أرشيف

لإعالة أسرهم في إجازة الراحة..أطفال يتصيفون التعب

قد تكون العطلة الدراسية لدى بعض التلاميذ منحة لمغادرة جدول الضرب وحصص الطباشيرالجامدة وكراسات النقش على الحجر، وموسما لفردسة الروح وتفكيه الجسد والعقل في منتجعات التسيح الطبيعي والمعرفي و فضاءات المتعة المباحة, لكنها لدى آخرين من نفس الطينة بطاقة احتضار للراحة، وإجازة للمشي بمحاذاة الشمس ومعية أوجاع الرصيف ومخاطر الغسق، وموعد لتشقق القدمين في عناءات اليومية، وتورم الروح بأشواك التعب المبكر, ومطاردات بربر البلدية… فمن عمالة الأطفال ، الى المتاجرة بأرواحهم في نخاسة التهريب ومفارم التسول ، والاعتداءات الج?دية بكافة أصناف ألمها وقبحها يبدو قدر الطفولة في بلاد "السعيدة" متلفا للأعصاب ومزعجا حد تساقط الشعر وانهيار الدماغ .. فأينما يممت فثم طفل يضرم فيك ألسنة الحبر ويمنحك وسام الكتابة عنه بدموع القلب.. قرابة نصف مليون طفل في اليمن ،بحسب إحصائيات رسميه يضطرون للعمل في مجالات شتى من بينها أعمال شاقه ،ويواجه الكثير من هؤلاء الأطفال الذين يعيل غالبيتهم أسرا فقيرة، الكثير من المخاطر أثناء عملهم.

أطفال المدارس ومحرقة الضياع

في مادتنا هذه نقف مع أطفال المدارس الخارجين من يوميات المثابرة ،ومذاكرة الجوع المنزلي وامتحانات الأرق والعرق إلى عطلة هي في قاموس التربية والتعليم ترانزيت تجديد وقود لعبور القادم بنجاح، و في معجم الحياة القاسية تتحول إلى محرقة لا تبتعد كثيرا عن محرقة "خميس مشيط" سوى بفارق المكان والسن.

يعرف خبراء ومختصو الطفولة الدوليون الطفل بأنه رمز للبراءة وأنقى قيم جمال الطبيعة والخلق،لكن وداد طفلة العاشرة صيفا في إحدى جولات الأمانة وهي تبيعك دفاتر النوتة (مذكرات اليومية) لتصيغ تعريفا آخر لطفولة تبدو بائسة تغيب عن ملامحها السعرات الحرارية الموجودة لدى اطفال الفلل , وتنعدم في حياتها الميتة أبجديات الحقوق المعلنة في التشريعات الالهية والاتفاقيات الدولية.

وداد تلميذة الخامس ابتدائي تبكيك حينما تكتشف في حديثها وملكتها ،انها المعيلة الوحيدة لآسرة قوامها أب مريض وأم تشاطرها العناء وطفلان هما دون الخامسة ليس للطفولة في دفاترها الصغيرة وجود بقدر طغيان الشعور بالمسؤولية المتشابكة بين أناملها الخيزران ونياط عروقها الممتدة الى الرأس.

فالعطلة بالنسبة لها منحة لـ"لقاط الزلط وبس" كما تقول فعطلة الراحة لا تعرف عنها شيئا وليس لها بها شأن.

رجوتها في صورة قد لا يعفيني من عدم إحضارها رئيس التحرير لكن رفضها كان شديداً خوفا من "البهذلة" حد تعبيرها البريء , فلم يكن أمامي سوى تلبية رغبتها , والوفاء بوعدي لها بشراء دفتر باعتني إياه بثمن الضعف .

نجاح والجائزة تعب

تكمن مأساة الطفولة في اليمن بكونها ليس للأطفال فيها خيار ، فالحياة الصعبة هي من تختار طفولتهم وبراءاتهم لعذابات من المهد الى اللحد (نزيه) في ربيعه الثاني عشر لم يتمنى قط أن يكون عاملا، فهو يحب اللهو واللعب وأهازيج المرح وحدائق النزهة و"الجعالة" وأدوات التنشئة السليمة، لكن الرياح اتت بما لاتشتهيه نفسه.

التقيته على متن باص خط سيره (الحصبة-بغداد) حينما باغت تفكيري المشمس بصوته النحاسي "هات حسابك" كانت الساعة الواحدة والنصف مساء ونزيه القادم من مدرسة القرية الى المدينة للعمل (محاسب باص) ما زال يتمترس بوجبة الصبوح المبكرة لمصارعة الجوع وترصد ركاب الثلاثين "قرشا".

حينما ألقيت عليه أسئلتي كانت الدهشة تتقاطر من ناصيته وإجاباته المتأخرة كمن يكتم سرا يخشى ان يبوح به فتتلعثم لسانه.

نجح (نزيه) هذا العام وكانت جائزته الانتقال الى قرية اخرى وليس الى الصف السابع بمسافة قدرها ساعة مشيا على الاقدام.. فقريته التي ولد ونشأ فيها ينتهي التعليم في مدرستها الوحيدة عند الصف السادس كما اخبرني، مما يجعل من وجوده في إجازة الراحة عاملا لترويض نفسه على التعب والاستعداد لمسافة الطريق الجديدة بين البيت والمدرسة ، لا يفكر نزيه في استغلال عطلته بتعلم اللغة الانجليزية اوالحاسوب بقدر ما يفكر في التغلب على تعب الطريق الجديد ومساعدة والده الذي يقود باصا لا يملكه، في تراّئب الطفل الصغير أمنية بأن يراه الناس?يكون يوما وقد اصبح ضابط شرطة،ربما للبيئة القبلية التي نشا فيها دور في تشكيل هذه الامنيه المبكرة.

بابتسامة متوردة بالخجل وعدني نزيه بأنه سيصل الى قاعة درس الحصة الأولى قبل وصول المدرس بالركض سريعا والاستيقاظ"فجراً", قال لي ذلك بينما كان والده يراقب حديثنا من المرآة الأمامية في مقدمة الباص بانشراح بانت منه نواجذه.

عصام.. لا عاصم له

لا تحتاج متابعة أحوال الطفولة في اليمن سوى إلى جولة واحده تطلق فيها بصرك في امتداد الشارع الذي تسير فيه فيرتد إليك خاسئا بمتاعب جمة لا طاقة لإحداقك بحملها .

في احد مطاعم شارع 20 يتواجد طفل التاسعة (عصام) يزاحم أنداده من عمال المطعم الكبار في خدمة الزبائن،كان وجوده هناك إعلانا لبدء العطلة الدراسية، ومفتتحا لتحرير ماده عنوانها أطفال المدارس في الصيف.

عصام تلميذ يتمتع بموهبة ذكاء الفطرة وصفاء الذهن , قال لي إن ترتيبه جاء الثاني ضمن الطلاب الناجحين إلى الصف السادس .

عسر الحال وفقر الاسرة دفعاه الى العمل في عاصمة اللجوء المبكر مفارقاً منطقته ريمة وأصدقائه وأسرته, تتمعن فيه فتجد مشروعا كبيرا يستقيم بحجم طفل صغير ، فلديه من الذكاء ما يفوق كثيرا من الغلاظ واصحاب ربطات العنق.

الجامعة حلمه الأساسي يحب الوصول اليها والخروج منها "أي شيء"،فحتى اللحظة ما زال التخصص غائبا عن ذهنه.لكنه في ضفة اخرى لا يعلم ان كان الحظ سيساعده لبلوغ غايته ام لا؟

عصام الذي لم يكن له عاصما من التعب والشقاء في إحدى مطاعم العاصمة السياسية للحكم غير الرشيد يمارس عمله بنشاط الكبار ويتقاضى أجراً قيراً يحتاج إلى ان يعيد صاحب المطعم النظر فيه.

ناوي أبطل الدراسة

في زاوية أخرى وتحديدا في سوق مذبح يتواجد محمد- طفل الثالثة عشرة وأمامه زنابيل العشب الأخضر (قات) يطل بها على مرتادي السوق "الموالعة" من داخل حانوت صغير في وسط السوق المزحوم ساعة الظهيرة. بعد إلحاح وترقب لفرصه سانحة توفرت مساحة حرة لإجراء حديث معه عرفت من خلاله أن لديه أسرة هو واخاه الذي يصغره بعام يعيلانها، والقات هو السلعة الوحيدة التي تحقق لهما كثيرا من الاحتياجات الضرورية.

محمد وأخوه تلميذان لهما حظ من التعليم، لكنهما مع اشتداد الظروف وغلاء الأسعار سربا لي سرا بعزمهما على ترك المدرسة في حالة استمرار قسوة الحياة معهما, الا ان محمد استدرك بأنه سيلجأ إلى الدراسة "منازل"ان استطاع، فالتعليم لديه شيء مهم لا يمكن ان يفرط فيه حد قوله. ودعته وهو يسا لني : "أي حين عاتنزل الجريدة"؟

فقلت له: في منتصف الشهر .

زر الذهاب إلى الأعلى