أرشيف

اليمن: صراع الرئيس والجنرال

لا شك أن الأحداث “جمعة الكرامة” الدامية 18 مارس 2011، التي سقط فيها مئات الشباب بين قتيل وجريح، كانت حداً فاصلا بين مرحلتين مختلفتين تماما عن بعضهما، بحيث غدت الثورة اليمنية بعد هذه الجمعة، مختلفة عما قبلها بفعل الأحداث الدراماتيكية التي أعقبت تلك المجزرة التي تعرض لها الشباب من قبل قناصة القوات الخاصة بصدورهم العارية، وما أعقب ذلك من ردود فعل قوية ومزلزلة لم يكن يتوقع النظام حدوثها.
التحول الحاسم في مسار ثورة الشباب اليمني، تمثل بالانشقاق الكبير في مؤسسة الجيش والسلك المدني والدبلوماسي، وإن كان أخطر نقاط هذا التحول، هو خروج الرجل الأقوى في الجيش اليمني اللواء علي محسن صالح، قائد الفرقة الأولى مدرع، قائد المنطقة الشمالية الغربية، الذي يُعد الرجل الثاني في نظام صالح إن لم يكن الأول حضورا في صفوف الجيش وأوساط القبائل وقربه من الإسلاميين.
فما الذي أضفاه هذا التحول للثورة؟ وكيف يمكن قراءته في عقلية الرئيس صالح، في ضوء كل هذا الأحداث التي تلت ذلك الحدث الإجرامي ممثلا بمجزرة جمعة الكرامة؟ وهل جعلنا هذا التحول أكثر قرباً من قطف ثمار الثورة دون دفع باهظ التكاليف؟ أم إن هذا التحول ربما قد يحرف مسيرة الثورة نحو عسكرتها وإخراجها عن طابعها السلمي؟ أم أن المشهد ربما قد نحا بهذا التحول المفاجئ بالثورة نحو سيناريو العنف الأعمى الذي غدا الأسطوانة المفضلة للرئيس صالح في كل خطاباته التي تلت مجزرة جمعة الكرامة.
من خلال هذه المقاربة سنسعى إلى تحليل ما خلف تفاصيل هذا المشهد الذي ربما يُدفع به بقوة نحو التصعيد والانفلات المقصود أمنياً تمهيدا لسيناريو الفوضى الهدامة الذي تعمل بطانة الرئيس ومقربوه للسير نحوها، علها قد توقف عجلة الثورة عند هذا الحد، الذي بحسب المراقبين قد يعيد تذكير الناس بأهمية بقاء صالح رئيسا، كونه سيُقدم حينها بالرئيس الذي حافظ على أمن البلاد وذهابه ذهاب ذلك الأمن الذي يهم الموطنين أكثر من أي شيء آخر.
بداية لا بد منها
لا يخفى على أحد من المراقبين، حقيقة العلاقة الطويلة والغامضة، بين الرئيس صالح وجنرال الجيش الأقوى علي محسن صالح الأحمر على مدى فترة حكم صالح الـ33 عاماً، من تولي صالح السلطة، بعد مقتل الرئيس أحمد حسين الغشمي الذي استمر في الحكم ثمانية أشهر بعد مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي، حيث تشير البدايات إلى أن علاقة غامضة جمعت الرجلين صالح وعلي محسن منذ بداياتهما الأولى، حيث كان الأول قائدا للواء تعز، بينما كان الثاني ضابطا كبيرا في الكلية الحربية والفرقة الأولى.
صعود الرئيس صالح إلى السلطة رغم ضعف موقفه العسكري والوظيفي في 17 يونيو 1978م بفعل دعم وتشجيع علي محسن الأحمر، جعل الأخير هو الرجل الأقوى والخفي فعلا، حيث استمرت علاقة من نوع ما تجمع هذين الرجلين، حتى بدأت هذه العلاقة بالاهتزاز والريبة مع الأيام بفعل توجه الرئيس إلى تولية أبنائه وأقاربه للمراكز العسكرية الأولى على حساب مكانة الجنرال الأقوى والأبرز.
الأخطر من هذا كله هو تطور المواجهة بين صالح ومحسن إلى حروب تصفية الحسابات، كحروب صعدة الستة بحسب المراقبين التي كانت جزءاً من سيناريو إضعاف وتقليص مكانة الجنرال محسن، حيث لم يقف الأمر عند هذا الحد، لتدخل مرحلة خطيرة، بحسب وثائق ويكيليكس التي ذكرت أن أجهزة صالح أعطت القوات الجوية السعودية إحداثيات مكان تواجد الجنرال محسن لقصفه، وهو ما لم يتم في لحظته الأخيرة، أثناء حرب الجولة السادسة مع المتمردين الحوثيين في صعدة.
إعلان محسن صالح عن دعمه وحمايته لثورة الشباب، بحسب المراقبين ليس أمراً مفاجئاً إذن حيث كان يدرك الجميع أن ثمة صراعاً حاداً وخفياً وغير معلن يدور بين صالح ومحسن، أتت لحظة إعلانه مؤاتية وذهبية بفعل ثورة الشباب وما قدموه من تضحيات كبيرة تمثلت بعشرات الشهداء ومئات الجرحى، مما جعل مخرج الصراع بين صالح ومحسن بهذا الشكل تبدو لصالح الجنرال لا الرئيس، الذي خسر بذلك كل أوراق قوته في مواجهة ثورة الشباب السلمية.
حروب الوقت الضائع
المتابع للأحداث الأخيرة في اليمن وتطوراتها المتتالية يدرك أن صالح فقد كل ما كان يعول عليه في إدارة وحسم معركة بقائه في السلطة، إذ تم كشف كل أوراق صالح السياسية مبكراً من ورقة البلطجية إلى ورقة القبيلة فورقة المناطقية والورقة الدينية فورقة الجيش وكل أوراقه التي كان يعول عليها كثيرا في حسم معركته مع شباب الثورة وخصومه السياسيين.
فبعد سلسلة الانشقاقات عن سلطته التي طالت حتى حزبه الحاكم المؤتمر الشعبي العام وأبعدت كل عقلائه عنه، لم يجد الرئيس صالح ما يمكن أن يتوهمه منقذا له، فلم يجد غير ورقة المخاوف الدولية التي استخدمها من قبله نصيراه المخلوعان المصري وكذلك القذافي ولم تُغن عنهم شيئاً، من قبيل التعويل على مخاوف المجتمع الدولي، من خلال شماعة القاعدة والإسلاميين، حيث اتهم هؤلاء الإسلاميين، الإخوان المسلمين تحديداً، بأنهم من يقف خلف هذه الثورة وأنهم سيشكلون خطراً على مصالح القوى الدولية في المنطقة في حال تم إقصاء صالح عن الرئاسة.
يدرك المراقبون أيضاً أن انشقاق الجنرال محسن، أثر كثيراً في نفسية صالح الذي حاول أن يهادن هذه اللحظة بإيعازه قبول نقاط المعارضة الخمس التي كانت قد عرضتها قبل أزيد من شهر، والتي من أهم بنودها هو رحيله نهاية هذا العام بعد أن كان رفضها جملة وتفصيلا سابقا، حيث يرى هؤلاء المراقبون أن هذه المراوغه من قبل صالح لم تكن إلا للعب على ورقة الوقت عله يستطيع إعادة ترتيب أوراقه المبعثرة والمتساقطة استعداداً لمعركته الأخيرة.
ما يؤكد هذا الافتراض، حروب صالح في الوقت الضائع، هو الحشد الأخير الذي جمعت له حاشية الرئيس صالح مئات الآلاف بملايين الدولارات، في ميدان السبعين تحت مسمى جمعة التسامح، عدا عن مقابلة فضائية العربية تلك، وكذا خطاب الاجتماع الأخير باللجنة العامة لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم، وما تضمنه ذلك الخطاب من تلميح وتصريح، أطلق عليه المراقبون بإعلان الحرب ضد اليمنيين.
أوراق مكشوفة
حالة الانسداد التام لمحاولة نقل السلطة سلمياً ورحيل صالح عنها، بمبادرة كان يقف وراءها الأمريكان والأوربيون، جعل المشهد يبدو أكثر قتامةً مع نكث الرئيس صالح كعادته لوعده بالتنحي الجمعة قبل الماضي 25/3، وإصراره على المقامرة بالبقاء وعدم التنازل عن السلطة كما قال في خطابه ذلك بعدم تسليمه للسلطة “إلا لأيادٍ آمنة” كل ذلك بحسب المراقبين، ليس إلا خطاباً مأزوماً ومرتبكاً قد يقود الرئيس إلى نهاية مؤسفة وقاسية، كان بإمكانه أن يتجنبها قبل فوات الأوان، لو أعلن نزوله عند مطالب الشعب المعتصم في ساحات التغيير والحرية في معظم المدن اليمنية.
لكن ما لا يخفى على المراقبين أن إصرار صالح على البقاء جاء بلا شك نتيجة للضوء الأخضر الذي التقط نتيجة للموقف الأمريكي والبريطاني المريب والمتماهي مع سياسات نظام صالح مؤخراً بشكل كبير، وهذا الموقف ربما لا أحد يمكن أن يفهمه بدون معرفة حقيقة لعبة القاعدة في الاستراتيجية الأمريكية التي تستخدمها ذريعة للتواجد والسيطرة على ممرات الملاحة البحرية والمناطق الجيوسياسية في العالم حيث خزانات الطاقة العالمية في الخليج والقوقاز.
ومن هنا يمكن القول إن تصريح الجنرال علي محسن صالح في حواره الإلكتروني مع وكالة الأنباء الألمانية، 28 مارس، كان دقيقاً وصادقا في تحذيره من تداعيات استمراء صالح في “استخدام القاعدة للبقاء في الحكم” وهذا ما تبدى جلياً بعد ذلك، من سحب قوات الأمن، من عدد من المحافظات الجنوبية والشرقية، وتسليم الأسلحة والمعدات الثقيلة لمجاميع تُقدم على أنها عناصر تنتمي لتنظيم القاعدة في الوقت الذي هي مجاميع عاشت في كنف النظام على مدى العشرين السنة الماضية، بضمها إلى سلك الجيش والأمن ومنح قيادتها رتباً عسكرية ومرتبات.
هذا السيناريو المرعب بحسب المراقبين، هو سيناريو فوضى القاعدة الرسمي ، الذي يعمل صالح على إخراجه بين فترة وأخرى كفزاعة في وجه مخاوف المجتمع الدولي والمحلي، ولكن المراقبين يقولون إنه لم يعد المجتمع المحلي تنطلي عليه مثل هذه الممارسات بعد أن خبر نظام صالح طويلاً، وبالتالي فالتعويل على مثل هذا السيناريو لن يقف بهذا النظام إلا على شفا الهاوية، في ظل الوعي المتنامي بأهمية الحفاظ على سلمية الثورة حتى تحقيق كل مطالبها.

نبيل البكيري – الاسلام اون لاين

زر الذهاب إلى الأعلى