تعز..عاصمة القلوب الثائرة .. فاروق السامعي

  ليست مجرد مدينة بل هي روح ثائرة وقلب نابض بالحياة وبالحب..سكنتها المدنية قبل أن تمشط خجلها وتسرح حنانها على كل الربوع..تعز ليست مجرد رقعة جغرافيا وبشر قاطنون أنها عالم كامل وخليط متجانس من العواطف البينية..عاصمة الثورات وربيع العواصم..تسكننا أكثر مما نسكنها ، وتسافر فينا تمماً مثل أروحنا المحلقة ، عصيةٌ على الخضوع والموت ، وترفض العبودية والرق السياسي ، أنها عاصمة القلوب الثائرة تسكنك وإن لم تكن تسكنها ، وتحبها وإن قست عليك ، إذا ذكرت أمامك تشعر بخِدرٍ مقدس يسري فيك ويهزك بحب ، هي ليست مدينة بل قلب تنبض بالحياة وحواس لا يحدها جسد ، ومكان جغرافي تمرد على الخارطة .

 

 

في قالبها ذوبت الهويات المناطقية ، واستأصلت جذور العصبيات غير المبررة ، وكانت السباقة في انسنة العلائق وتوثيق عرى التعايش البيني ، إذا قلت مدينة عنيتها ، وإن قلت تمدن قصدت أهلها ، وإن قلت مدنية كانت الصفة وأهلها الموصوف .

 

 

تعز.. تنتصر على القتلة

 

 

_قبل أن تصوب رصاصك نحو رأسي أو صدري امنحني فرصة أخيرة لسجدتين لله وقبلة لهذا التراب ثم بعدها أسلمك صدري العاري بكل طواعية ودون خوف.

 

 

بمثل هذه الصورة الناطقة واجه ثوار تعز جنود الأمن وبلاطجة العصابات الحاكمة بكل تلقائية ودون خوف.

 

 

مشهد تكرر مئات المرات خلال المسيرات السلمية الحاشدة التي شهدتها مدينة تعز طوال عام منصرم وسقط خلالها مئات الشهداء وآلاف الجرحى بمختلف أنواع النيران برسم حصاد إرادتهم وإرادة شعب أنتفض على سجانه وخرج من قمقمه المسجون به منذ عقود.

 

 

كان يومها "صالح" يشكر تعز بطريقته وبطريقة من اختارهم لتمثيلها ، ويفتح بالنار صدرها تكريماً لدورها التاريخي في صناعة الثورات اليمنية ورد جميل منه ومنهم لها في كونها عرفت الناس عليهم وقدمتهم لتلك المناصب قبل أن يحصد أبناءها الموت على أيديهم.

 

 

في تعز يتقدم عشرات من المتظاهرين المسيرات السلمية نصف عراة كتعبير راقِ عن سلميتها ويعبرون عن ذلك على واجهات صدورهم وعن استعدادهم للموت في مقابل حياة الثورة واستمراريتها في السير السلمي نحو هدفها في إزالة نظام العصابات القائم وترحيل الحاكم.

 

 

هنا على ما يبدو النظام انتقم من كل شيء، وتعرى من جانبه الإنساني ووظيفته في حماية أرواح الناس بلا خجل، حتى وهو يعيش لحظات الاحتضار الأخيرة والنهاية المذلة التي لم يكن يتوقعها أو يحسب لها إلا أنه ماضٍ في تنفيذ مشروع الإنتقام من المدينة التي صنعته.

 

 

عامٌ حافلٌ بالدم نفذته الأجهزة الأمنية وعصاباتهاعلى أكمل وجه ، أتقن فيه خبراء القنص المحليين دورهم بحرفنة دموية متعطشة للمزيد ، وهنا كان العقاب جماعياً بسبب مواقف هذه المحافظة من القضايا الوطنية وتصدرها ثورة 11 فبراير الشعبية ضد “صالح” ونظامه.

 

 

تعز… روائح الغازات السامة والباروت حلت محل روائح الأزاب والريحان والكاذي، وغطت سحب الدخان المتصاعدة _من كثافة ما يلقى عليها من الذخائر والقنابل المسيلة للدموع_ الأجواء ، كانت الأرصفة مبتلة بالمياه التي أهدرتها الخراطيم الحارة والباردة رغم عطش المدينة القاتل، وأصوات النيران لا يكاد يتوقف حتى يعود للعلعة من جديد.

 

 

الرصاص هنا أصاب كل شيء الرؤوس والصدور العارية ، جردت الفوهات المفتوحة عليها من كل الجهات الأمن والأمان الذي تميزت به وأصبحت القوالب الخرسانية والقلوب مثقوبة ، ولم تسلم جدران المنازل التي رفضت

 

 

تسليم أسطحها للقناصة عقاباً لعدم مساهمتها في وليمة القتل المنظم ، ورميت بلكونات الشقق التي قدمت للمعتصمين البصل للتغلب على الاختناقات أثناء الاعتداء عليهم أو ألقت عليهم قصاصات الورق الملونة والورود والماء البارد بالقنابل المسيلة للدموع واخترقت الرصاص أبواب المحال المغلقة والمفتوحة كتعبير للمكانة المتميزة لمحافظة تعز في حسابات “صالح”.

 

 

عاصمة الرسوليين وعاصمة المملكة المتوكلية إبان عهد الإمام أحمد، والمدينة الحالمة يمكن أن تسمى الآن المدينة المحروقة أو عاصمة الشهداء.

 

 

لغة القنص وارتكاب المجازر لم ترهب سلمية الصدور العارية، ولم يستطع الرصاص الحي النيل من صمودهم وسعيهم في صناعة حياة كريمة ولو بالموت شهداء.

 

 

فائض العنف لم يحجم اتساع مساحة الحرية التي وصل روحها إلى بقية المدن والمحافظات وهو ما دفع بأجهزة النظام الأمنية إلى الجنون ودفعهم إلى محاولة قتل منبعها بكل الوسائل.

 

 

وعلى رغم قدوم “صالح” إلى الحكم كان انطلاقاً من هذه المحافظة التي كانت تعرف بالمدنية والازدهار الحضاري حينها قبل أن تتحول خلال فترة عهده إلى قرية كبيرة مهملة تتصدر دون منافس قائمة المحافظات الطاردة للسكان فيما يتصدر أبناؤها قوائم الفقر والبطالة وتراجعت فيها نسب التعليم بشكل مخيف.

 

 

ثلاثة أعوام “1975 – 1978م” أخيرة ولاحقة لصالح في تعز بعد قرار الرئيس الحمدي تعيينه قائداً لها كانت كفيلة بصناعة اسم ومجدٍ لم يكن ينتظره أو يحسب له وهو الجندي الذي عزله باب المندب لسنوات عن أبواب كثيرة ممكنة.

 

إلى جانب تعز “صالح” خدمه الحظ كثيراً قبل أن يتخلى عنه تماماً مع اندلاع ثورة فبراير للشباب، فبعد أن صعد إلى كرسي السلطة عام 1978م بعد تهديده مجلس الشعب التأسيسي بإعلان الجيش حالة الطوارئ من طرف واحد إذا لم يوافق المجلس على تزكيته للمنصب الشاغر ، ولكن سلاح الطوارئ الذي استخدمه بعد أكثر من ثلاثة عقود لم يكن فاعلاً هذه المرة وفشل في إيقاف وكبح ثورة الشعب السلمية المنادية بتنحيه الفوري عن الحكم.

 

وكما كانت تعز صاحبة الفضل الأول في صعود “صالح” إلى سدة الحكم قبل أكثر من ثلاثة عقود بعيداً عن كيفية حدوث ذلك فإنها أيضاً كانت صاحبة السبق في الخروج عليه ومطالبته بالتنحي الفوري والرحيل عشية الـ 11 من فبراير وتدشين الاعتصامات السلمية المناوئة له ولنظامه وقدمت في سبيل ذلك عدداً كبيراً من الشهداء الذين أريقت دماؤهم في محافظات يمنية مختلفة.

زر الذهاب إلى الأعلى