أرشيف

المكارمة يحتفلون بدون «برهان» لأول مرة ودموعهم تذرف في «الشارق»

في كل عام وعندما تنتهي مناسك الحج في مكة المكرمة في العاشر من ذي الحجة صبيحة يوم عيد الأضحى المبارك يتجمع الحجاج الفاطميون الوافدون إلى مكة المكرمة من كافة بلاد العالم عند أمير لهم ويتم تقسيمهم إلى شطرين، شطر يتم تفويجه إلى مدينة كربلاء في العراق والشطر الآخر يتم تفويجه إلى الحُطيب في منطقة حراز في اليمن، وفيهما يؤدون مناسك أخرى كواجب ديني عليهم.. وبدورنا في صحيفة المستقلة اتجهنا إلى قرية الحطيب لنقل ما يجري هناك.

من الفاطميين إلى المكارمة

حسب قولهم وتعريفهم بأنفسهم أنهم ينحدرون من الدولة الفاطمية بمصر والدولة الصليحية في اليمن بقيادة الملكة أروى بنت أحمد الصليحي التي حكمت اليمن في عام 427هـ وجاء مسمى المكارمة على الفاطميين اليمنيين نسباً للمكرم أحمد بن علي الصليحي وقد انقسمت طائفة الفاطميين في اليمن إلى قسمين قبل أربعمائة عام وأطلق مسمى البهرة على الفصيل الذي أنشق عن المكارمة اليمنيين وتركزت مجموعة البهرة المنشقة على أكثر من عشرين قرية في حراز منها الحُطيب والشارق ولكمة القاضي وبني مرة وغيرها علاوة إلى مجاميع أخرى تعتبر تبعاً لهم في عدن وير?م بينما بقية الفصيل الأصلي للمكارمة في باقي قرى حراز في شرقي حراز وتابعين لهم في منطقة وائلة في صعدة وكذلك فصيل تابع لهم في يريم وأيضاً آل دوكم في همدان وجميعهم يعتبرون فرعاً من الطائفة الإسماعيلية ولا خلاف بينهم من الجانب الفكري والطقوس الدينية إلا أن جماعة البهرة أصبحت تتبع الأمير برهان الدين بينما المكارمة يتبعون أميراً لهم في نجران حيث مازالت بواقي الإسماعيلية من مكارمة اليمن تعيش في أرضها ووطنها نجران متمسكة بفكرها الديني منذ كانت نجران تحت حكم الملكة أروى. والفاطميون من بهرة ومكارمة لا يختلفون كثيراً?مع الجعفرية المعروفة بالأثني عشرية منهم يؤمنون مثلهم بانتظار الإمام الغائب الذي يعتقدون بظهوره سوف يوحد الأمة الإسلامية تحت رايته لكن الفاطميين يعترفون بستة أئمة من أئمة الجعفرية وينكرون ستة أئمة آخرين، تعترف بهم الجعفرية ولهذا سميت بالأثني عشرية لأنها تعترف بالأثنى عشر إماماً، بينما الزيود يختلفون معهم جميعاً في قصة انتظار الإمام الغائب وقد شن الزيود حرباً ضروساً على الفاطميين في اليمن وخاصة في عهد الإمام يحيى، وقضوا على الكثير منهم وانتشرت عنهم حكايات مست شرفهم وأخلاقهم وسلامة فكرهم وما كان من تأجير أراض? الأدارسة التي تقع في نجران وأبها والظهران وسلسلة جبال عسير من قبل الإمام للسعودية إلا من أجل إنهاء قيام أي كيان لهم .

العاصمة المقدسة والمناسك

جماعة البهرة أصبحت أكثر شهرة وأوفر حظاً في الجانب الاقتصادي لأن أغلبية آثار المقدسات المعنوية تقع في أراضيها فقرية الحُطيب عاصمة تلك المقدسات التي شقت الطريق خصيصاً إليها على حساب برهان الدين الأمير الروحي للجماعة لأن القرية تحتضن قبر الداعية الأكبر حاتم بن إبراهيم الحامدي كذلك يقع مسجد هذا الداعية فوق رأس جبل يطل على القرية، يطلق عليه مسجد الحصن والذي يعتبر أحد المزارات الهامة، هذه المناسك الهامة حولت القرية إلى قرية سياحية اقتصادية بنيت فيها الحدائق ورصفت بالأحجار علاوة إلى جمالها الطبيعي الرباني من خص?بة أرضها وكذلك احتوائها على مبانٍ تاريخية تبهر الزائر وتشعره بالقداسة.

وبعد أن وصلنا مدينة مناخة عاصمة حراز شقينا طريقنا إلى قرية الحُطيب وأثناء سيرنا في الطريق شاهدنا مجاميع من الشباب والحقائب فوق أكتافهم يسيرون على أقدامهم في اتجاه القرية كان ذلك في اليوم الرابع من أيام عيد الأضحى المبارك والساعة تشير إلى العاشرة والربع والعاشرة والنصف كنا عند بوابة القرية التي ازدحمت السيارات عند بوابتها واكتظت بالزائرين رغم أنه لم يصل بعد كافة الحجاج المفروض وصولهم إليها.

تعتبر زيارة قبر حاتم الحامدي أول طقوس مناسك الزيارة ويقع قبره داخل قبة كبيرة مطلية باللون الأبيض ولها بابين مرصعين بالفضة اللامعة ويحاط بها سور منخفض الارتفاع وواسع الدوران عليها وساحة كبيرة حولها وأرضيتها بلاط ماعدا مساحة صغيرة تقع في الجانب الشمالي لم تبلط لأن شجرة كبيرة نبتت فيها قبل بناء السور وعادة يجلس تحت ظلها الشيخ عبد الله جرمة سادن القبة في كرسي متواضع ويرتدي زياً أبيضاً بالكامل وأطلق العنان أيضاً للحيته البيضاء التي تدلت إلى صدره فزادته وقاراً، وبين يديه عصاه يتكئ عليها عند سيره.

الضريح الخاص بحاتم الحامدي يقع في قلب القبة مزين بقطعة قماش حرير بلون أخضر والقبة مزينة من الداخل ورائحة العودة تفوح منها، تقبيل القبر والدوران عليه والدعاء والتمسح به أمر تلقائي يقوم به الزائرون بدون أي توجيه والوافدون إليه أغلبيتهم من الهند وقليل من اندونيسيا والنساء محتشمات والرجال يلبسون ملابس بيضاء مفصلة بالطريقة الهندية ويزيد عليها كوفية عربية بيضاء مزينة باللون الذهبي حتى أن أبناء المنطقة من نفس الطائفة تلبس بنفس الطريقة إلا أنها تطيل القميص قليلاً حتى يصبح أشبه بالثوب اليمني ويلاحظ أن أغلبية الزائ?ين لمقدسات حراز يجلبون أطفالهم الصغار معهم من هم في سن العاشرة وأكثر ويتمتع الزائرون بإيمان عميق ورحمة ويتصدقون على بعض المتسولين والذين يصلون إلى القرية وهم ليسوا من البهرة جميعهم نساء يتخذن زاوية معينة يجلسن فيها بانكسار وصمت وبدون أي تلويح بطلب الصدقة ويتم التصدق عليهم بهدوء.

وبعد زيارته ضريح الحامدي على الزائر أن يشق طريقه إلى أسفل الوادي سيراً على الأقدام في طريق تم رصفها خاصة بالمشاة ويتم تزويدها بموانع حديدية ذات شباك في أطرافها من أجل تأمين سير الزائرين وأطفالهم من السقوط وكذلك يتوكأ العجزة عليها وتلك الطريق متعرجة، ولكن بعد تمهيدها أصبحت أسهل رغم كثرة تعرجها وهي تصل الزائر إلى قرية بني مرة والتي تعتبر مرتفعة ولكن قرية الحُطيب أكثر ارتفاعاً منها وهناك ضريحان ضريح يجب على الزائرين زيارته، وهذه القرية قديمة المنشأ أثرية بشكل ملفت من طريقة بناياتها العملاقة من الأحجار وفيها م?جد يقع على حافة الجبل تم بناء سور قديم عليه في حافة الضاحة من الأحجار وعلاوة إلى قلعة صغيرة بشكل عجيب يوحي بمهارة البناء اليمني الفاطمي.

"الشارق" تُبكي الزائرون

قرية الشارق هي من مراسم الزائر وهي تبعد عن قرية الحُطيب بمسافة تصل إلى أربعة كيلو مترات تقريباً وهي تقع في مكان منخفض عن بني مرة والحُطيب وأهمية زيارتها تقع فيها عدد ثلاثة أضرحة لشخصيات دينية عند الطائفة الفاطمية وعند وصولنا إلى قرية الشارق توقفنا أمام قبة ضخمة بيضاء اللون بالكامل وعند بوابتها مساحة مبلطة بالرخام يحيط بها سور منخفض وبوابة حديدية بقدر ارتفاع السور الذي يبلغ ارتفاعه نصف متر وأمام البوابة دكة خرسانية مبلطة توضع فيها أحذية الزائرين وقمنا بولوج تلك البوابة بعد أن نادى علينا أحدهم من غرفة مرتفعة?خاصة بحراس القبة ومراقبة الزائرين بضرورة خلع الأحذية وقد كان شكلي القريب من الهنود عاملاً مساعداً في عدم التنبه لي بأني من غير الطائفة الفاطمية وعند دخولي بوابة القبة برزت أمامي ثلاثة أضرحة الأول ضريح بحجم أكبر مزين بقماش ذي ألوان جذابة تدلت حتى أسفل الضريح العملاق ثم يقع بجانبه أصغر حجماً منه مزين برخام أبيض وعند رأس الضريح قطعة خشبية من العودة، وشاهدت رجلاً هندياً مع زوجته وطفل صغير ورجل يمني يلبس الزي اليمني والجنبية يدوران على القبر وهم يرددون الدعاء ثم يضعون رؤوسهم على خشبة العودة ثم يقبلون الخشبة بحر?رة وخشوع ويملسون بأيديهم القبر، أما القبر الكبير المزين بالقماش الحريري الملون فأنهم يحتضنونه ويقبلونه بحرارة من جميع الاتجاهات حتى فاضت أعينهم بالدموع وأخذوا يرددون الدعاء بصوت يخانقة البكاء وفي الزاوية اليسرى من البوابة كان رجلان يجلسان في الزاوية أحدهما كان يتلوا القرآن والثاني أمامه يضرب صدره بشدة بكلتا يديه ويتنهد بصوت مرتفع ويديه لا تتوقفان أبداً عن ضرب صدره بدون شفقة أو رحمة فكلما ارتفعت يده اليسرى عن صدره هبطت اليمنى بكل قوة وكأن آلة كهربائية تزود يديه بالطاقة، هذا المشهد أهابني وتسمرت قدماي عند ال?وابة حتى أيقن من يراقبون القبة أني وافد غريب عنهم فأقبل سادن القبة إلي وقام بمصافحتي وبطريقة مؤدبة قام بسحبي خارج بوابة القبة وبخلق طلب مني أن أعرفه بنفسي وبعد أن عرفته بأنني صحفي أتطلع إلى المعرفة طرحت عليه مجموعة من الأسئلة طالباً الجواب عليها ولكنهم جميعهم قد تم تحذيرهم من الرد على الصحفيين والخوض في أي نقاش مع أي شخص من خارج الطائفة ولكن وجد سادن قبة منطقة الشارق أنه ملزم بالرد على بعض تلك الأسئلة والتوضيح لي كزائر وأوضح أن القبر الأكبر هو للداعية الأجل الفاطمي حسب نطقه سيدي علي شمس الدين الداعية رقم "?8" للطائفة الفاطمية في اليمن والقبر الذي يليه لسيدي محمد بن إدريس أحد طلاب شمس الدين والقبر الذي يليه هو لسيدي علي بن عبد الله الشيباني أحد أتباع الداعية أما القبور الصغيرة الأخرى والتي كانت مزينة بالرخام فهي مجهولة، ولكن يعتقد بأنهم مقربين بحكم أنهم قبروا بجانب دعاة وأهل علم أما عن البكاء والتبرك والتقبيل والتمسح بتلك القبور وذرف الدموع عندها هي غير ملزمة وإنما من الخشوع وتذكر الآخرة، أما الرجل الذي يضرب على صدره بشدة هو تعبير روحاني عن قهره لمقتل الحسين وتأنيب النفس والهيام في ملكوت الخالق، وأثناء ما كان?يوضح لي ذلك تجمع بعض أبناء المنطقة وعبرت نداءات أصواتهم المعاتبة عن ما يقال عنهم وما يرمون به من تهم وتلفيقات على عباداتهم مؤكدين أن كتابهم القرآن لا خلاف حوله في كامل آياته وسوره وهو نفس القرآن الذي نتلوه وأما أن لهم قرآن آخر فهو افتراء يقال في حقهم وأنهم يوجهون شكواهم إلى الله.

لماذاتأخر برهان الدين

ثم بعد ذلك عرفوني بأحد الشخصيات العلمية لهم كانوا يطلقون عليه لقب دكتور رفض أن يعرفني عن نفسه وقال إنه لم يخول له بأي رد على الصحف ولكن تحت إلحاحي في سؤالي عن أميرهم برهان الدين الذي يغيب عامين عنهم ويصلهم في العام الثالث في مثل هذا الموسم ولكنه غاب ولم يصل كما جرت العادة وهو قد بلغ الثامنة والتسعين من العمر فهل غيابه بسبب مرضه وكبر سنه؟ وهنا اندفع الدكتور بالرد موضحاً أن السلطان الفاطمي برهان الدين حالياً في دولة العراق حيث قام بافتتاح جامع الكوفة التاريخي الذي قام ببنائه سيدنا الإمام علي بن أبي طالب واست?هد في ذلك الجامع والذي يعتبر صرحاً إسلامياً هاماً وقد تم ترميمه وتوسيعه بمبلغ خمسة وأربعون مليون دولار، وأكد أن سلطان الفاطمية يتمتع بصحة جيدة رغم بلوغه الثامنة والتسعين وإن حصل له مكروه لا سمح الله فستكون الولاية من بعده لولده.

والجدير بالإشارة أنهم يؤدون صلاتهم فرادى لأنهم مازالوا في انتظار الإمام الذي ما زال غائباً والذي أغضب قديماً الإمام يحيى الذي كان حاضراً ولكن لم يعترفوا به كزعيم روحي فكفرهم وجر عليهم ويلاً كبيراً.

نجمة في السماء

الحصن يقع فوق قمة جبل عالٍ جداً في طرف قرية الحُطيب وهو يطل على كافة قرى حراز، قمة الجبل لا تتمتع بمساحة كافية والصعود إلى قمتها أمر شاق فما بالك بالبناء فوق تلك القمة وفي زمن يصل إلى ثمانمائة عام من قبل هذا الزمن الذي نعيش فيه، ويتراءى هذا الحصن للزائر كنجمة في السماء، كان الداعية الفاطمي حاتم الحامدي يستخدمه كمسجد ومكان للعبادة والخلوة مع النفس وتدريس طلاب العلم وكان الحامدي منظراً للدولة الصليحية ويخطط لتوحيد الأمة الإسلامية وقيل أن في عهد الدولة الصليحية كانت اليمن موحدة وكانت محافظة عدن تبعاً للعاصمة ?بلة في إب وكانت عموم اليمن بما فيها ظفار،عُمان، نجران ، جيزان وإقليم عسير تبعاً لتلك الدولة.

وتأهبنا للصعود إلى قمة الجبل وإلى باطن الحصن وانطلق الدليل يسير أمامي في الأزقة الخلفية للقرية وأنا أسير خلفه كانت أزقة ضيقة وتصاعدية إلى الأعلى شقتها أقدام الزائرين فأصبحت ذات معالم بادية ولكن لم تبدأ بعد المشقة الحقيقية التي تبدأ من عند السلالم التي بنيت في جدران الجبل وعددها ثلاثمائة سلم لم أتمكن من شقها بدون أن أخذ قسطاً من الراحة فقد توقفت عن الصعود مرتين من أجل الاستراحة وكان هناك آخرون من غير طائفة الفاطميين البهرة يتسلقون معنا السلالم من أجل النزهة ومشاهدة المناظر الخلابة لمنطقة حراز بالكامل من فوق?قمة جبل الحصن حتى النساء من البهرة لم يتم عفوهن من التسلق وبعد جهد تراءت لي البوابة التي تنتصب فوق ضاحة الجبل رصف عقدها من أحجار الجبل نفسه تلك البوابة هي بوابة ولوج سفح الجبل وبعد ذلك عليك أن تسير بضعة أمتار لتصل إلى الحصن والذي هو عبارة عن غرفة صغيرة كانت مسجداً وهي في اتجاه القبلة واستراحة خارجية هي أشبه بالبلكونة بحواجزها من جميع الاتجاهات ومن غربها توجد حفرة كبيرة تم حفرها في صخر الجبل حتى أنها توسعت إلى تحت الغرفة هي عبارة عن سد يحتجز الماء الذي كان يتم استخدامه للوضوء والشرب وكانت المياه فيها عند زي?رتنا لها ومن فوق سفح جبل الحصن شاهدنا القرى التي سبق لنا مشاهدتها وهي معلقة فوقنا قد أصبحت مرمية تحت أقدامنا..

حقاً إنه موقع استراتيجي أشبه بالمواقع العسكرية ذات الحماية من القصف الجوي لكافة قرى حراز.

وعند النزول شاهدنا قرية فيها حصون جميلة وبحكم مشاهدتها من مكان مرتفع وهي تقع فوق سفح جبل شاهدنا أشجار التين الشوكي قد نمت في داخل غرف المنازل وأحواشها.. علمنا بعد ذلك أنها قرية مهجورة تسمى "مشقرة" بالإمكان إعادة ترميمها وتحويلها إلى قرية سياحية أو متحف. وما زالت هناك العديد من المراسم والمناسك المتبقية التي تؤدى من قبل طائفة الفاطميين في كل من صنعاء وهمدان وجبلة وإيضاحات وروايات متعددة سوف نوافيكم بها في أعداد قادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى