أرشيف

خريف “الربيع العربي”

يعتبر الدين الإسلامي دين الأغلبية الساحقة من سكان البلدان العربية. وبما أن اٍلاسلام يحمل في طياته أحكام الشريعة، التي تنظم كافة مناحي الحياة، فمن الطبيعي أن يصبح راية للحركات الجماهيرية. وفضلا عن ذلك، فإن ما تعرض له الإسلام السياسي على مر عقود من قمع وملاحقة على أيدي السلطات العلمانية اسمياً، ساهم في جعله مركز جذب للميول المعارضة. وعلى سبيل المثال ، اكتسبت جماعة “الإخوان المسلمين” التي كانت محظورة في مصر، احتراماً كبيراً بين الطبقات الفقيرة والمعدمة، وذلك بفضل نشاطاتها الخيرية وبرنامج المساعدة الاجتماعية الذي كانت تقدمها في المساجد.


كل ذلك جعل الجماعة تمتلك شبكة من المنظمات القاعدية التي ساعدتها في تعبئة شرائح واسعة من السكان في الانتخابات. لقد تمكنت الموجة الإسلامية العاتية من ازاحة الطليعة الصغيرة نسبياً من الشباب العلماني، وأدت في النهاية إلى سقوط الأنظمة في تونس، وليبيا، ومصر.

وفي سورية التي تتصدى لنظام البعث وأسرة الأسد الحاكمة، يعتمد جزء كبير من الجماعات المعارضة على الحركات الإسلامية المنتشرة في الوسط السني من السكان. وفي هذا البلد أيضاً، يبدو أن الإسلاميين سيلعبون دوراً كبيراً في تركيبة الحكم المستقبلية.

وكان للسير باتجاه الأسلمة وقع الصدمة في أوساط العلمانيين داخل البلدان العربية وخارجها. ويبدو أن الساسة الغربيين لم يأخذوا العبر من تجربة الجزائر في بداية التسعينات، حين ربح الإسلاميون وقام الجيش بإلغاء نتائج تلك الانتخابات، وحظر الحزب الإسلامي، ولا من تجربة السلطة الفلسطينية حين اكتسحت حركة حماس الإسلامية نتائج انتخابات 2006. إن الحملة المناهضة للإسلام التي شنت بإيعاز من واشنطن بحجة محاربة الإرهاب الدولي، ساهمت في التسريع بسقوط الأنظمة المكروهة.

وفيما يخص روسيا، كانت علاقتها بالربيع العربي غامضة. فمن جهة، كان يخيفها عدم الوضوح، وعدم التيقن من الوضع، واحتدام الأهواء في الخطابات الجماهيرية. كما أن المضمون الإسلامي للثورات العربية يرتبط لا إرادياً لدى روسيا بعمليات مكافحة الإرهاب والتطرف في منطقة شمال القوقاز. ومن جهة أخرى تفضل روسيا التعامل مع الأنظمة المستقرة، دون الإلتفات بشكل كبير إلى أوضاعها الداخلية. وليس سراً أن مبعوثاً روسياً خاصاً عبر لحسني مبارك عن دعم بلاده الكامل له، وذلك قبل يوم من تنحيه عن الحكم.

وكان الموقف الروسي تجاه عملية الناتو ضد ليبيا متفاوتاً أيضاً، فلم تعارض عملياً في البداية إغلاق المجال الجوي الليبي، رغم ادراكها أن ذلك يعطي ضوءاً أخضر لضربات حلف الناتو الجوية. وبعدها انتقدت بشدة التدخل العسكري للناتو في ليبيا، الذي تجاوز كثيراً قرار مجلس الأمن، وأدى إلى إطاحة نظام معمر القذافي وقتله بوحشية.

وبعد أن شعرت أنها خدعت في القضية الليبية، اتخذت روسيا موقفاً متصلباً ضد التدخل العسكري الأجنبي في سورية، وفي الوقت نفسه اتسم بالحذر موقفها من الأحداث الدراماتيكية التي تجري هناك. وتدعو روسيا إلى الحل السلمي للنزاع الداخلي في سورية، وإلى الحوار بين السلطة والمعارضة، مع علمها بأن ذلك ليس واقعياً. ومن الواضح أن روسيا لن تتدخل أبداً في النزاع السوري الداخلي، وسوف ترضى عملياً بأية نتيجة تؤول اليها الأوضاع، مع الاحتفاظ بصورة اللاعب الكبير المؤثر في الساحة الدولية.

وبالحديث عن الوطن العربي ككل، لابد من الإشارة إلى أن هذه المنطقة فقدت أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لروسيا بعد انتهاء “الحرب الباردة”. فمع انهيار الاتحاد السوفيتي تقلصت جميع مجالات الشراكة الواسعة بين الطرفين. وفي العقد الأخير فقط بدأت العلاقات مع العالم العربي تستأنف تدريجياً، وإن كان على نطاق ضيق. وعلى سبيل المثال، يقل التبادل التجاري الروسي مع العالم العربي بخمس إلى ست مرات عن التبادل التجاري مع تركيا وإيران، ويبلغ حوالي ثمانية مليارات دولار في السنة. أما الامدادات العسكرية التقليدية، وإن كانت بكميات صغيرة نسبياً، فهي مستمرة باتجاه كل من الجزائر وسورية واليمن والسودان، وليبيا حتى وقت قريب . أما في المستقبل فسوف تنتهج موسكو في هذه المنطقة سياسة تقوم حصراً على أساس براغماتي يستند إلى المنفعة المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للشرق الأوسط.

الكاتب: أندريه ستيبانوف

المصدر : روسيا اليوم

زر الذهاب إلى الأعلى