أرشيف

الثورة العربية إرهاص بعصر ما بعد الرأسمالية!

مطاع صفدي

كتاب الثورة لا يُغلق دفتيّه أبداً. إنَّ له معجماً متزايداً من المصطلحات والوقائع والدلالات. كل ثورة تطرح الأسئلة القديمة، ولكن بانتظار أجوبة جديدة. والثورة العربية الراهنة البالغة حدودَ العصر الموصوف بعصر نهاية الإستعمار الداخلي، لن تكون حَدَثاً لمجتمع أو لمجموع كيانات دولانية معينة، ولها عنوان الإسم العربي والعالم الثالثي، لن تكون ظاهرة محلّية؛ إن لها مدخلاً خصوصياً إلى نطاق الحدث العالمي. وهو أنها ليست منفصلة عن تحولات عالم ما بعد أزمة الرأسمالية العابرة للقارات.

إنها إرهاص هائل بما ينتظره خبراء الفكر الإستراتيجي الكوني، تحت صيغة الإستجابة السلبية الأولى لزلزال الاقتصاد المالي الذي أنهى إمبراطورية الدولار الأمريكي. إنها ثورة الشعوب على أنظمة السلطان الإمبراطوري المنهار، ما يُعبّر عنه هذه المرة، حقاً وفعلاً، باستنفاد النظام العالمي للسياسة الدولية، كلَّ مناورات الإيديولوجيا المزدوجة للمال والسلطان معاً.

فأن تشرف أمريكا على إفلاس دولتها العظمى، وألا يتبقَّى لها من قوة الاستمرار إلاّ ما تفرضه من ديون خزينتها على بقية الدول الغنية، تفعل ذلك تحت طائلة أكبر عملية ابتزاز لاقتصاد الدول الأخرى، فإما أن تستدين وتترفّه أمريكا على حساب العالم إلى الأبد، وإما أن يُفلس المديون ومعه دائنوه جميعاً. مما يعني أن الرأسمالية أكلت أبناءها، ودُفنت معهم.

لكن الشعوب سوف ترى نفسها أنها هي الضحية المركزية لهذه الحالة العالمية الفريدة في شذوذها. فحين تعجز السياسة الدولية عن مواجهة أخطر مصائرها العظمى بجدِّية الاعتراف بحقائقها دون أساليب المواربة التقليدية لمعلوماتها الحاسمة، في هذه الحالة تَشْرع الشعوب في وضع نفسها خارجَ مصير أنظمتها الحاكمة، وقد تستعيد مبادرةَ الفكر والفعل. هذا لا يعني بالطبع أن شعوب العالم الثالث، وفي المقدمة العرب والإسلام، ستكون هي السبَّاقة لاسترداد المبادرة من حكّامها، فقد يتقدم بعضها بسبب من أعباء الهول الطغياني الذي تعانيه أكثرَ من غيرها، كما هو حادث اليوم لأقطار عربية ثائرة وأخرى منتظرة.

أما الأوربيون فإنهم يتحدثون عن الثورة الشبابية العربية كأنها تحمل تحدّياً لشجاعة شعوبهم المستكينة حتى الآن. بمعنى إنهم يدركون أن شرْط الثورة أصبح ينوفرسالياً (كونياً)، وليس مجرد حالات فردانية لدول دون سواها. وأن الغرب عامة ستكون له ثوراته القادمة لا محالة، ولكن على طريقته المشتقّة من ذخيرة تجاربه الحضارية، (فالطغيان) في نوعه الغربي الذاتي معقّد الأسباب والأساليب والآليات والتشكّلات الظاهرة والباطنة. وقد دأب الفكر الفلسفي على مطاردة خفاياه، وكانت له معارك فضائحه القروسطية ثم النهضوية، ثم الحداثوية؛ وها هو متحفّز من جديد ليخوض ذروة الصراع مع أعقد شبكيات الطغيان المدني، فهو الأصعب والأشمل في حلة (المشروعية المدنية)، من كل أطواره التاريخية السابقة. فالثورة عليه لن تكون أفكارُها ووسائلها إلا من جنس تعقيده بالذات. غير أن فجائية الثورة العربية لم تدهش أهلها فقط؛ ولم ترعب أعداءها وحدهم، بل جاءت بالشهادة شبْه المستحيلة قبلها، على إمكانية كسر الطغيان مهما كانت درجة وحشيته ومسؤوليته اللا إنسانية عن تدميره لحرّيات شعوبه؛ بالمقابل لا ينفك العقل الغربي عن الاحتجاج على لاأخلاقية الرأسمالية. لكنه لم ينتبه إلى المغالطة التي يرتكبها هذا الاحتجاج، كأنه يفترض أن هذه اللاأخلاقية هي من خيار الرأسمالية، وقد يمكنها التخلي عنه وتبني خيار الأخلاقية السليمة، ولكن كيف ومتى.

هذه المغالطة المستمرة والمتنامية عبر مختلف أطوار الحداثة الغربية، لم يحنْ وقت المواجهة الصريحة مع عقلانيتها الزائفة، إلاّ عند بلوغ الرأسمالية ذروة افتضاحها راهنياً. إذ استنفدت الفقاعةُ المالية آخرَ حلولها الوهمية المعتادة لأزماتها المتلاحقة، ما تواجهه مدنية الغرب أخيراً هو تهلهل المعادلات المركبة المصطنعة من التوفيق بين ذهنية الربح المطلق ومبدأ عدالة التوزيع. لم يعد يمكنها التغطية على ثغرات التناقض المتغوِّرة بينهما. ما يُشبه استحالةَ التعايش بين نموذجيْ الرعاية الإنسانية، و(لامشروعية) الاستغلال في المجتمع الواحد للمواطنة الحقيقية؛ إذ يتجدد الحديث عن مصطلح « المواطنة الزائفة » التي هي، بدلاً من توفير شروط الكرامة الموضوعية المكافئة لمفهوم المواطن الحرّ، وذلك بحفظ حقوقه المعاشية في الحد الأدنى، فإن معظم مجتمعات الغرب، المرفهة حتى الأمس القريب، أمست تعيش غالبياتُها في ظلِّ شبح البطالة والعَوَز المادي، إذ يُقذف كلَّ يوم بألوف العاملين سابقاً إلى الأرصفة، بينما ينتظر زملاؤهم الآخرون دورهم. سياسة التقشّف أصبحت هي الحاكمة بأمرها في الدول الأغنى من دول أوروبا. والأقلّ منها وَفْرةً استهلاكية، أمست (سعادتها) من ماضي الأيام السعيدة الزائلة.

الكارثة الاقتصادية المستديمة التي يتحاشى الإعلام تردادها بحروفها، تنتقل إلى مرحلة دفع أثمانها الاجتماعية الباهظة، فالغرب مُقْدِمٌ، شاء أم أبى، على تغيير بنيته الذاتية كلياً، ما يعجّل بتوقع انقلابات جذرية في علاقاته الخارجية، أوروبا باشرت منذ زمن بتنفيذ خطوات حاسمة على طريق الانسحاب مما كان يُسمَّى بقانون هيمنة الغرب على العالم؛ وأمريكا دخلت، في عهد أوباما، مرحلةَ إدارة التصفية العسكرية الهادئة لذلك الشكل الأخير الذي تلبَّس الهيمنة الغربية، والمصطلح عليه باسم إمبراطورية الإنسان الأبيض؛ غير أن مبدأ الانسحاب العسكري، لتوفير أكلافه الهائلة، ينبغي أن يملأ فراغَه نشاطٌ سياسي دبلوماسي من نوع مختلف، لا بد أن يؤمّن تعويضاً عن التسلّط الخارجي شبه العسكري، وذلك باصطناع وكالات محلية، تَخْلُف جيلَ رموزِ التبعية المباشرة المتهلهل.

كأنما، الثوراتُ العربية تستثمر فجوة الانتقال بين نموذجيْ الهيمنة بالتبعية والهيمنة بالوكالة. من هنا تأتي فُجائيتها للعقل الغربي: دفعةً واحدة لم تعد وسائله الطغيانية السابقة نافعةً لا في فهم هذه الثورات ولا في ابتكار سيناريوهات مقاومتها وإجهاضها. إذ حقّقت مداهمتَها قبل استكمال الغرب لعِدّة الشغل، المطلوبة من أجل القفز فوق فجوة النقلة نحو المذهب الجديد، وفيه تتأمل الإمبراطورية العجوز الشروعَ في التعامل مع المجتمعات العربية والإسلامية، بأسلوب استمالة أجيالها الشابة وراء مُثُل الديمقراطية. هنالك القليل من السيناريوهات لتغيير هيمنة الغرب، من فرض التبعية على الأنظمة العربية الحاكمة، إلى أساليب التعامل مع النُخَب الشابّة في المجتمعات المحكومة بتلك الأنظمة البالية؛ وهي المرشحة حالياً، لإعلان انقضاء عضويتها تباعاً من الخارطة السياسية، مع بطلان وظيفتها الممسوخة أخيراً إلى مجرّد آلات مكرّسة للقمع البربري.

هذه السيناريوهات الغربية العتيدة، هي التي لاتزال تراود مخيال العقلية الاستعمارية بهدف تجديد أساليبها، لكن دون مضامينها المعهودة البائسة، وآخرها راهنياً، يصرّ على النظر إلى فتيان الثورة، كأنهم جبلٌ آخر من الأتباع وليس من الشركاء المحتملين، ما عدا أن يصيروا أنداداً مستقلين وسياديين حقاً؛ وذلك هو الاحتمال الأكثر إخافة بالنسبة للتيار التقليدي من كل هجمة استعمارية متحفّزة. فما يُربك هذه الهجمة إزاء (وباء) الثورة المنتشر عبر الصحارى العربية، هو أن هذا الحراك الجماهيري الفتيّ الهائل، إنما يستمد قوته وشرعيته معاً من أشمل وأغنى مثال للإنسانية جمعاء، وهو الحرية. فما بال بعض الغرب المتشدّق بمعايير المدنية، مصنفةً كلَّها تحت أقنوم الكونية والعالمية، يرفض ألا يرى رجالاً شجعاناً يفدون إلى ملكوت الحرية من غير سلالة البيض الشعر، الأوصياء، بالإكراه والعسف، على منافذها (الحرية) ومراتبها وعروشها.

« لن يكون أحرار الجنس الإنساني شركاءَ لبعضهم قبل أن يكونوا أنداداً إزاء بعضهم. فكيف إن كانوا طيلةَ دهرٍ مظلم دامس من قبْلُ، موزّعين فيما بينهم طبقاتٍ منضّدةً فوق بعضهم، بفعل قانون الغدر المتبادل وحده: ذئبية الإنسان لأخيه الإنسان. إنه النقاش القديم العريق الذي ينقسم إليه العقلُ الغربي، من حَقَبَة معرفية تاريخية إلى أخرى، لكنه في اللحظة الحاضرة، يقع النقاش حول مسألة التغيير المعرفي الجذري في بنية المشروع الثقافي الغربي، تحت وطأة أعظم أزمات البقاء، أو الزوال عبْر مصيره، بدءاً من مركزية الاعتراف بالآخر؛ فالمشاركة معه، لم تَعُدْ ترفاً ثقافوياً أو دعاوياً. ولقد كان دعا فيلسوف الحقّ المبني على الحقيقة كانط منذ أكثر من قرنين، إلى أنه ليس لأمة دون أخرى ما يخصّها وحدها من السياسة. فالسياسة هي الكينونة، وإلا لن يكون بديلها سوى الحرب. لقد حان موعد التاريخ مع » الحكومة العالمية. ولكن الغرب هو الحائل الأكبر دون تحقق هذا الوعد بالخلاص الحقيقي لقبائل الإنسان، ما فوق جاهليتها المستديمة.

خصوصية الثورة العربية أن لها المرجعية الأشمل كونياً من بين أهداف المدنية، وهي الحرية. في حين ان الغرب لا يزال يُعاني من مشكلة أنه لا يمكنه أن يرى الحرية إلا من خلال الإيديولوجيا. ولذلك خاض ويخوض صراع الأيديولوجيات، ناسياً متناسياً الحرّية ما وراء عواصف الألفاظ والمصالح. وقد جاءت الثورة العربية بالبرهان القاطع أن الحرية وحدَها قادرة على إحداث الصدع في الأسوار المغلقة. إنها القوة الفاعلة بذاتها بدون واسطة الإيديولوجيا أو سواها، بينها وبين هدف التغيير.

الأمر الذي ينبّه بعض الفكر الأوروبي النزيه إلى تغليب مبدأ المشاركة على مناورة التبعيات بالعسف والإكراه.. هل يمكن لـ (أحرار) الغرب ألا ينظروا إلى شجعان الثورة، إلا أنهم أنداد سياديون، حتى يكونوا شركاء جميعاً ضد أعداء الحرية في كل من جناحيْ البحيرة المتوسطية..

أو ان إفلاس الرأسمالية الغربية سوف يعلن عن إفلاس الفكر الغربي كذلك، من آخر آماله في استعادة بناء الحق على الحقيقة، وذلك عندما سيتعامل مع الحرية ما فوق حطام كل إيديولوجيا، تفرّخها الرأسمالية كخط دفاع أخير عن مقتلها المحتوم.

 

« مفكر عربي مقيم في باريس

——————————————-

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى