العرض في الرئيسةتحليلات

مصر بين حماية الأمن القومي والأمن الداخلي .. هل ستتفهم التحدي الوجودي وتعمل في ضوء ذلك..؟ هل موقفها في اليمن يصب في مصلحة حماية قناة السويس ومحاربة الإرهاب..؟

يمنات

عبد الوهاب الشرفي

[email protected]

تماما كما هناك نظام عالمي قطباه الولايات المتحدة و روسيا هناك نظام عربي قطباه المملكة العربية السعودية و جمهورية مصر العربية، و بالإمكان وضع مصر في النظام العربي في موضع روسيا في النظام العالمي.

مرت روسيا بظروف صعبة أمنيا و اقتصاديا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، و كانت قد سلمت في البداية بهذه النتيجة و صرفت اهتمامها لمعضلاتها الداخلية، و كان أبرزها محاربة الإرهاب الذي كان يضرب داخل المدن الروسية بإتباع سياسات أمنية داخلية، و كذلك محاولة معالجة مشكلاتها الاقتصادية بتوجهات اقتصادية بحتة، لكنها سرعان ما اكتشفت عدم جدوى هذا التوجه و أن أمنها القومي ليس مسألة تعزيز الأمن في الداخل و البحث عن مخارج للمعضلات الاقتصادية التي تتهددها وحسب.

ذات الحال تقريبا هو ما تعيشه مصر اليوم فلديها مشاكل داخلية أبرزها هي أبرز المشكلات التي واجهت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تقريبا و هي الإرهاب و الاقتصاد، و تواجهها مصر بنفس الأسلوب الذي كانت تواجهها به روسيا في البداية وهو انكفاء الدور المصري إلى الداخل لتعزيز الأمن و لإيجاد مخارج للمعضلات الاقتصادية، و يبدو أن مصر لم تتفهم عدم جدوى ذلك بعد، فالمشكلات تتفاقم و التحديات ترتفع و الحلول تغوص في الرمال.

تجربة روسيا أوصلتها لقناعة أن انكفاء الدور الروسي نحو الداخل لا يجدي فلا الأمن تحقق و لا المعضلات الاقتصادية حلت بل إن هذه المشكلات تفاقمت و تعقدت أكثر و لتقتنع أخيرا أن الضرر الأكبر عليها ناتج عن تراجع دورها في نظامها العالمي بدرجة رئيسية، وأن حل مشكلاتها الداخلية لن يتم الا باستعادتها لحضورها العالمي اولا وهو ما عملت عليه بخطوات محسوبة مكنتها حتى الان من النجاح بقدر كبير.

مصر لازالت خارج هذا التفهم و لا تفكر في أن تخليها عن دورها في النظام العربي هو الضرر الأكبر عليها و أنها تترك فراغا “يتنطط” فيه غيرها عربا و غير عرب بشكل ينعكس عليها بشكل مباشر. و لم تقتنع بأنها لن تتمكن من حل مشكلاتها الداخلية و في مقدمتها الإرهاب و الاقتصاد مالم تستعيد حضورها في نظامها العربي بما ينسجم مع وضعها الطبيعي.

تحديات كبيرة تواجهها مصر و هي تحديات ذات أبعاد لأمنها القومي بالدرجة الاولى، فالإرهاب مثلا يضرب في الداخل المصري من وقت لآخر لكنه ليس موجودا في الداخل وحسب و ليس مستقلا عن ما هو موجود في الخارج، فالإرهاب موجود في محيطها كسوريا و ليبيا و هو موجود في أماكن أخرى في الوطن العربي كالعراق و اليمن، و الإرهاب ليس جريمة جنائية و حسب يمكن مواجهته بإجراءات أمنية و ترتيبات حماية في الحدود و في بعض الجوار و إنما هو جريمة سياسية و أداة لفرض تغيرات سياسية تستخدمه أكثر من دولة لفرض أجنداتها السياسية في أماكن مختلفة من العالم و يأتي العالم العربي في مقدمة المناطق المستهدفة باستخدام الارهاب و مصر تنال نصيبها من هذا الاستهداف.

و من هنا فمواجهة الإرهاب بفعالية تتطلب أن يكون لمصر حضور في مواجهة هذا الخطر ضمن مجاله الأمني والسياسي بالكامل، و هذا الوجود ضمن مجال الإرهاب السياسي و الأمني يعني أن يكون لمصر مواقفها من مختلف الأحداث في العديد من الدول و الدول العربية منها بالدرجة الاولى، و أن تكون مواقف مصر تجاه هذه الأحداث  نابعة من موقف مصر تجاه الخطر الذي يتهددها و ليس من ما ستجنيه من بعض الدول من منافع مقابل المواربة أو الغياب عن مواجهته ضمن مجاله أينما وجد، و بمعنى أخر لا يجب أن يكون موقف مصر من الأحداث التي تدور في الدول العربية منطلقا من المنافع الاقتصادية التي يمكن ان تحققها تبعا لتحديد موقفها من تلك الأحداث و إنما يجب أن ينطلق من مصلحة أمن مصر القومي، فما يهددها في الداخل يجب أن تتعامل معه تهديدا لها أينما وجد في نظامها العربي و أن تكون معنية به كأنه يتواجد داخل أراضيها بنفس الجدية و بنفس القوة و بنفس عدم المواربة.

تحتاج مصر أن تستعيد حضورها في النظام العربي وأن تملأ الفراغ الذي تعبث فيه دول أخرى و بعضها لا مجال لمقارنته بمصر عمقا و تاريخا و أثرا و مقدرات و هذا العبث يرتد بدوره  على مصر شأت ام أبت، احتاطت داخليا ام لم تحتط، و دون أن تتفهم مصر هذا الأمر و تحدد دورها في النظام العربي  كما يجب ستزداد غرقا في مشكلاتها الداخلية و اختناقا بتحدياتها الوجودية.

التشخيص الخاطئ للمشكلات التي تعتمل في الداخل و التصميم الخاطئ لأساليب مواجه تلك المشكلات بدور داخلي و اقتصار الحضور الخارجي على تحقيق منافع اقتصادية او أمنية يجعل كل ما يتحقق عرضة للضياع نتيجة لعدم الحضور بالمستوى الطبيعي  في النظام  العربي، فالحضور بالمستوى الطبيعي المتناسب مع الحجم هو الذي من خلاله تستطيع مصر حماية مصالحها و ليس الحصول على القروض أو الإعانات أو جلب استثمارات او إيجاد فرص اغتراب أو ترويج سياحي و نحو ذلك و لسبب بسيط هو أنه دون مفهوم حماية الأمن القومي لن تكون مصر بيئة صالحة للاستفادة و التنمية لكل ما تحققه في ظل سياسة الانكفاء نحو الداخل.

تمسك مصر بحقها كأحد أقطاب النظام العربي و ملئها للفراغ الذي تركه انكفائها عن هذا النظام انطلاقا من مفهوم أمن قومي و ليس من مفهوم تحقيق منافع اقتصادية هو السبيل الوحيد لنجاة مصر و لإيقاف غرقها في مشكلاتها أكثر فأكثر، فهذا الحضور هو الذي ستتمكن مصر من خلاله أن تحمي نفسها مما يتهددها في كل مجالها العربي و ليس مواجه ما يصلها منه الى داخلها دفقة بعد دفقة و هكذا،  كما ستتمكن من إعادة ترتيب مصر كبيئة قابلة للاستقرار و تنمية مقدراتها الجاهزة فضلا عن المنافع التي ستضيفها عليها و بدون أن يصاحب ذلك لي ذراع أو ضرب لمصر كدور و تاريخ و مقدرات و عمق حضاري وحيوي.

لا تحتاج مصر بدرجة رئيسية لقرض من هنا أو إعانة من هناك كقضية مستقلة  و إنما تحتاج لرؤية واضحة و كاملة لمفهوم أمن مصر القومي، رؤية في ضوئها تعيد صياغة مواقفها تجاه مختلف الأحداث التي يشهدها الوطن العربي من موقعها كجمهورية مصر العربية قطب العالم العربي الأول وليس من استرضاء دولة ما أو التسهيل لمنفعة اقتصادية ما، و ما يجب أن تتخذه مصر تجاه مشكلاتها في الداخل هو ذات الموقف الذي يجب أن تتخذه من ذات المشكلة اينما وجدت في أي مكان في الوطن العربي، فحرب الإرهاب مثلا التي تمثل لمصر أولوية في الداخل يجب أن تحكم مواقفها تجاهه في سوريا و ليبيا و العراق واليمن و تونس و أي دولة عربية  أخرى ذات الاولوية، فتصوغ مواقفها السياسية والأمنية و الدبلوماسية تجاه أي حدث في هذه الدول باعتبار أولوية محاربة الارهاب بعيدا عن موقف أي دولة أخرى منه و بعيدا عن استدرار المصالح الاقتصادية بمواربة موقفها تجاه الأحداث أو الغياب عنها أو التماهي مع الخلط بين الإرهاب و بين القضايا السياسية الاخرى فموقفها من الإرهاب هو الذي يجب أن يحكم مواقفها السياسية وليس العكس.

ما تشهده اليمن من أحداث توجد فيه مصر بدور مساير بدرجة رئيسية و ليس له بوضعه الحالي القدرة على التأثير في اتجاهات الحدث في اليمن و لا التحكم في تطوراته مطلقا لأن وجود مصر هو وجود محسوب انطلاقا من نظرة  انكفائية و استرضائية مع أن الحدث في اليمن هو مما يمس أمن مصر القومي مباشرة.

فماذا لو تطورت الأحداث في اليمن و أدت الى إغلاق باب المندب او التأثير على الملاحة في البحر الاحمر..؟ ماذا عن سيطرة دول أخرى – بينها منافسة و بينها من يحمل أجندات ضارة – على الجزر اليمنية..؟ ألا يعني ذلك إغلاق قناة السويس أو التأثير سلبا على حجم النشاط  فيها..؟ و ما اثر ذلك على الاقتصاد المصري..؟ هل ينفع مصر حينها مجاملة دول التحالف و تخليها عن حقها في الحضور المحوري في اتخاذ القرار فيما يتعلق بالحدث في اليمن..؟ هل موقف مصر في اليمن يصب في مصلحة حماية قناة السويس و مصلحة محاربة الإرهاب و غيرها من متطلبات أمنها القومي أم العكس..؟ هل دورها في اليمن يمكنها من التحكم في تطورات الملف اليمني بشكل لا يضرها و هل تمتلك القدرة على “فرملة” الحدث عندما تقرر أن أمنها القومي يتطلب ذلك..؟ هل من المقبول و من الصالح لجمهورية مصر العربية أحد أهم أقطاب النظام العربي أن يكون دورها في اليمن مثل دور البحرين و دون دور قطر و السودان..؟ (بعيدا عن مسألة سلامة دورها الحالي من عدمه و انما من ناحية الحضور فقط).

ذات الشيء  في سوريا، أليس ما يحدث في سوريا شأن يمس أمن مصر القومي بصورة مباشرة..؟ ألا يمثل العدد الكبير من العناصر الإرهابية في سوريا و عمل بعض الدول على الدفع بإعداد إضافية إليها تهديدا مباشرا لأمن مصر..؟ ماذا لو تمكن الارهاب من القضاء على النظام السوري و بسط سيطرته في كل سوريا أو في بعضها..؟ أليست مصر هي أحد الأهداف الحالية للإرهاب و أحد أول الأهداف المحتملة لزخم الإرهاب إذا صلب عوده في سوريا..؟ الا يمثل هذا الوضع الحاصل في سوريا عمقا جيوسياسيا للإرهاب الذي يضرب داخل مصر حاليا..؟ هل حضورها في الملف السوري متوائم مع الأخطار التي تواجهها مصر حاليا فضلا  عن توائمه مع وضعها كأحد أهم أقطاب النظام العربي و اعتنائها المباشر بما يعتمل فيه من أحداث و فضلا عن توائمه مع احتمالات تطور الاحداث في سوريا ايضا..؟ ذات الشيء في العراق و في ليبيا و مثله تجاه كل الاحداث التي تشهدها دول العالم العربي، هل تتفهم مصر أثر غيابها أو مواربتها أو عدم ثبات سياساتها تجاه ملفات الوطن العربي..؟ هل تتفهم أن هذا الأمر هو السبب الأهم في تهديد أمن مصر داخليا من قبل دول ليس لها نصف ولا ربع ولا ثمن أهمية مصر في النظام العربي و انه السبب الأهم في تصاعد التحديات التي تواجهها وقد تصل لخنقها كلية..؟ كل هذه الاسئلة و غيرها يجب أن تواجهها جمهورية مصر العربية بصراحة و بشجاعة و أن تدرك أن لا حل لمشكلاتها الداخلية مالم تنهض بهمة عالية لاستعادة حضورها في نظامها العربي و أن تضع لنفسها مفهوم لأمنها القومي و تحدد دورها في الوطن العربي انطلاقا منه، و أن تعيد صياغة مواقفها بما يتناسب مع رعاية مصالحها و ليس استجدا أو استراق مصالحها أو الاحتيال للوصول لها او “تركها للأقدار” او الانتظار لحين تعرضها للأخطار مباشرة.

بالنسبة لقطب العالم العربي الأول ليست المسألة الحصول على قرض أو خلق فرص اقتصادية أيا كانت و إنما القضية هي حماية مصر ككيان وسط منطقة باتت تضربها عاصفة هوجاء ستقتلع كل من لا يتفهم قواعد مواجهة العواصف أو لا يعتبر نفسه معنيا بمواجهتها أو يتصور أن بإمكانه أن يتجنب أو “ينخنس” من مواجهتها، فلا الإرهاب ولا العبث بالاقتصاد ظواهر مستقلة و لكنهما و معهما وسائل اخرى كذلك جميعها تستخدم لاستهداف الكيانات العربية كدول و كمجتمعات و كجغرافيا ما يجعل مسألة تحديد مفهوما صحيحا و دقيقا للأمن القومي مسألة ملحة و ضرورية و مصيرية و يجب أن تكون واضحة و جادة  ولا حلول دون ذلك مطلقا، و لا يجب التغافل عن ان هناك من يناسبه الغياب المصري هذا و يبدي في سبيل استمراره تعاونا ودعما مقابل حالة الاعتناء بالأمن القومي هذه لكنه عندما يقدّم صور الدعم المختلفة يتّبع من الأساليب ما يضيع به ما يقدمه لأن هدفه هو عدم الحضور في أي ملف إلا كتابع و ” ديكور” و ثانوي و ليس كمعني و شريك و ندّ، و لا يحضر كتابع إلا من لا يمتلك رؤية لحماية أمنه القومي بينما لا يحضر  كندّ إلا من يمتلكها.

لا أعتقد أن أمر كهذا يغيب عن العقل السياسي المصري الذي هو بطبعة معلم و جبار، و لكن من باب التذكير بأن ما تواجهه مصر ليس خطر أمنيا و اقتصاديا مجردا و إنما  هو خطر قومي لا يمثل الإرهاب و ضرب الاقتصاد فيه إلا وسائل تعمل لنتيجة أوسع تتمثل في ضرب مصر ككيان سياسي حاكم و كمجتمع حيوي رافد و كجغرافيا مسيطرة.

و كلما هو مطلوب لمصر الآن هو خطوتين اولاهما ان تعيد مصر التعرف و شحذ اسلحة الردع التي تتوفر لها عسكريا و امنيا وسياسيا و اقتصاديا و قانونيا لتتمكن من حماية وثوبها و ثانيهما ان تثب لمليء الفراغ الذي خلفته في النظام العربي و تعمل لحماية امنها القومي من خلال اعادة صياغة مواقفها السياسية و ادوارها المختلفة تجاه مختلف ملفات الوطن العربي و سوريا و اليمن والعراق في الطليعة  و لا مجال لمصر العرب إلا ان تتوجه لدور منطلق من مفهوم الأمن القومي المصري يتسم بالواحدية تجاه ما يواجهه من مخاطر في اي مكان كان، و لا مجال لنجاتها إلا أن تعود لمكانتها كقطب العرب الأول.

رئيس مركز الرصد الديمقراطي – اليمن

المصدر: رأي اليوم

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى