أرشيف

طارق رمضان: أعمال العنف وآمال التّحرير!

في الوقت الذي تبدو فيه تونس تنتقل شيئًا فشيئًا، وببطء شديد، نحو حالة ملموسة من الديمقراطية (حتى وإن كان الوضع لا يزال رهينَ واقع مليء بالضغوطات والشكوك)، تبدو مصر وسوريا واليمن وليبيا تمر بأزمات عميقة وقد انتشر فيها العنف وعمّ، بنسب متفاوتة، وعلى نطاق واسع. فبعد الثورات الشعبية التي تميزت في أغلبيتها باللاعنف؛ ها قد بدأنا الآن نسمع أصوات الأسلحة تدوي في كل مكان، ونسمع كل يوم عن سقوط جديد للعشرات بل للمئات من الجرحى والقتلى، زيادةً على هذا، أصبح اللون الأسود القاتم والحزن الشديد يخيّمان على المستقبل.

تتميز منطقة الشرق الأوسط بكونها منطقة شديدة التعقيد، تتعدد قضاياه وتتشابك بشكل مذهل: آخر الأخبار تعلن اقتراب هجمة ضد إيران، في الحين الذي شهدت فيه الأسابيع الأخيرة ازديادًا شديدًا لوتيرة وحِدَّة الاتهامات. أصبحت جميع دول المنطقة وحلفائها حول العالم، تعيش في حالة من التأهب القصوى استعدادا للحرب. ومن جانبها لا تكفّ إسرائيل عن التكرار بأن إيران هي أكبر خطر يهدد المنطقة، تتبعها في هذا حليفتها الأولى أمريكا والاتحاد الأوربي الذي قرر مؤخرًا إعلان مقاطعة البترول الإيراني (أخبرونا مؤخرا أن الاحتياط الليبي، الذي بات أخيرًا تحت المراقبة، قد يكون أحد المصادر الرئيسية لتعويض مؤقت للبترول الإيراني). من جانبها ومن جديد، تبذل الولايات المتحدة كل ما في وسعها للحفاظ على مصالحها الحيوية في قلب المأزق المصري (وهذا وفق علاقاتها المؤكدة مع جزء من المؤسسة العسكرية التي مازالت في السلطة). أما روسيا والصين فقد أعلنتا مؤخرا تصديهما لقرار الأمم المتحدة الذي جاء لإدانة العنف الذي يمارسه نظام بشار الأسد ضد المعارضة السورية. المواقف تشتد وتقسو: بين أصحاب القرار القُدامى والجدد في الشرق الأوسط، كما تجلت العديد من الخلافات جراء المصالح المتضاربة لأصحاب النزاع والأطماع. بجانب هذا تبدو تركيا (التي تظل حليفا مهمّا للولايات المتحدة دون أن ننسى أيضًا ومن جديد كيف تحوّل هذا البلد، ومن جديد، إلى قطعة أساسية من رقعة الشطرنج، وكيف يبذل الكثير من المساعي للتقرب من دول الشرق ومن آسيا)، مهتمة للوصول إلى طريق ثالث لحل أزمة الشرق الأوسط. باعتبارها دولة بأغلبية مسلمة، تبدو الحكومة التركية واعية تمامًا بخطورة الانقسام الحاصل بين السنة والشيعة والذي يهدد الوعي العام للمسلم المعاصر.

كنا نتوقع مشاهدة ومعايشة “ربيع عربي” يحمل المنطقة تجاه مستقبل جديد وواعد، مستقبل مليء بالآمال والطموحات الجديدة، مستقبل كفيل بتحقق تحالفات وطنية وإقليمية (بما أن الشعوب تتقاسم هذه الرغبة في الحرية والكرامة والديمقراطية)؛ فإذا بنا نجد أنفسنا أمام بلدان غارقة في مستنقع التناقضات الداخلية والصراعات بين الأشقاء، غارقة في دوامة العنف وقتل الأبرياء. فعلى هامش الانتخابات المصرية، يسعى الجيش المصري، بكل ما أوتي من وسائل، لنشر الريبة والخوف، فهو يعلم جيدًا أن مستقبله بحاجة لمثل هذا الحالة من الفوضى وانعدام الاستقرار. أما عن السلطة السورية فحدث ولا حرج، فقد فصّلت ثوب “الإرهاب” وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تلبسه للمعارضة أمام الرأي العام. وبهذا ومن أجل هذا قامت بتنظيم هجمات عمياء حتى تتمكن فيما بعد من تبرير أعمال القمع الإرهابية الظالمة التي تمارسها. هكذا “يتسلى” النظام السوري وغيره بالتلاعب بعقول الناس وبإعادة سرد سيناريوهات بالية، متكررة وواضحة للعيان. يبقى أن نسأل الآن: في أيّ حالة يمكن إذاً أن نعتبر أن الشرق الأوسط قد تغيّر فعلاً؟ الأكيد بالنسبة لنا في الوقت الراهن أن الحكومات في الشرق الأوسط تتلاعب بالشعوب وبالآمال كما تلاعبت الحكومات الغربية بالكلمات وبالنوايا الإنسانية.

الوضع العام في غاية الخطورة، وإذا كان علينا أن لا نتردد في تحية الشعوب العربية والوقوف إجلالاً لشجاعتها وإصرارها على التغيير، فعلينا اليوم أيضًا أن نحذر الضمائر ضد مخاطر الانقلابات وانحدار الأنظمة التي يبدو أنها في قيد الإنشاء حاليا في المنطقة. لدينا علم أكيد بالويلات التي تسببت فيها الدكتاتوريات، وقد لا ننتظر طويلا حتى نتعرف على مدى نفاق ومدى سخرية واستخفاف “الديمقراطيات القابعة تحت المراقبة” بعقول الناس. تبدو الخصائص الثلاث المميزة لهذه النماذج الجديدة من الأنظمة في غاية الوضوح والجلاء: الهاجس الوطني القومي على حساب السياسات الإقليمية؛ تقدير مبالغ فيه للبنية السياسية على حساب النموذج الاقتصادي وأخيرا دور الجيش وعلاقته بالأمن والاستقرار. سبق وجود هذه النماذج الجديدة للحكم وهي قيد العمل حاليا في الممالك البترولية العربية (باستثناء الإصرار على النموذج الديمقراطي الذي يبدو أنه لا يثير سوى السخرية وعدم مبالاة الجميع) والخريطة الجيوستراتيجية الجديدة التي تُرسم حاليا تتطلب نفس الميكانزمات التي تختفي وراء البيانات الديمقراطية الكبرى.

تُعبّر أعمال العنف التي تعصف بالشرق الأوسط عن مرحلة صعبة ومصيرية فيما يخص مستقبل الشعوب وانعتاقهم من القيود ومن جميع أنواع القمع والطغيان. حتى يومنا هذا لا يمكن أن نتحدث لا عن ربيع ولا عن ثورات، فمنذ بداية الأحداث التي تشهدها المنطقة لم نتوانَ عن قول وتكرار هذا. يجب على الضمائر الشعبية أن تستغل هذه الظروف التاريخية من الأزمة، من العنف ومن التوتر لأجل الاستمرار في النضال ومقاومة التلاعب بها من أيّ طرف كان: سواء من الجيش، أو من القوى السياسية التي تسعى لتقسيمهم. يجب على الشعوب أن تبقى صامدة وأن لا تتنازل عن أي شيء للطغاة (كما في سوريا)، لفلول النظام السابق (كما في مصر)، أو للدول الطامعة وللمؤسسات المالية المتعطشة للأسواق (كما في ليبيا). الوعي الشعبي والتظاهرات المستمرة لن تفيد شيئا إن لم تُصحب برؤية واضحة وإستراتيجية مستقبلية: تحتاج الانتفاضة العربية إلى أهداف إقليمية ودولية واضحة، حتى تتحول إلى ثورة حقيقية. في الوقت الحالي تقوم الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وكذا الصين وروسيا والهند بحماية مصالحها الظاهرة وتلك المتخفية وراء الكواليس، وإذا حدث أن فقد العالم العربي طموحاته وآماله من جراء إخفاق انتفاضته فإن هذه الدول لن تكون في الواقع قد فقدت أدنى شيء من مكاسبها. المشهد العام يبدو اليوم في غاية الكآبة والحزن: تحتاج الثورات العربية إلى ضمير ووعي عربي عميق. في النهاية، قد يكون النصر حليف الشعوب العربية وشجاعة هذه الشعوب إذا ما، وفقط إذا ما استمر النضال وتمسكت هذه الشعوب بحقوقها دون تخاذل أو تنازل.

الحرية لها ثمنها الغالي. والقرار الأخير في تحويل هذا العنف وهذه الشدة إلى تحرير وحرية يعود للشعوب. وفي الحالة المخالفة، سنكتفي بأوقات مريرة نحسب فيها عدد قتلانا في الملعب، بعد مباراة لكرة القدم، أو في إحدى قرانا الصغيرة بعد مجزرة.

كما أن للحرية ثمنها الغالي فإن للكرامة أيضا ثمنها الغالي.

زر الذهاب إلى الأعلى