أرشيف

الشمولية في التفكير والممارسة ستخل بثورة التغيير كما أخلت بالوحدة

الشمولية تقضي على الإبداع وتقيد الفكر وتقصي الآخر وتفرض على الإنسان القبول بالظلم وتجره الى مربع العبودية وتبقية في التخلف تحت مظلة الواحدية ادعاء بعكس التعدية التي تولد الإبداع وتحرر الفكر وتصقل وتني قدرات الإنسان وتؤدي الى الاختلاف في أمتي رحمة.

في الثقافة الشائعة ان التعددية تعني الفرقة والتنافر والتمزق والتشتت وهي في الأساس مخالفة للتوحيد وللنظام وللحق، وتتنافى مع نواميس الكون التي صنعها الخالق القائمة على التعددية هذه الفكرة الخاطئة التي تظهر في سلوكنا ونظرتنا وتعاملنا مع متغيرات الحياة اليومية والعامة في السياسة وشئون المجتمع وغيرها.


تلك الثقافة تنطلق من منحى ديني مكرس ومزور وليس حقيقياً في أبعاده الاعتبارية وهي اصطلاحية أكثر منها بعدية في المحتوى والمفهوم، ولكن التزوير والانحراف يحسب على الحاكم او المسيطر او القوة المسيرة التي تعزل الناس عن مصالحهم وشئون حياتهم لتكريس  منافع شخصية باسم الدين او مغلقة به، الشمولية المقصودة هنا هو طابعها المسيطر في تشكيل المجالس الانتقالية او الوطنية التي أصبحت هذه الأيام موضة او تقليداً او إبداعا في الحلول الافتراضية للواقع السياسي المترهل، وهذه المجالس التي تتبناها ثورة التغيير او المشترك هي محاولة إنقاذية للخروج من الحيرة المرتبكة التي تسيطر على ساحات الثورة والتغيير، بعد ان تآكلت لديهم الحلول المتوازنة التي تتطلب النظرة المتأنية والعقلانية قبل الغرف في وحل الأزمات، وعليه فالحلول والخروج من الأزمات او محاولة الوصول الى التغيير ليس بهذا التفكير كأنه قطف ثمار ناضج او نقلة بيدق شطرنج تختصر المسافة الى الهدف، فأمامنا مجتمع متشابك وشديد التعقيد وبالغ التخلف وهذا المجتمع يحمل في طياته أهواء ونزعات وتوجهات، ونظرة مصالح متباينة وثقافة ارثيه مترسخة ومتجمدة، لكن الأهمية تكمن في كيفية التعامل مع هذا المجتمع. اليمن بحاجة إلى ثورة طويلة المدى وليس إلى حلول آنية للتغيير بتشكيل مجالس بهذا الشكل او ذاك.. الواقع لا يمكن تجاوزه هذا صحيح، ولكن معالجة الواقع شيء والبت في الحلول للازمات السياسية داخل المجتمع المعقد شيء آخر، فإذا كان الهدف الرئيسي هو التغيير فانه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا عبر التحول الآمن الى الواقع وتغييره ليس بالصدام معه او بالافتراضات الوهمية البعيدة عنه بل من خلال زرع ثقافة جديدة وإيجاد تصورات وأهداف إستراتيجية مترافقة مع العمل النضالي والفكري والتوعوي لترسيخ التغيير في أذهان الناس.. الطرف الآخر (النظام) لا يمكن إغفاله في نفس الوقت فهو يضاد ويعارض كل توجهاتك، وهو قوي انطلاقاً من ترسخ جذوره في المجتمع وتاريخيته الموروثة والمكتسبة ولديه السلاح والمال، وأنت قوي بالقيم الخيرية والإنسانية التي يحملها مبدأ التغيير، فالترجيح بين التغيير والنظام هنا يعتمد على الوسائل والأساليب المختلفة المؤثرة في المجتمع. وتشكيل المجالس الانتقالية او الوطنية وغيرها نعتقد أنها ليست هي الحلول الممكن للواقع المعاش في وقت تحمل فيه هذه المجالس طابع الشمولية في تشكيلها.


تشكيل المجالس الانتقالية بمظهر الشمولية:


نلاحظ ازدياد التهور والاندفاع نحو تشكيل المجالس الانتقالية باعتبارها الحل السحري للخروج من ركود ساحات التغيير بعد الضبابية التي أصابت المشترك وشباب الثورة في كيفية تحريك مسار الثورة، فاندفع الجميع شباباً ومعارضة بعد هتافات الساحات العفوية في تشكيل المجالس الانتقالية للبحث عن الحلول مما قد يفقد ساحات التغيير وحدتها وتماسكها كونها تميزت بمظهر تشكيلها التمثيلي بالشمولية انطلاقاً من:


1- التوجه الذي وقع فيه المشترك ويسعى الآن لتشكيل مجلس وطني بدلاً من الانتقالي والعلة فيه هي نسب، التمثيل اللاواقعية بدون مراعاة نسب التمثيل بين المكونات الاجتماعية والسياسية المختلفة في المجتمع وأخذت الشمولية تجرف نظرة وتفكير المشترك، حيث اخذ النسبة الكبرى لصالحه وهمش فيه قطاعات واسعة من المجتمع كما هي صعدة وبعض المحافظات والائتلافات وهمش الحراك في مشروع المجلس الانتقالي إلى نسبة لا تعطيه حقه في عدالة التمثيل والمشترك في هذه الحالة ينطلق من سلوكه التقليدي الموروث عن تاريخه السياسي. معتبراً ان الأساس في هذه العملية هو تنظيم وإدارة العملية السياسية للتغيير ليس أكثر من ذلك، وبنفس الفكرة التي يستحوذ فيها حزب الإصلاح في قيادة وتنظيم ساحات التغيير والهيمنة الاقصائية في شراكة الآخرين، لقد كان تمثيل الجنوب الذي طحنته لعبة التعميم والوحدوية القدرية الصماء نسبة لا ترقى إلى ما يستحق كما كان حاله مع النظام، وكأنه مجتمع ينتظر الفضل والصدقة من أولئك الذين بيدهم خزائن الملك والقسمة البشرية كي يمنوا عليهم بحقوق المواطنة المختزلة للتعبير عن أنفسهم وكيانهم بلا شراكة ولا مساواة او حقوق إنسانية من اجل العيش والبقاء.


2- الشمولية التي بدرت من شباب الثورة والتغيير في تشكيل مجلس رئاسي انتقالي أعطى فيه النسبة العكسية لصالح التمثيل الجنوبي وكأنه تعويض عن ما أصابهم من تهميش سابق من قبل النظام وفقدان الحقوق بينما هو تكريس لأخطاء هذا النظرة الجارفة التي أفرزت المشكلات المتتالية في صلب المكونات الاجتماعية والسياسية، بل الأساس هو في الحل العادل الذي لا يعيدنا الى ربق الاختزالات والتهميش والإلغاء، ومصادرة الحقوق لأي كان أفرادا او تجمعات او كيانات مجتمعية بل لتأسيس مبدأ التعامل والتبادل والتعايش بين الناس، ولهذا فالشريك الجنوبي لا يريد أكثر من حق الشراكة ولا يريد القبول بالوصايا على الآخرين.


3- الشمولية في حل قضايا المجتمع هي نزعة متطرفة مخاتلة للحق وبما تهدر الحقوق كونها تبدأ بالتعميم وتنتهي به، وهو ما يقيد حرية الفرد ويصادر حقوقه المتعددة في الحياة، وهذا يتنافى مع المبدأ الحضاري في التعايش مع مستوى العالم وفي داخل المجتمعات البشرية، علماً بان حل القضية الجنوبية تبدأ من أسس المناصفة سواء في تشكيل المجالس الانتقالية او مع بداية اي حوار لحل قضيته، حتى لا يكون تشكيل هذه المجالس التفافاً جديداً واحتواء للقضية الجنوبية وسيكون جرحاً أنكى من سابقه لأنكم بنيتم فرضية عدالة التغيير على عدالة حل القضية الجنوبية، وطالما نهجتم الشمولية في الحلول وتهميش تمثيل الجنوب بأقل من النصف، فالوعد يظهر بأنه دغدغة مشاعر وعواطف ليس إلا والحلو لا تتم بالعواطف ولكن بالجدية وبإسقاطها على الواقع.


القضية الجنوبية إفراز طبيعي للشمولية وانعدام التعددية


في القرون الوسطى الأوروبية جرى مصادرة حقوق الناس باسم الدين، وكان رجال الكنيسة بيدهم السلطة الروحية والزمنية (السياسية) وبمقابل منح شخص ما صكوك الغفران فقد نال رضا الله وسيدخل الجنة من أوسع أبوابها، باعتبار سلب الإرادة الحق قضاء وقدر وعد بالجنة مقابل اخذ الحقوق.. وعندما اغتصب معاوية الحكم وخالف الشورى كأصل أساسي لتأصيل الحاكمية في الإسلام، قام فخطب بالناس، إنى قد وليت عليكم وهذا قدركم وليس عليكم إلا السمع والطاعة، بمعنى انه أمر من الله.. هكذا عمموا وأولوا الدين ونسجوه بالشمولية باسم الله والقدر والحتمية التي لا تقبل النقد والجدل.


الوحدة اليمنية لدينها أصابتها عدوى النسق التاريخي الموروث هذا، وظل المسيطر او الحاكم بالتحالف المعهود مع رجال البلاط من الفقهاء غير مستعدين للحياد عن ذلك لارتباط مصالحهم بهذا التأويل مستعدين للحياد عن ذلك لارتباط مصالحهم بهذا التأويل الديني المختلف طالما يغذيه الواقع الاجتماعي المتخلف كذلك، حتى تهيأ للحكام بان ذلك هو الحق وان القدر منحهم مصادرة حقوق الشعب، وظنوا أن الإنسان يخضع للجبر في حياته والقدر يمنعه من استخدام عقله، ولهذا صوروا للناس أن الوحدة فريضة من الله، وأننا جميعاً عبيداً لهم كونهم يمثلون سلطة القدر الإلهي بأنهم ظل الله في الأرض، ويا ليت شعري لو أنهم وعدونا بالجنة واخذوا بعض حقوقنا، حتى يبقى لنا مساحة وجود إنساني في الحياة، بل أنهم اخذوا الأرض وما حملت، والتهموا السماء وما أقلت باسم الوحدة ونسوا قول الله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، ونتمنى عليهم ايضاً لو كانوا أعطونا حق الاختلاف، لان الاختلاف سبب للوحدة، والتعددية مقدمة التوحيد بالله، يا أيها الناس “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” المشكلة في مجتمعنا ونظامه مرسومة بصيغة الأمر والشمولية، ونقلت إلى فهم العامة بأنها دلالة رمزية دينية لا يجوز معارضتها لعدم معرفتهم ببعدها الجوهري القائم على التعدد والاختلاف والتنوع، هذه هي مشكلتنا مع الوحدة اليمنية، ليس هذا فحسب بل تمت المغالاة باسم الدين إلى ان قالوا: ليس هناك شراكة، وبأن الوحدة معطى مسبق لا يجوز الحديث حولها لأنها منزلة من الله، ونتجت الجرأة عن تلك المغالاة إلى إن قالوا أن الجنوب اشتراكي وشيوعي ولا زال هذا المفهوم مترسخاً في عقول الكثيرين من إخواننا، وأكثر من ذلك من علماء البلاط من افتى بإهدار دم الخارجين عن الوحدة او من يحارب باسم الانفصال، مهما كان الحق له، لا اعتراف بخصوصيات ولا تنوع ولا جغرافيا وليس هناك حدود او قيود، المهم في الأمر ان الثلة الحاكمة هي المستفيدة من هذا التكييف القسري للبشر في الإطار الديني وعليه نستنتج الآتي:


– أن الذي يخشى من التعددية هو من يريد التسلط على رقاب الناس فيحتكر الرأي ويقيد السلوك ويتمسح بالشريعة ويتذرع بالحفاظ على الوحدة، وهو يختزل المجتمع بمختلف مكوناته تحت عباءته كأنهم قطيع أغنام في حضيرته.


– عن طريق التعدد والاختلاف يمكن الوصول إلى الوحدة، فالتعددية وسيلة والوحدة غاية، ولكن الإصرار على الشمولية في فرض الوحدة دون أسس ومعايير الحقوق والتعايش فأنها تقهر كل شيء باسم الوحدة ويبقى الإنسان أداة جامدة بيد المتسلطين او دمية ميتة قابلة للتحريك فقط.


– إلى أبناء الجنوب إذا صوروا لكم بان الوحدة قدر فالقدر اكبر هو استعادة الحقوق ولا مكان للظلم بعد اليوم. والله الموفق.


* صالح محمد مسعد (أبو أمجد)


نقلا عن صحيفة الوسط

زر الذهاب إلى الأعلى