أرشيف

في أجواء  منزل رئيس سابق .. حلم تحقق في غفلة من الدهر

لو أن المرء وجده نفسه في إحدى غرف ذلك المنزل الصغير في شبه مدينة ثلا، فلن يستطيع تخمين صاحبه، ولن يكون بمقدوره تصديق أنه في منزل رئيس جمهورية سابق، وأي جمهورية؟ إنها اليمن.. وأن هذا الرئيس جاء من منطقة قبلية، حيث القبائل عادة تتعامل مع الدولة والمناصب العامة على أنها فرصة لتكوين الثروات، ومصدر رزق سريع وفاحش.

< وضاح الجليل

يقع منزل المقدم إبراهيم الحمدي على ربوة ترتفع قليلاً عما جوارها من أودية، وتنتصب بتواضع أمام الكتلة الصخرية الهائلة التي تحمل فوقها حصن ثلا الشهير، ولا يبعد المنزل عن الطريق العام سوى عشرات الأمتار، وبرغم ذلك فإن المسافة بينه وتلك الطريق ترابية وغير معبدة، تعبرها السيارة بمشقة، وإذا سقطت الأمطار فإن عليك أن تحاذر وأنت تخطو فيها من انزلاق قدمك، أو تلطخ ثيابك بالوحل.

لم يتم تعبيد المسافة الواقعة بين المنزل والطريق العام، وبرغم أن تلك الطريق تم تعبيدها (سفلتتها) في عهد الحمدي نفسه، إلا أن تلك المسافة بقيت كما هي، تم تعبيد جزء منها بالحجارة لصالح بعض المنازل، ثم توقف الأمر برغم وجود مدرسة هناك ربما كان عليها أن تشفع للمعنيين بإيصال الإسفلت إليها.

المنزل ذاته لا يحمل أي صفات ترفعه إلى مصاف ما فوق المنازل العادية، مبنى صغير من طابقين مبني بالأحجار، ومحاط بسور عادي من الحجارة أيضاً، حجارة الطابق الأول بيضاء ومنحوتة بعناية، بيد أن حجارة الطابق الأعلى بنية اللون ويعود أصلها إلى القرية نفسها، وحكاية ذلك أن الطابق الأول تم بناؤه في غياب الحمدي خارج الوطن، لكنه وبمجرد عودته طالب والدته ببناء الطابق الثاني كما تُبنى منازل بقية أهل القرية، وقد حاولت والدته أن تواصل البناء بنفس الطريقة في غيابه بصنعاء أثناء فترة حكمه، لكنه -بحسب رواية أسرته- وبمجرد علمه أرسل بلدوزراً لدك المنزل، ولم يوقف ذلك إلا تصدي والدته للبلدوزر ووقوفها في سبيله، وتعهدها لابنها بتنفيذ رغبته.

تشير معالم المنزل من الخارج على صحة رواية الأسرة، فإحدى جوانب الطابق الثاني تحمل سمات وملامح وألوان الطابق الأول، بيد أن بقية ملامحه تحمل ملامح المنزل المجاورة، أما الحوش فلا يحتوي على شيء مهم سوى مطبخ منعزل عن البيت، وغرفة صغيرة للحراسة تتسع بالكاد لرجل واحد.

داخل المنزل هو الآخر لا يشير لشيء مهم أو ذي بال، سوى غرف صغيرة بنوافذ لا تسمح بدخول ضوء كافٍ، وجدران مشققة تعلن عن تحذير من الانهيار، وأثاث عادي بينها وسائد محشوة بالتبن ومفارش متواضعة تماماً.

غرفة نوم الحمدي تخلو من سرير، يؤكد ذووه أنها هكذا بقيت منذ تركها آخر مرة كباقي غرف المنزل، لم يتغير فيها شيء، غرفة بسيطة تخلو سوى من فراش، وإلى جوارها غرف أخرى لا تحوي شيئاً، حتى اللصوص الذين اقتحموا المنزل قبل زمن لم يلتفتوا إلى ذلك الأثاث، ويرجح أنهم حاولوا الحصول على وثائق أو مستندات -أي أن غرض السرقة كان سياسياً- بيد أنهم لم يجدوا شيئاً أيضاً.

في دولاب صغير داخل جدار إحدى الغرف تقبع مكتبة الرئيس إبراهيم الحمدي، متواضعة هي أيضاً، لكنها تشير إلى اهتمامات الرجل، كتب في القومية والاشتراكية والسياسة والسلام العالمي، لم أعد أتذكر من أسماء المؤلفين سوى لينين، ثمة أيضاً صور وأجندة وملفات، وأشياء عادية، تحكي بعضاً من سيرة رجلٍ كان يفعل أشياءه العادية بنفسه، وبيديه يقضي جميع تفاصيل حياته، بما في ذلك حلاقة ذقنه، حيث ثمة معجون حلاقة من ماركة لم تعد معروفة الآن، ينتظر في أحد الأرفف، بيد أن المعنيين به لا يطلبون حلاقة، بقدر ما يبحثون عن سيرة كانت عادية جداً، ولم تكن كذلك أيضاً.

قصص كثيرة يحكيها أقاربه عنه تشير كلها إلى إحجامه عن الإثراء، أو السماح لأقاربه بالإثراء من المال العام، وتدلُّ جميعها على بساطته وعدم رغبته في التميز على حساب الآخرين، والأهم من كل ذلك ما قالته شقيقته الكبرى "لو كان العمر امتدَّ به، أو استمر رئيساً ربما حدثت أخطاء أساءت لسمعته، ولم يكن الناس ليحبونه ويتذكرونه كما هو حاصل الآن"، فهل كان إبراهيم الحمدي ضحية نفسه.؟ وهل تسبب بتواضعه وبساطته في التعجيل بمصرعه.؟

من الصعب في بلد كاليمن أن يوجد رئيس نزيه، ليس في الأمر أن لا رجال نزيهون في البلد، ولكن للقضية أبعاد أخرى، فالبنية الاجتماعية للبلد لم تتحرر من القبلية والعشائرية والمناطقية -ولا يبدو أنها ستفعل قريباً، وهذه البنية عادة ما تتعامل مع الدولة على أنها غنيمة وفرصة للثراء والنفوذ، ولأن عاصمة هذا البلد واقعة تحت سطوة هذه البنية، أو تقع ضمن نطاق وجودها وانتشارها، فإن من الصعب إن لم يكن من المستحيل عليها التحرر من أطماعها ونواياها، فهي بنية لم تتحرر بعد من الاعتماد على الحروب أو التقطع أو الخطف والإغارة والنهب وسيلة إنتاج تدرُّ الثروة، ولا يمثل العمل أي اهتمام لها.

هكذا وقع الحمدي في منزلق خطير ربما أنه انتبه إليه ولم يبالِ به، فهذه البينة ستدفع حتماً بالطامعين إليه إما للحصول منه على الامتيازات والثراء، أو في حال عدم تحقق ذلك القضاء على سلطته، واستبدالها بسلطة تقبل بأن تمنحها كل تلك الامتيازات غير العادلة.

يشعر المرء وهو في منزل الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي بكل ما يُمكن أن يملأ عقله بالحيرة والتساؤلات عن تفاصيل حياة رجل لم يقدر حجم الخطر المحدق بحياته، أو أنه قدره ولم يبالِ به، وكيف كان يشعر بتلك الطمأنينة التي صنعها لنفسه ضمن مساحات كبيرة من البساطة وحرية الحركة،.. كيف أمكنه  الاستمتاع بحريته مجرداً من تعقيدات الحراسة والحماية، مفضلاً ذلك على المتعة المعاكسة، وكيف استهوته حياة الريف، ففضل زيارة منزله أسبوعياً وقضاء أوقاتٍ طويلة فيه، مرتبطاً بالعاصمة وأجهزة الدولة التي يديرها عبر جهاز اتصال يستخدم في حالة الطوارئ، بل كيف له وهو رئيس بلد يموج باضطرابات كثيرة، وتدور من حوله عشرات الحراكات التي تستهدفه لما يمثله من عمق استراتيجي لقوى كبيرة، ومحور حركة لقوى أخرى، وحديقة خلفية لجيران لا يعرفون أبعد من مصالحهم.؟

إنها سيرة رجل بحاجة للكثير من السرد، بقدر ما هي مبهرة، فهي حزينة أيضاً، سيرة لم يكن لها أن تكتمل حتى ولو أعيدت ألف مرة، لأنها مضت في تلك الطريق مستفيدة من تفاصيل صغيرة لا تتغير، وحكايات قلَّ أن  تتكرر، ولهذا كان جديراً بها أن تنال احتراماً كبيراً برغم أخطائها، وليس أمام الحالمين إلا تمني تكرارها أو الركون عليها كحلم لا يتحقق إلا في غفلة من الدهر.

صفية الحمدي: الحقيقة ستظهر يوماً ما

أكَّدت صفية الحمدي أن الكثير من تفاصيل اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي ستظهر وتنكشف للناس عند سقوط النظام الحاكم الحالي.

وقالت شقيقة الرئيس الذي رحل قبل ثلاثة عقود في عملية اغتيال غامضة لم تكشف تفاصيلها حتى الآن: " الحقيقة ستظهر يوما ما مهما طال الزمان، الناس يعرفون ما حصل، لكنهم لا يستطيعون الكلام".

واتهمت صفية النظام الحالي بمعاداة فترة حكم شقيقها إبراهيم من خلال طمس ملامح فترة حكمه، ضاربة المثل بتجاوز فترة حكمه عند الحديث عن فترة الحمدي، وكأنها ليست من التاريخ، وتضيف: "بلغ بهم الأمر حتى إزالة أحجار الأساس التي وضعت في عهده".

لم تطالب أسرة الحمدي بتفعيل لجنة التحقيق في قضية اغتياله وتبرر صفية ذلك بقولها: "عندما شاهدنا ما يجري فوضنا أمرنا".

وتحدثت صفية خلال لقائها مع عدد من الصحفيين الذين زاروا منزل الرئيس الشهيد في مدينة ثلا التاريخية عن حادثة اغتيال شقيقها الغامضة قائلة أنه خرج من بيته بصنعاء لتلبية العزومة التي قتل فيها، واصفة خروجه ذاك بأنه لا يشبه أي خروج آخر، حيث قالت: "انتابني شعور بأني لن أراه حين جاء ليستأذنني، وبالفعل كان الأخير"، وتتابع: "انتظرت عودته، ولكنه تأخر، وجاء حراسه -لم يكونوا يعلمون حينها بمقتله- ليأخذوا قاته، ولما تأخر غادرت البيت وعدت إلى منزلنا بثلا وأنا حزينة وفي المساء سمعت من التلفزيون خبر استشهاده".

لم تستطع صفية سرد لحظات تلقيها النبأ الفاجعة، فتجاوزتها، ولم يشأ أحد أن ينكأ جراحها أكثر، وتسرد فقط ما تعرفه عن الاغتيال التي تقول إنها نفذت في منزل الغشمي بعد وصوله إليه تلبية للعزومة، حيث تفاجأ بأخيه عبد الله مقتولاً، وبعد قليل تم اغتياله هو أيضاً.

وتصف صفية شقيقها الشهيد عبد الله الحمدي قائد العمالقة حينذاك بالقائد الشجاع الذي كانت له هيبة ترهب حتى الغشمي نفسه، وذكرت شقيقته الصغرى أن حديثاً دار بين الشقيقين الشهيدين أمامها، حيث سأل إبراهيم عبد الله: "ماذا ستفعل لو تم اغتيالي"، فأجابه عبد الله: "سأنتقم لك من كل أعدائك"، لكن إبراهيم الذي لم تستهوه إراقة الدماء رد عليه: "أدعو الله أن تكون نهايتك قبل نهايتي، أو ننتهي معاً"، وهو ما كان، يقول إبراهيم عبد الرحمن الحمدي، ابن الشقيق الأصغر للحمدي: "كأن قاتلهما كان يعرف أن عبد الله سينتقم لإبراهيم، ولذلك اغتاله قبله"، ويتابع: "قال عبد الله لإبراهيم لو قتلوك سأجعل كل أم تلد طفلاً ينتقم لك".

لكن تلك علاقة الأخوة بين الاثنين لم تكن سائدة رسمياً، حيث تعامل إبراهيم مع شقيقه على أنه قائد عسكري وليس شقيق الرئيس، وبحسب إبراهيم عبد الرحمن، فلم يكن يسمح له بالصعود إلى المنصة أثناء العرض العسكري، ويأمره بمشاركة الجنود العرض كأي قائد آخر.

تتابع صفية الحديث عن شقيقها: "عاش إبراهيم قريباً من الناس، وأحبَّ اليمن أكثر من أي شيء آخر، وتجنب تعيين أقاربه في المناصب الحكومية، وتدلل على ذلك بزوجها محمد مهيوب الذي ينتمي لمحافظة تعز، لم يحصل على الوظيفة التي طلبها من إبراهيم في وزارة الخارجية، حيث قال له حين طلب الوظيفة، "اعمل حتى تصل لأي موقع بجهدك، أما أنا فلا أوظف أقاربي"، وتضيف إلى ذلك شقيقته الصغرى حكايته معها عندما كانت في المدرسة وترتدي ملابس عادية بينها حذاء رياضي، وتطالب شقيقها أن يكونوا مثل الآخرين على الأقل، لكنه يرد عليها بأنها ستكون طبيبة في المستقبل، والطبيبة لا بد أن ترتدي حذاءً رياضياً.

تقول شقيقة الحمدي أيضاً أنه بشرها بزيارة عدن قريباً، وأن حلم الوحدة كان همه الشاغل، وقبيل مقتله أخبرها أنها ستزور عدن، وأن اليمن ستصبح بلدة واحدة عما قريب، وكان على وشك زيارة عدن من أجل إجراءات تحقيق الوحدة، بيد أن ذلك لم يحدث، فالحمدي تحول من رئيس إلى شهيد.

زر الذهاب إلى الأعلى