أرشيف

أحمد الجابري.. طائر الأشجان الذي أوى عش النسيان في مدينة الراهدة..!!

على  جناح  اللهفة  يأخذنا قدر التطواف  برفقة  “طائر الأشجان”  أحمد  الجابري  الذي  ظل  يروي  بدموع  صباحاته  إشراقة  هوى  الأيام  ويشعل  بشموع  آهاته  أسى  الليالي  في  دروب  الأحبة  ليجد  نفسه  في  نهاية  المطاف  شريداً  وحيداً  يشكو  ضياع  السنين،  ويأوي  عروش  الصمت  في  “الراهدة”  مدينة  الحلوى  التي  اختارها  معتكفاً  لآلامه،  بعيداً  عن  الأضواء.. لم  يكلف  أحداً  نفسه  عناء  السؤال  عن  “عاشق  الليل”  الذي  لطالما  بات  يرعى  نجوم  الأحبة  في  طريق  المنى  منتظراً  وصل  من  لا  يعود  وصاباً  جام  لومه  وعتابه  على  قلبه  الولهان.. أيش  معك  تتعب  مع  الأحباب  يا قلبي  وتتعبنا  معك..

صفوان القباطي [email protected]

شاعرنا القدير أحمد غالب الجابري، المولود في العام 1936، واحد من شعراء قلائل يستشعر المطلع على جملة نتاجهم بمهابة التفرد على اعتبار أن كثيرين خاضوا غمار تجربة الشعر الغنائي، إلا أن جلهم لم يستطيعوا أن ينحتوا لأعمالهم موضع قدم في وجدان الناس كشاعرنا الجابري، الذي بدا عملاقاً منذ الوهلة الأولى، وشق طريقه إلى قلوب عشاق الطرب الأصيل في خمسينيات القرن المنصرم، مسجلاً السبق في مجال كتابة الأغنية بلون جديد ومبتكر قبيل العشرات من روادها على مستوى الوطن، ولنرجع بالذاكرة إلى ما قبل “أخضر جهيش مليان”..

أخضر جهيش مليان حلا عديني..

بكر غبش شفته الصباح بعيني

يملي الجرار ريق الندى رحيقه..

يروي ظما من ضاع عليه طريقه

يا ليتنا ظله شاسير خلاله..

عند الطريق شاتخبره لحاله

قلبي كرب وزاد من كريبه..

كيف يصطبر والناس تشوف حبيبه

لا هو قدر .. ولا وصل رسوله..

يعطي الجواب .. كيف الهوى؟ قولوا له

خلي نشر شي عاد رضى من الله..

جنب الحبيب ماشي وداعة الله

والواقع أن أكثر ما يشد القلم للكتابة حول مبدع بحجم الجابري هو اعتزاز الرجل بنفسه وبموهبته، ففي الوقت الذي نجد فيه متشاعرين أو شعراء مبتدئين يسعون لتلميع أنفسهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، وتتم طباعة أعمالهم الهزيلة بالورق المصقول للأسف يحزننا أن نجد شاعراً بقامة الجابري الإنسان الذي لا يستهويه حب الظهور أساساً يقابل بكل هذا التناسي والتجاهل الرسمي والشعبي وهو الذي ألهم وجدان أجيال عاش يلقنها معنى البكاء على ضفاف القوافي.. فمن منا لم تبكيه روائع الجابري المليئة بمواجيد الأسى المعتقة على نحو:

طير أيش بك تشتكي قلّي أنا مثلك غريب

كلنا ذقنا هوانا واكتوينا باللهيب

حد متهني وحد ظامي مفارق للحبيب

لا تقل لي أو أقلك كل شي قسمة ونصيب

قبل منا كان هنا مثلي ومثلك عاشقين

ذوبوا الأشواق ما خلوا لنا غير الأنين

نشتكي.. نبكي.. نضيّع بالهوى عمر السنين

غيرنا هم اللي عاشوا واحنا بس الضائعين

يااااهـ … هذا الكم الهائل من الأسى بهذه القصيدة (اللوحة) لطالما استوقفني ملياً على مشهد إبداع الثنائي “الجابري وأيوب” وأقول لوحة لأن من يقرأها يشعر وكأن الجابري رسمها في خياله قبل أن يعيد كتابتها على الورق.. ولعل أجمل ما فيها من ملامح الإبداع هذه الوقفة الحائرة أمام طائر الأحزان الشريد:

عيش حياتك لا تضيع لحظة واحدة في الوجود

ليش تزعل بس روحك ليش تفكر في البعيد

لا الزمان يقدر يرجّع عش حبك أو يعيد

الزمان لو فات بعمرك مستحيل يرجع جديد

لكن.. ورغم كل المآسي والأحزان يتراءى لنا الجابري على الدوام مؤمناً بالقدر المحتوم، وموطناً نفسه على الصبر وإن بدا صعب المنال، مكتفياً بذرف دموع الحسرة على أطلال الحب المفقود..

غصب عني أيش أسوي كل شي قسمة ونصيب

أنت عارف أيش بقلبي أنت يا اللي مش غريب

كان هوانا حب جارف والدموع كانت عتاب

مش مصدق بعد هذا الحب أرجع للعذاب

كيف بس أقدر أسامح وانت يا للي كنت جارح

في خصامك في كلامك اللي قلته مش قليل

ومن الروائع الشهيرة التي صاغتها أنامل الشاعر أحمد الجابري على صفحة الإبداع هذه الأغنية الفرائحية والتي تجاوزت شهرتها حدود الجزيرة العربية بلحن وأداء كروان السعيدة محمد مرشد ناجي وأضحى الجميع يدندنون بلحنها وكلماتها ربما دون معرفة من يكون صاحب كلماتها الرقيقة..

على امسيري على امسيري ألا بسم الله الرحمن

على امسيري على امسيري ولا مؤذي ولا شيطان

على امسيري على امسيري تخطي في دراج أهلش

ألا يا مرحبا بش وباهلش وبالجمل ذي رحل بش

فرشنا اموادي بالريحان ومن أجلش سرينا ليل

على صوت الفرح والدان ألا حيَا ملا الوديان

ألا لصوا البخور والعود وهاتوا الورد يا اهل امبيت

وهاتوا لا معاكم عود أباكم ترقصوا في امبيت

ومرة أخرى يعود الجابري ليلوذ بالصبر مجدداً تجاه ما يلاقيه من عناء في غرام معشوقه :غصن البان” الذي أضحى قلبه أسيراً لديه، محرقاً أزهار عمره على جمر مرارة الشكوى لمن لا يرق ولا يرحم:

يا غصن من بان يا من قلبي معاكم أسير

قد صار فيكم مولع مغرم وشاعر خطير

أبات ليلي معاني في ذا الهوى مستهام

الله شاهد بأني ما ذقت طعم المنام

أصبحت ضائع وأمري ماشي معي له دليل

كم قلت باصبر لصبري لكن ذا مستحيل

وفي ذات السياق يعيد الكرة.. ولأنه من الطبيعي أن يعز الصبر عند فراق الأحبة، فقد كان من الطبيعي أيضاً أن يبحث الجابري في سوق المجاز عن الصبر وعن من يبيعه منه ما يعينه على حمل مأساة خيبة الأمل بمن أخلص لحبهم ووهبهم فرحة ربيع الشباب.. لكن أنَى له ما طلب..

يا بايعين الصبر يا عاشقين ..

أنا باشتري من كم يا بايعين

عهد المودة انتهى ما عاد ينفع صديق

راحوا الحبايب وغابوا كل من في طريق

رموا بقلبي على نار ما عاد ينفع تذكَار

فينا وهذا الأنين يا عاشقين

وعلى درب الهيام الشاق والطويل تتوالى الوقفات التي يناشد فيها مقام الحبيب ويترجاه بالتكرم والتعجيل بالوصال موضحاً له عذاباته وما يكابده من غربة في غيابه..

ما لك كذا يا هلي.. يا نور وصلك غلي

غليت وصلك علي.. يا بوي انا شي لله

قلبي مولع بكم.. ليش تقطعوا حبلكم

والود باقي لكم .. يا بوي انا شي لله

مش هكذا يا حبيب.. الهجر هذا صعيب

أصبحت زي الغريب.. يا بوي انا شي لله

ويوضح له في رسالة أخرى تنقل فحواها نجوم الليل الساهرة أن كل ما يطلبه ويبتغيه ليس أكثر من مرافقته والعيش بقربه.. فذاك غاية المأمول:

يا النجوم التي في السماء دندني..

با معك يا حبيبي وين تبا شلني

لا دنانير أبا منك ولا أبا جني..

مثل ما انا أحبك يا قمر حبني

وإلى عالم الليل المسكون بالآهات.. تأوي دموع وأشواق المحبين وجدان الجابري فيبيت مسهداً يناجي الأطياف ويبحث عن عرائس الألحان في غربة الهوى والليل والوتر..

يا عاشق الليل ماذا أنت تنتظر..

نامت عيون العذارى واختفى القمر

تسامر النجم والأطياف حائرة..

تحوم حولك لا تدري فما الخبر

عرائس اللحن ضاعت أين سامرها..

وأين منها الهوى والليل والوتر

ويعود ليمسح بمنديل الناصح المجرب دموع من بات يذرف الدمع على أطلال منزل حبيب عافه الأثر مسترسلاً بالنصح:

كفكف دموعك إن الحب تقتله..

هذي الدموع على خديك تنحدر

واصدح به الليل أنغاماً مجنحة..

فالحب هذا الذي يشدو به البشر

نأسوا ونضحك للدنيا وإن صرمت..

عادت وفي فجرها الموعود منتظر

هي الحياة جمال حين نعشقها..

ويستطيب بعين العاشق السهر

وعلى رجع صدى موال يردده أبناء ريف الحجرية في ساعات (العشوية) مع اقتراب لحظات غروب شمس الأصيل، ينسج الجابري من حمرة الشفق على خدود الروابي هذا النشيج، ملخصاً بعضاً من صور أحزان المرحلة..

والله ما اروح إلا قاهو ليل..

واعشي واصبح وابن عمي الليل

فرحتي وارب قاذرينا الحب..

والجهيش في آب هربوا جا الليل

المطر يسكب مو يفيد نصرب..

والذئاب تقرب هربوا جا الليل

ليتنا مثلك كل شي تملك..

ما زرعته لك هربوا جا الليل

وإلى المحبوب في صنعاء موطن العشق الأزلي ومهبط وحي أسرار الجمال، يتخذ الجابري من طير الصباح رسولاً يبلغ إليه مناجاته.. غير متورع في طلب استعارة الجناح ليحمل به جراحاته ويطير صوب غاية القصد والشأن.. وتبدو جلية نزعة الشاعر التواقة لتحقيق الوحدة الوطنية حلم الجماهير..

ألا يا طير لو تندي الجناح..

باشله يوم وباحمل به الجراح

إلى المحبوب في صنعاء.. غزاله في الجبل يرعى

يعدد في النجوم تسعه.. وما حد منهم سمعه

ألا كم فرحته تكبر.. وانا يدي على الخنجر

أمانة خبره عني.. إذا ما جيت أوطانه

وقل له لا يغيب عني.. أنا صابر على شأنه

ويعكس مسار الرحلة ليعود متشوقاً على لسان المرأة الريفية التي تركها حبيبها في حدود الشمال، وذهب للعمل في عدن وهي معاناة لم تسلم من الإكتواء بنارها من عاشت ظروف تلك الفترة:

عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم..

شاسير به ليلة ماشرقد النوم

مر الغمام قالوا عدن قباله..

لو به جناح شاطير أشوف خياله

نوح الحمام تبكي بنار عذابه..

فوق الجبال تسأل على غيابه

وجه المليح طلعة قمر على الجاح..

يضوي الصباح من بسمته ويرتاح

محلى السمر بالليل وعود أخضر..

إن قد نسى.. قله لمو تكبر

قد غاب علي كم له يا ليته يسمع..

لا الدمع يفيد ولا الحبيب يرجع

ومرغماً في مشهد وداع يكتب الجابري بدموع العاشق الولهان على صفحات الوجد هذا الخطاب الأليم..

كيف قلت أسكت والهوى يوجعه.. لمن فؤاده عليل

سالت دموعه حينما ودعه.. ولا التفت له قليل

ياناس ما أفعل وكيف اصنع معه..

يكفي عذابي الطويل

إن صح ما قيل عنه يا غارة الله منه..

يفعل كذا بالقتيل

لا رق قلبه لقلبي ولا هدا لي شجن

الله يعلم مصابي من حرقتي الدمع شن

لو كان غافل لحبي ألقى الهوى عند من

من رام حب الغواني شايلطف الله معه

كم بات قلبي معاني الله ما أوجعه

إن قلت شنسي ثواني أو قلت شستودعه

وفي العام 1972 وبالتحديد بعد أسبوع واحد فقط من مقدم الجابري إلى تعز يتصل به صديقه الشيخ محمد علي عثمان ليخبره بأن هناك فنان اسمه أيوب طارش يريد منه أن يكتب له أغنية على نفس وزن “وافي العهود” التي سبق أن كتبها الفضول لتكون بديلة لها.. وفي نفس الليلة تحمس الجابري وكتب لأيوب هذه الأغنية:

أشكي لمن وانجيم الصبح قلبي الولوع

لا ذقت راحة ولا جفت بعيني الدموع

كم قرّح السهد جفني واعتراني الضنا

والهجر في الحب بلوى والتعب هو لنا

من قال أن المحبة للموله هناء

الحب عندي مجرب واسألوني أنا

أبكي زماني مضى في الحب كله عناء

إسأل عليّا دموعي والليالي شهود

أرعى نجوم الأحبة في طريق المنى..

واسنب الليل كله في انتظاره يعود

أضناني ليل النوى كم لي أقاسي أنا..

ساهر لوحدي وغيري ما عليهم رقود

ويستمر الجابري في كتابة أجمل النصوص الغنائية ليسلمها أيوب الذي أبدع في تلحينها وأدائها.. ومنها على سبيل المثال هذه الرائعة الفريدة التي يناجي فيها الصبايا على آبار الماء في وقت الغبش شاكياً لهن ظمأ قلبه الحزين..

يا صبايا فوق بير الماء والدنيا غبش..

من يسقي في الهوى قلبي ويروي لي العطش

لاجل روحي ترتوي بالحب رشني رشش..

واسكبين العطر من قطر الندى حالي الورش

الهوى فني يلوعني ويضنيني الأنين..

شفني وجدي وأضنى في الهوى روحي الحنين

من لقلبي يا صبايا واشتري عمر السنين..

واعطي عمري للهوى عمري فداء للعاشقين

ويأبى إلا أن يرافق معشوقه الفاتن على درب الإلتياع مجدداً التأكيد على الوفاء والبذل لعهود حبه الذي تمكن من لبه وأضحى يزرع الأمان في ربيع أيامه:

خذني معك وا يا حبيبي شاتبعك.. خذني معك

خذ من عيوني ما تشا.. شفديك بروحي يا رشا

كيف شفرقك وانت الذي.. ساكن بقلبي في الحشا

ولعت قلبي في الهوى.. واضنيتني في ذا الجوى

هالك بحبك ما عليك.. ظامي حبيبك ما ارتوى

اسقيني من روحك حنان.. وازرع بأيامي الأمان

يا من بقربك أحتمي.. واسعد بأحلامك زمان

ولفرحة العناق الأكبر التي طال انتظارها ينظم الجابري جواهره عقداً على جيد الإبداع وينثر أيوب درر الألحان على صفحة سماء الوطن فتزهو القناديل وتشدو المواويل ملء الأرجاء..

لمن كل هذي القناديل تضوي لمن

وهذي المواويل في العرس تشدو لمن

أللأرض عاد لها ذو يزن.. فعاد الزمان وعادت عدن

فديتك صنعاء يا موطني..

بروحي بأنقى دمٍ مؤمن

وهذي سماؤك فيض السنا..

لكل البطولات في أرضنا

سنحيا ونفنى لتبقى اليمن..

لمـــــن لمـــــــــــن.. لأجل اليمن

وبلحن شعبي بديع يشدو فنان الريف الأول عبد الباسط عبسي من كلمات الجابري الراغب بالسفر إلى بلاد ما تعرف إلا الحب بهذه الكلمات المتقاطرة دماً ودموعاً:

أشتي أسافر بلاد ما تعرف إلا الحب

العيش فيها وداد والبعد فيها قرب

شفرد جناحي على قلبي وشاتغرب

أيما المحبة وفاء جمعه مع الأحباب

لا عاد شبكي ولا شندم على من غاب

يا قلب ما يكلفك ترضى بتعذيبي

كفكف دموع الأسى يكفي الذي فيبي

الصبر كم شايكون من هجر محبوبي

وفي ختام مشواره الطويل يقف هذه الوقفة الحزينة ليستعيد أسى العمر ويستذكر كل ما جرى له في سبيل الحب ووفائه المطلق ربما مع من لا يستحق الوفاء..

أعطيت قلبي لمن يسوى وما يسواش

كلمنجهشلهواخذمنلوعتيمجهاش

مـــن روائعــــه الشـــهـــــيرة

أيش معك تتعب مع الأحباب ياقلبي وتتعبنا معك

لا الضنا يروي ظمأ روحي ولا الدنيا بعيني توسعك

لا متى شاصبر وأنا أجري وراء حبك أطيعك وأسمعك

أيش بقى لي في الهوى غير الشجن زادي يلوعني معك

خذ حياتي لا تعذبني بأشجانك وتضني مضجعك

شفني وجدي فكم أضنى الجوى روحي وأشجى مسمعك

علني حبك وأضناني بلا معنى وأحرق أضلعك

ليتنا أقدر على النسيان ياقلبي وتنساني معك

طائر الأشجان ما يشجيك في تلك الربى من لوعك

تشتكي مثلي ضنى الأيام في حبك وتبكي مربعك

من لأحراقي وأشواقي يطفيها ويمسح أدمعك

أيش معك غير الذي عندي يكفيني ويكفي ما معك

لو يقع لي أدفن الأشواق أطويها وأنسى موجعك

ضاعت الأيام من عمري سدى.. ضاعت وحبي ضيعك

روح لك بالله بعيد عني وحل عن موضعك

أيش معك يا قلب تضنيني أنا هالك وهالكني معك

زر الذهاب إلى الأعلى