أرشيف

الرئيس صالح يفكًر وحيداً

دعونا نتذكر وثيقة الإنقاذ التي صاغتها أحزاب اللقاء المشترك. تُستهل الوثيقة بمقدمة عميقة ومطولة حول خطورة حكم الفرد. بحسب الوثيقة المعارضة فإن جوهر المشكلة اليمنية هو وقوع اليمن تحت طائلة إرادة الفرد الواحد، حساباته، ورؤيته، حيث لا تقف إلى جواره مؤسسات افكر على نحو وطني استراتيجي، تطرح رؤى وتستثني أخرى، عبر عمليات منهجية وأخلاقية بمرجعية وطنية لا يطالها الشك. وطبقاً لأدبيات العلوم السياسية فإن حكم الفرد المُشار إليه هُنا هو “واحدية المؤسسة الحاكمة” التي تقع على النقيض من المؤسساتية المتعددة. والمؤسسة الحاكمة الواحدة هي، في هذه الحالة، مؤسسة الرئاسة. حتى مؤسسة الرئاسة لا وجود لها كنظام وظيفي مركًب. في كل الأوقات يظهر، ويوجد، ويفعل،فقط “الرئيس صالح”. قيل مثل هذا الكلام كثيراً وانفعل بسببه كثيرون، حتى ظهر هنالك من راق له أن يصف الوثيقة بأنها إنقاذ للقاء المشترك، كما على لسان الرئيس ذاته، بالرغم من أنه لم يشرح ما معنى الوثيقة ستنقذ اللقاء المشترك، ومن ماذا؟

قبل حوالي الثلاثة اشهر اجتمع الرئيس صالح برئيس البرلمان,رئيس مجلس الشورى ,رئيس مجلس القضاء الأعلى ,رئيس الوزراء وشخص خامس رئيس لجهة لا أتذكرها. قال أنة اجتمع بهم لأنهم يمثلون تلك المؤسسات الدستورية التي قامت من أجلها الثورة .وتحدث بثقه حول عزمه الأكيد على حماية هذه المؤسسات الوطنية الفاعلة والدستورية. حتى عندما قدم أوراقه للانتخابات الرئاسية 2006 تحدث عن هذة المهمة النبيلة .

حسنا،هذا المشهد يتناقض على مستوى جذري مع أطروحة اللقاء المشترك، والقوى المعارضة الأخرى .لن  نبحث  الحقيقة في المشهدين ,لأنه لا أحد يملك الحقيقة المطلقة باستثناء طائفة من الدوغماتيكيين الذين يجهلونها أيضا بنفس درجة أيمانهم بأمتلاكها. سنراجع معا بعض الوثائق التي توفرت لدينا – حتى الساعة- من موقع ويكيليكس لنطل على الصورة الخبيئة لطبيعة عمل السياسة اليمنية ,ومتاهاتها. لنستقصي مكانة تلك “المؤسسات اليمنية الدستورية” الفاعلة، ونتعرف على حجم الدور الذي تضطلع به في التعامل مع القضايا الخطرة المتعلقة بحاضر المجتمع اليمني ومستقبله.

في وثائق ويكيليكس لم تجد ذكراً للبرلمان اليمني.. ستجد إشارة  إلى موقف ما لنائب برلماني متعلق بقضايا يمنية ذات أهتمام امريكي ,وهذا أمر مختلف. رئيس البرلمان لا تشير إليه أي وثيقة أمريكية, فهو يقع خارج المشهد إجمالا. فيما يبدو فإن السفارة الأمريكية لا تهتم برصد مواقفة – وفي الغالب يتعذر العثورعلى مواقف  لرئيس البرلمان – كجزء من إهمالها الكلى للبرلمان كمؤسسة ذات فعل وحضور. ليس في هذا الحديث  الذي أسوقة أهانة للبرلمان أو رئيسه, هو فقط محاولة لتسليط الضوء على الدور الغائب لمجلس تشريعي يفترض أنة جاء عبر عملية انتخابية برامجية شاقة, وأصبح يمثل الهيرالدتريبيون “منبر الشعب”. تنظر مؤسسة الرئاسه لرئيس البرلمان كبُسطجي (عامل بريد) ولأعضاء البرلمان كفريق مشجعين, على الطريقة الأمريكية الشهيرة في تشجيع “الأميركان فوتبول”. وعلى حد علمي فحتى البرلمانيون يرددون علانية مثل هذه الأفكار. إن البرلمان غير ذلك بالطبع, ولكن هذا ما تفعله مؤسسة الرئاسة به.

في وثائق ويكيليكس يوجد “الرئيس صالح”. صالح فقط هو الذي يوافق, يرفض, يناور, يغضب, يتشكك, يخطط, يتأني, يمتعض, يتملص, يتململ, يسخر, يهدد, يفكر, يقرر, يعرض, يسمح, يتلكأ, يلح, يريد, يطلب, يتنفس بصعوبة….إلخ. وفي كل الاحوال لا يقول صالح للأمريكان, ولا يقول الامريكان عن صالح, إنه إنما يعبر عن الإرادة اليمنية عن مواقف المؤسسات الدستورية, عن رؤية استراتيجية يمنية استشرافية ,عن مصالح فوق شخصية ورؤى ذات أصالة وطنية خالصة. كل تلك مجرد مواقف واستجابات “الرئيس صالح” التلقائية والتقليدية. نحن لا نتحدث عن وطنية الرجُل بل عن الوطن الذي يُدار من خلال رجُل. لكن الوثائق تقول إنه في كل أحواله لا يمثل واجهة مؤسساتية عريضة تفكر بشكل جماعي لكي تتفادى الوقوع في الكارثة. إقناع “صالح” بفكرة ما يعني إقناع اليمن, وموافقة صالح على مشروع ما يعني موافقة اليمن. كما أن تقدير صالح لمجازفة بعينها يعني تقدير اليمن, لكن المصالح التي يتوقعها “صالح” من فعل بعينه – دخول السعودية في حرب الحوثيين, على سبيل المثال – لا يستطيع أحد القول إنها. “مصالح اليمن”. أما خطأ صالح الكارثي في تقدير خطورة فعل أو موقف سياسي أو أمني متعين فإنه يصبح خطأ اليمن, وعلى 24 مليون نسمة أن يجنوا النتائج المرة لخطأ فرد واحد. هذا ليس رأيا أعزل أسوقه على هوى, أنه تلك الخلفية المخيفة للمشهد الذي أجادت وثائق ويكيليكس تصويره!

صالح وحيدا, مثل السيف. لكنه سيف بلا غطاء. حتى أصحابه, الذين أصيبوا بالشلل بسبب من طبيعة أفكاره المهيمنة, فقد تحول بعضهم إلى جواسيس يعمل لدى السفارة الامريكية, ستبدو هذه التهمة ساذجة ومثيرة للضحك لو أنها صدرت عن كاتب صحفي. لكن حين تنص الوثائق على معلومات ذات محتوى لا يسرالرئيس صالح, وتشير  إلى مصادرها السرية التي تصفها بشديدة القرب من الرئيس, وترمز لها بالكود(xxxxx),فأنالأمر لن يضحك بعد ذلك أحدا .

في كل أفعال صالح التي تشير اليها الوثائق الأمريكية المسربة لا توجد إشارة لموقف الأمة اليمنية، مصالحها واحتياجاتها، خلف هذع الأفعال. يوجد صالح ولا توجد استراتيجية الدولة اليمنية. تغيب الأمة ويحضر الفرد . وحتى هذا الفرد، البشر الخالص ,لا يوجد ما يشير إلى أنه يدرس بعناية مواقفه التى ستسمى فيما بعد الموقف اليمني .وثائق كثيرة تشير إلى أنة كان يقول الشيء ونقيضه في لقاء واحد وأحيانا كان يحدث أن يمزج بين أكثر من ثلاثة منتاقضات في نصف ساعة. لأنه يفكر لوحده ,ويفعل كل شيء لوحده, ويركن 24مليون يمني في حجرة مظلمة فإن كل تلك النتائج السالبة تحدث.فهو لديه سيديهات لشباب حوثيين يتدربون على يد مقاتلي حزب الله, ويقول للأمريكان. هذه السيديهات، طبقا للرئيس صالح, توجد لدى جهاز الأمن القومي.في اللقاءات التالية مع الأمريكان سيسوق الرئيس صالح ذات الفكرة بالرغم من أن وكيل جهاز الامن القومي قد أكد لهم عبر قنوات أخرى بأن جهازه لاعلم لديه بهذا الأمر. سيتأكد الأمريكان من هشاشة فكرة التدخل الإيراني في صعدة, لكن صالح سيستمر في القول إنهم وجدوا أدلة جديدة ودامغة, وأنها منظورة أمام المحاكم. وفي النهاية سيقتنع الأميركان بعبثية الحرب، بعد أن أدركوا جيدا أن مخطط الحرب “صالح” ليس لديه أهداف واضحة فيها. سيبلغ الملل الأمريكي أقصاه وسيقول له الأميركان بلغة شديدة الوضوح :إن أمريكا تريد أن ترى نهاية فورية لهذه الحرب.على هذه الصورة ستنتهي الحرب ,وسيكون “الرئيس صالح” سببا مباشرا في خروج ثلاث محافظات عن سيطرة الدولة المركزية. الرئيس صالح هو السبب،  وليس الحوثي. لقد كان الحوثي يصلي على طريقته في جبل مرًان لكن الحروب الغريبة جلبته إلى ثلاث محافظات. وعندما أصدر اللقاء المشترك, مبكرا,بيانا طالب فيه السلطه بتوضيح أسباب الحرب.

بادرهم الرئيس بخطاب شديد القسوة قال فيه أنه على وشك أن يعطي التوجيهات للجنة شؤون الاحزاب للنظر في مدى شرعية تلك الأحزاب صاحبة ذلك البيان!

الرئيس صالح، طبقا لوثيقة مهمة، لم يعد يطالب الاميركان بالقمح كما فعل مع جيمس بيكر 1990. لقد اصبح يطلب السلاح, السلاح فقط. وفي وثيقة أخرى ظل صالح يكرر للمسؤولين الأميركان:هيليوكابتر,هيليو كابتر, هيلوكابتر. وبالرغم من أن الموضوع غالبا ما يكون حول تنظيم القاعدة إلا أن صالح كان يطرح أمر تجهيز فرقة من الحرس الجمهوري ودعم القوات الخاصة. يرتبك الاميركان فهم يشعرون أن الرجل يستغل أمورا شديدة الحساسية في الحديث عن مواضيع ذات صلة. هكذا تقول وثائقهم. يفكر صالح, كما يعتقدون, بأمر بعيد المدى شديد الخطورة: تقوية جناح في الجيش اليمني مقابل أضعاف جناح أخر. حتى القضايا شديدة الحساسية لا ينسي الرئيس صالح أن يستعملها على طريقته لإنجاز مشروعه الخاص, تمكين “بدر البدور”! إن هذه الصورة القلقة تقع خارج الأمرين: المؤسساتية, والمصلحة اليمنية. لكنها تحدُث. إنكم تدركون أكثر مني أنها تحدث. بديهي أن نلاحظ أن المؤسسات الدستورية التي قامت لأجلها الثورة, ولا يفتأ الرئيس صالح يهدد أولئك الذين يشككون في طبيعتها وفاعليتها, غائبة تماما. دعونا نتذكر أن البرلمان عقد اولى جلساته بعد 54 يوما من انفجار الحرب السادسة. أما رئيس مجلس الوزراء فلم يقطع مصيفه في فرنسا إلا بعد أن تجاوزت الحرب أسبوعها الثاني.

في وثائق ويكليكس تجد مسميات على شاكلة: الإدارة الأمريكية، السعوديون، الإيرانيون, وحتى القاعدة والحوثيون. وفي المقابل تجد: الرئيس صالح. لا وجود لليمنين, ولا الإدارة اليمنية. ذات مرًة ابتسم الرئيس صالح ثم قال بثقة وطمأنينة: إذا كانت المعارضة تقول إن الرئيس هو من يدير الأقتصاد والسياسة والتعليم الأمن والصحة فهذا شرف للرئيس لأنة يهتم بكل شيء قال هذا المعنى بلغته هو. ألامر لا يتعلق بالشرف والوطنية والحرص. انة يتعلق بالإحساس البشري العميق الذي يشكك في وجود الرجل السوبرمان، ولا يركن الي مهارته الكلية، ولا الذي يؤمن بالبشري المتفوق على الطبيعة. يقول الإنجليز أن الذي يلعب كل الأدوار وكل المهام لا ينجح في أي منها. وفي مقدمة لواحد من أشهر المراجع النظرية الطبية تجد هذه العبارة: من الرائع أن تلاحظ كم من الطب يمكنك أن تمارس بأقل قدر من المعرفة والمعلومات. لكنه ليس رائعا بالمرة أن تلاحظ كم ألأخطاء والكوارث التي سترتكبها!

في أكثر من مرة قال الأميركان للرئيس صالح حسنا سندرس هذا الامر. لن ينقل الأمريكان عن صالح قوله أنة سيدرس أمرا ما. كان يقول مباشرة اشياء مباشرة, وبلا حاجة لدراسة اي شيء! إنة لم يشر, ولا لمرة واحدة، إلى أن اليمن يوجد فيها (أشخاص , مؤسسات) تجدر مشاورتهم أو الاستماع إلى رأيهم، فخارج الرئيس صالح لا وجود لليمنيين, يوجد فقط يمن بلا ملامح ورئيس واضح القسمات. في مواضع أخرى نجد الأميركان يشيرون إلى أنهم “تباحثوا , فكروا , تشاوروا”. وهي أفعال لا تعثر عليها في ما نقل عن مواقف الرئيس صالح. وعند اللحظة اليتيمة التي جرت الإشارة فيها إلى البرلمان اليمني فقد أثارت تلك الإشارة موجة من الضحك الإرستقراطي المتعالي بين المجتمعين في قصر الرئاسة. وحضر البرلمان بوصفة المغفل المكذوب/ المضحك علية. لقد كان ضحكا كالبُكاء, سيقول التاريخ. من المناسب، عن هذة النقطة, أن نعود إلى بداية المقالة: لدينا مقدمة وثيقة الإنقاذ, التي جعلت من واحدية المؤسسة الحاكمية, بفردانيتها وذاتويتها وتركزها في شخص الرئيس صالح, اساسا ماديا في نشوء المشكلة اليمنية العُظمى. وعلى النقيض لدينا ذلك الخطاب التقليدي الديماغوغي عن المؤسساتية والإرادة الشعبية والدستورية. قلت في البداية لن نتحدث عن الحقيقة, سنطرح فقط جملة من الحقائق أمام القارئ كمحاولة, ومشاركة,في التفكير الجماعي العلني المسؤول .

المصدر:صحيفة المصدر – مروان الغفوري

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى