون حقيبة ببساطة”. وجاء في تعريفها لمبارك انه “حاكم مطلق مستبد يعني داء العظمة وهمه الشاغل الوحيد ان يستمر في منصبه وهو يشك حتى في ظله ويحكم البلاد منذ 30 عاماً بقانون الطوارئ لاخماد اي نشاط للمعارضة ويجهز ابنه جمال حالياً لخلافته”.
 
لكم تتشابه هذه السيئات مع ما يحدث هنا بزيادة عامين. سينتظر الرئيس صالح بشوق مضن شهرين حتى تشرع اغلبية حزبه البرلمانية في مناقشة التعديلات الدستورية وتنصيبه رئيساً مدى الحياة يحكم داخل قصر جمهوري كآخر علامة تذكر بمبادئ الجمهورية.
 
تستطيع اغلبية المؤتمر الخليطة من شيوخ العشائر الاميين والتجار والسياسيين الضعفاء ان يرفعوا ايديهم موافقين على هذه الخطوة الارتدادية الفظيعة وهم فاغروا افواههم جذلاً لانهم تمسكوا بالسير في نسق الطاعة لكن عليهم ادراك انهم لو فعلوا ذلك فسيكتبون “لعنة” الديمقراطية اليمنية.

اما المعارضة فان واجباتها قد تعاظمت حقاً منذ قدم نواب مؤتمريون التعديلات الى رئاسة البرلمان.
 
هي حسمت السبت الماضي قرارها في الاحتجاجات الشعبية التي قررت الشروع في انفاذها خلال يناير الحالي لحماية ما وصفتها بـ “الانجازات الوطنية”. وإلى ذلك ينبغي لها ان تولي الدفاع عن تقييد الولايات الرئاسية زمنيا اهمية في اطار كفاحها لحماية الديمقراطية ومقاومة اي ضغوط او اغراءات لدفعها الى التسليم بتأبيد صالح حتى اذا كان المقابل عروضاً باصلاحات سياسية متعددة فالاخيرة لن تكون ذات قيمة بعد تهشيم رأس الديمقراطية.

يخوض صالح معركته الخاصة حاليا ويفرط في اظهار تساليه المضحكة للعالم وهو ما يمنح المعارضة فرصة لخوض معركتها الوقورة من اجل البلاد لتبين كم هو الفرق بين الطرفين. هذا معترك اليمنيين حقاً.. الاطاحة بالديمقراطية على ذلك النحو السافر مأزق وطني واختبار ايضاً مثل ان يلقي احدهم في وجهك سؤالاً فجائياً: متى تمعًر وجهك غضباً اخر مرة، وعلام.
 
خالد عبدالهادي
 
[email protected] 

نقلا عن صحيفة المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى