أرشيف

تآكل دراماتيكي للنفوذ السعودي في منطقة الشرق الأوسط شهده عام 2008

أكثر من أي وقت مضى شهد عام 2008 تآكلا متسارعا للنفوذ السعودي في المنطقة. فبرغم وفرة المال، قبل انهيار أسعار النفط، فقد سجلت مكانة السعودية الإقليمية ما يكاد يمثل تراجعا ثابتا في معظم القضايا التي كان من المألوف في السابق ان يكون لها فيها صوت مسموع.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فان المصالحة الفلسطينية التي رعتها بما يسمى اتفاق جدة، حققت فشلا ذريعا. وبدلا من ان تواصل الرياض الضغط على أطراف النزاع الداخلي الفلسطيني، فانها فضلت ان تسحب يدها من الموضوع في تعبير استثنائي عن الجزع، تاركة الأمر لليمن تارة، ولمصر تارة اخرى لتجربان حظهما في حله.
ومثلما فشلت اليمن، فشلت مصر أيضا. ولكن الدور “القيادي” السعودي ظل هو الغائب دائما.
وكذلك الحال، بالنسبة لمساعي المصالحة بين الفرقاء اللبنانيين، حيث سرقت قطر المبادرة، وعملت على توفير فرص النجاح لها، بينما ظلت الرياض مشدودة بقيود من حديد لخلافها مع دمشق في هذه المسألة. وفضلت، بجزع مماثل، ان تهمل ما يتطلبه الدور القيادي من ترفعات، لتواصل الطرق على حديد العلاقات السلبية حتى تمكنت من تفكيك روابطها تماما.
ومع ثبات المصالحة اللبنانية التي سمحت بالخروج من المأزق الدستوري بانتخاب قائد الجيش السابق ميشال سليمان، بدا ان السعودية قبلت ابتلاع حقيقة تراجع مكانة حلفائها في لبنان، حتى ان سعد الحريري رئيس تيار المستقبل وجد نفسه مضطرا للقيام بزيارة، ظلت غامضة المعاني، الى المرجع الشيعي في العراق علي السيستاني، ربما ليقول انه يمكن التصالح مع المشروع الطائفي السائد في العراق مثلما يمكن التصالح مع نسخته في لبنان.
وتحاول مصر، ولو من دون توفيق، ان تبدو وكأنها هي حجر الزاوية في معظم اللقاءات والاتصالات المتعلقة بمشاريع السلام في المنطقة. وعلى الرغم من ان المبادرة السعودية للسلام التي طرحت أول مرة في قمة بيروت عام 2002 ظلت تشكل مرجعية تلك اللقاءات والاتصالات، إلا ان “المرجع” ذاته بدا منسحبا، وكأن الأمر لا يعنيه ولا يعني مبادرته.
فالسعودية التي كانت ممرا لقوات الغزو الاميركي، والتي وقفت الى جانب الولايات المتحدة في تدمير هذا البلد واحلال نظام طائفي فيه، “خرجت من المولد بلا حمص”. وفي الواقع، فانها خسرت الكثير من “حمصها” الخاص عندما انحدر الغزو ليتحول الى كارثة اقتصادية للولايات المتحدة، لتضطر السعودية ان تدفع الثمن مرتين، الأولى بتمويل الديون الأميركية التي تراجعت قيمتها مع انهيار قيمة الدولار. والثانية، بتحمل جزء من عواقب الأزمة الاقتصادية الراهنة، ومن بينها انخفاض أسعار النفط.
وحيثما بدا ان إيران تشكل تحديا اقليميا متزايدا، فقد فضلت السعودية التعامل مع هذا التحدي بسياسة غض النظر، تاركة حلفاءها الإقليميين الآخرين تحت رحمة تهديدات مضمرة وصريحة، لم يكن التهديد الإيراني المتكرر باغلاق مضيق هرمز إلا واحدا من وجوهها.
وقد ادى ذلك الى تراجع ملموس في مكانة “الأخ الأكبر” بين دول مجلس التعاون التي ظلت السعودية تحتلها في المنطقة منذ امد طويل. وتزامن ذلك مع تراجع ثقافي مروع. فالسعودية لم تعد تشكل في نظر معظم الخليجيين سوى حقبة ثقافية تزداد ظلما وظلاما كلما فتح واحد من مشايخ الافتاء فمه ليدلي بتصريح.
وبدلا من محاربة الفقر والفساد والتخلف، وبدلا من السعي الى دفع السعودية الى التحرر من ربقة تبعية سياسية واقتصادية ضارة مع الولايات المتحدة، فقد انشغل مشايخ الافتاء في السعودية بمحاربة الفضائيات “التي تنشر المجون والفكاهة وتضييع الوقت بلا فائدة”، وذلك الى جانب الانشغال «عن عمد فيما يبدو» بما هو اقل اهمية بكثير، ومنه تحريم أفلام كارتون “ميكي ماوس”، وخوض مجادلات سفسطائية بشأن ما يمكن للسينما أن تعرضه.

في المقابل، ومثلما تحولت قطر الى مركز جذب دبلوماسي، فقد تحولت الامارات الى مركز جذب ثقافي يتقدم شيئا فشيئا ليكون عاصمة دائمة للثقافة العربية. كما اجتذبت الامارات الكثير من مؤسسات الأعمال والاستثمار الدولية لتضيف الى موقعها الثقافي موقعا اقتصاديا راسخا.
ويوحي الجزع السعودي في التعامل مع قضايا المنطقة بأمرين اثنين على الأقل. الأول، شيخوخة صناع القرار. والثاني، خشيتهم المتزايدة من “فقدان النعمة”.
الشيخوخة لا حل لها إلا بمجيء جيل جديد من أمراء الأسرة الحاكمة. ولكن التراتيبة التي تملي بقاء الأكبر سنا، تبدو وكأنها عقبة كأداء تحول دون تجديد الدماء في المؤسسة السياسية، ومنها مؤسسة الدبلوماسية التي يقودها الأمير سعود الفيصل.
ولا شك في ان الامير الفيصل يعد واحدا من اكثر رجال الدبلوماسية في العالم حنكة وخبرة. إلا أن دلائل الانهاك التي تبدو على دور السعودية الاقليمي، تبدو وكأنها دلائل انهاك شخصية أيضا. ولعله كان من الأولى ان يتم التغلب عليها ببروز دماء وأفكار جديدة لتشد أزر الخبير السعودي الأبرز.
أما الخشية من “فقدان النعمة” فسببها يعود الى إدارك العاهل السعودي للتحديات والضغوط التي تفرضها الولايات المتحدة على اقتصاديات المملكة.
المخاوف الاقتصادية انعكست، في الواقع، بخلا في التمويل والعطاء. فالأدوار التي لا يمكن تعزيز مكانتها بالبذل، لن يمكن الحفاظ عليها إذا ما نُظر اليها على انها هبات ضائعة.
وفي الواقع، فان الولايات المتحدة، ومثلها كل القوى الكبرى، تهب وتستثمر لتوسع اطر منافعها السياسية والاقتصادية، وليس العكس.
وبطبيعة الحال، فان مستقبل أسواق النفط الذي يشكل نحو 80% من عائدات الخزانة هي مصدر المخاوف. ولكن حتى هنا، يبدو ان الشيء الوحيد الذي يحفظ للسعودية مكانتها هو انها ما تزال المنتج الأكبر، بصادرات تصل الى 8 ملايين برميل يوميا.
ولكن، عندما كانت اسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل، تحولت السعودية الى قبلة للساعين الى بيع أسلحة.
ففي 14 يناير/كانون الثاني 2008 قام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي باول زيارة له للسعودية وأجرى مباحثات مع الملك عبد الله بن عبد العزيز توجت بتوقيع مجموعة من اتفاقات التعاون الثنائي في مجال الطاقة.
وأعلن ساركوزي في ختام الزيارة أن الشركات الفرنسية ستوقع عقودا للتعاون المدني والعسكري مع السعودية قيمتها نحو 59 مليار دولار أميركي، مشيدا بما أسماه “الدور الذي تلعبه السعودية لدفع الدول المنتجة للنفط باتجاه الاعتدال”، معتبرا أن سعر المائة دولارا للبرميل هو سعر “مضاربات” وان السعر الحقيقي للنفط هو 70 دولارا للبرميل.
اما اليوم فقد أصبح هذا السعر طموحا بعيد المدى للسعودية، وشيئا يجوز التغاضي عنه بالنسبة للصناعيين السبعة الكبار.
وبعد زيارة الرئيس الفرنسي بيوم واحد حل الرئيس الأميركي جورج بوش ضيفا على الرياض، ليأخذ حصته من عقود التسلح التي يعتقد ان قيمتها بلغت اكثر من 40 مليار دولار.
حرص رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون على استغلال مشاركته في اجتماع جدة الدولي للطاقة في يونيو/حزيران الماضي لحض منتجي ومستهلكي النفط على شفافية أكبر في العرض والطلب على المدى الطويل مقدما عرض بلاده للدول الغنية الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط «أوبك» بتوفير التكنولوجيا الملائمة لزيادة إنتاج النفط في هذه الدول وتكريره.
وحيال ضغوط الأزمة الاقتصادية التي ضيقت الخناق على تجارة الدول الغنية مع الدول الفقيرة، قدم الملك عبد الله مبادرة بإنشاء صندوق لأوبك بقيمة مليار دولار وتخصيص نصف مليار دولار كقروض ميسرة للدول الفقيرة بهدف تمكين الدول النامية لمواجهة تكاليف الطاقة جاءت في إطار مساعي السعودية التي اسهمت في ازالة الهواجس والقلق الذي انتاب بعض الدول باستفادة المملكة من ارتفاع أسعار النفط.
وخلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2008، عاد الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني لزيارة السعودية مرة ثانية لكن هذه المرة مصطحبين ملف الأزمة المالية العالمية الذي كان المحور الأساسي لمباحثاتهما مع العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز وطلب المساعدة بشأن أسعار النفط وللحصول على تمويل لصندوق النقد الدولي كي يساعد الاقتصادات المعرضة للخطر على اجتياز الأزمة الائتمانية.
وأكد براون في الرياض أن للسعودية دورا يعول عليه في إصلاح النظام الاقتصادي العالمي، وسيكون لها “دورا حاسما” خلال قمة مجموعة العشرين التي عقدت في واشنطن منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ولم تفت براون الاشارة إلى أن الدول المنتجة للنفط التي حصلت على أكثر من تريليون دولار من ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة معتبرا انها في موقع يسمح لها بالمشاركة في صندوق النقد الدولي الذي يحتاج إلى “مئات المليارات من الدولارات” لمساعدة الدول التي تواجه خطر انهيار مالي.
ومع النظر اليها في الغرب كتاجر ثري يستطيع ان “يبعزق” امواله ذات اليمين وذات الشمال، حاولت السعودية ان تحد من أثر الأزمة الاقتصادية العالمية على اقتصادها المحلي، ولكن من دون نجاح كبير.
وكان وزير المالية السعودي إبراهيم العساف اكد إن مشروعات التنمية الاقتصادية في السعودية لن تتأثر جراء الأزمة الحالية نظرا لتوفر السيولة الكافية التي تم بناءها خلال الفترة الماضية، قائلا ان إيرادات النفط ستغطي هذه المشاريع، لكنه في الوقت نفسه لم يستعبد حدوث تأثيرات غير مباشرة ومؤقتة.
أما محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي «البنك المركزي» فقد أكد سلامة الاستثمارات الحكومية الخارجية المقدرة بنحو 1.4 تريليون ريال «373 مليار دولار» في نهاية يونيو/حزيران الماضي، وشدد على انه تم اتخاذ الاحترازات والاحتياطيات للمحافظة على متانة وسلامة النظام المصرفي في السعودية.
وتلك لم تكن سوى وعود. اما الواقع، فقد جسدته الميزانية التي أقرها مجلس الوزراء السعودي يوم 22 ديسمبر/كانون الاول الماضي لعام 2009. حيث تم خفض الانفاق بنسبة 6.9% مقارنة بالانفاق الفعلي للعام الحالي مع عجز متوقع قدره 65 مليار ريال «17.3 مليار دولار».

زر الذهاب إلى الأعلى